ب- المناخ البيئي الذي عاشَ فيه صقر
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وما قبل النصف الأول من القرن العشرين، كانت دولة الكويت تعيش في حقبةٍ من القحط، إذ لم يكنِ النِفط مكتشفًا بعد. كان أهلها البسطاء يعتمدونَ على التجارةِ البحريّة وما أنعم سبحانه وتعالى به من صيدٍ ودر بأعماقِ البحر. لم تتوفر أيّة مؤسساتٍ تعليمية بمعناها الحديث، وإنما مدارس غير نظامية، صغيرةَ الحجم، فيها يُعلّمُ القرآن الكريم وأحكامه، إضافةً إلى أساسيّاتِ قواعد اللغة العربية، ومبادئ الحساب تسمى بـ"الكتاتيب"، بينما المعلّم كان يُطلق عليهِ "المُلَّا" أو" المطوّع" ، كانَ هؤلاءِ يسترزقونَ بعملهم هذا، أمّا التلاميذ المتخرجون فقد كانوا يسعونَ لكسبِ الرِّزق من خلالِ العملِ لدى التُّجارِ الكِبار خارج الكويتِ أو بداخلها، ممّن عملوا في التجارةِ البحريّة والبريّة.
وفي ظل افتقار الكويت للمؤسسات والموارد التنموية والمعيشية آنذاك، بزغَ جيلٌ من رواد الأدبِ فيها من صميم المدارس التقليديّة، والبيئة الشعبية، جيلٌ سعى للنهوضِ بالمجتمعِ وقيادةِ الفكر، لكي يحققَ حاضرًا مُزهرًا، ومستقبلًا بهيًا، حتى تؤول الأحوال العامة في البلد إلى تقدّمٍ متنام، فرسَّخَ أولئك إنتاجهم الأدبيِّ في الحث على تطوير الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الكويت على وجه الخصوص، كونهم من أبناء تربتها، الأمر الذي أدى إلى نَعتِهم بالرواد.
ولكنَّ الدعوة لتغييرٍ جذريٍّ كهذا، ليست بالأمر الهيِّن، الأمرُ الذي أدّى إلى حدوثِ صدامٍ في الأفكارِ والأهواء، وجدالٍ مستعصٍ بين طرَفٍ وآخر، انعكس على البيئةِ المحليّة، ونتجَت عنهُ صراعات بين شدٍّ وجذب، وأخذٍ وردّ، بين هذا وذاك.
من هُنا نستطيعُ الدخول في الموضوع من خلال ما حفظهُ لنا التاريخ عن تلك الحقبة، إذ تجدُرُ الإشارةُ أن من وقفَ بوجهِ النهضويين لم يكونوا كلّهم أصحابَ فكرٍ أو ذوي حُجَّة، فمنهم أفرادٌ وُصفوا بالـ"متزمّتين"، كما اتضح لنا في أكثر من موضع، أنهم قساةٌ في الحكم على مخالفيهم، ومنهم من استغلّ التقاليد السائدة في المجتمع لأغراضٍ فاسدة، وكثيرًا ما طاوعهم العوام لجهلهِم وقلةِ علمهِم وتعوّدهم على ذلكَ الحال، فالبيئة تطبع على المجتمع بطبعها.
في البيئةِ ذاِتها برزَ شاعرٌ من رُوادِ الحركةِ الأدبيّة في الكويت، مثَّل الرؤى والتطلعاتِ النهضوية، اتسمَ بالشجاعةِ الأدبيّة، واصطدم بمخالفي الدعوة، فخاضَ معهم معركة كلامية استمرت لعقود. وبنفس الوقت كان الشاعر ذاته رقيق الحس، ضرير البصر، غريب في قومه كصالحٍ في ثمود، فكان لتداعياتِ موقفه الدَّعويِّ الثائر أثرٌ وُجدانيٌّ عميق في نفسِه؛ ذلك هو شاعرنا صقر الشبيب الملقب بـ"معرّي الكويت" .
يتبع...
|