فهد العسكر
«كُفّي المَلاَمَ وعلّليني»
اتهموه بالزندقة والإلحاد والكفر
لم يكن يعطف عليه سوى أمه
وقد أصيب بالعمى
ومات وحيداً في حجرة صغيرة في سوق واقف
تبرأ منه الأهل والأصحاب وأحرقوا قصائده
___________
فهد العسكر
فهد العسكر
ولد في عام 1917م ، وترعرع في مجتمع محافظ متدين، حاول أن يتمرد بشعره على العادات التي كان يعتبرها عادات خاطئة وبالية لذلك توجهت إليه أصابع الاتهام تدينه بالكفر والفسق والخروج عن التقاليد والعادات السائدة حتى نبذه الجميع وكانوا أقرب الناس ومنهم أسرته وأصحابه فيما عدا والدته التي ظلت تواصله وتمده بكل ما يحتاج تحمل له بين دموعها علامات العتب واللوم راجية الله أن يمنّ عليه بالهداية.. غصة كانت في صدرها وعبرة تفترش عينيها بعدما نبذ الجميع ولدها وأحرقت الأسرة شعره واتهموه بأصعب التهم ، وقد أصيب بالعمى وانتهى به المطاف إلى غرفة متواضعة كأنها زنزانة حبس بها نفسه محاطاً بظلمتها ومحاصراً بمرضه حتى شبهه البعض بالشاعر أبي العلاء المعري (رهين المحبسين).
ويعد فهد العسكر في طليعة شعراء الكويت المجددين في الشعر وقد أثرت حياته التي كانت عبارة عن سلسلة من الآلام والأحداث على شعره ونبهت إحساسه وأرهقت مشاعره وأقلقت نفسيته وجعلته حاد العاطفة ومن يقرأ شعره يحس بمرارة الأيام وقساوة الحياة التي كان يحس بها الشاعر لذلك عاش بائساً حزيناً محبطاً وغادر الحياة وهو لا يزال بالبؤس وشعره يزفر بالشقاء والعناء والحرمان والغربة والوحدة التي كان يشعر بها بعد أن فقد بصره واتهم بالزندقة والإلحاد حتى جفاه الأهل والأقارب والمجتمع بكل شرائحه على الرغم من لهفتهم لقراءة شعره الذي طالما غنى فيه فأطرب وناح فأبكى وأنشد فأعجب.
فهد العسكر مدرسة أدبية ذات فكر متحرر لا تؤمن بالأوضاع الموروثة وتتجه نحو التجديد في الشعر الذي ضمنه الشاعر سخطه على متطلبات الدنيا وانتقاده للأعراف والمجتمع الذي عايشه وحنقه عليه صار منبوذاً ومات تعساً يعاني الشؤم والحرمان وتضمنت قصائده الشكوى من الناس ومما يعاني من وحدته التي اضطر اضطراراً إليها وأجبر إجباراً عليها ولو قرأنا هذه القصيدة «شهيق وزفير» التي نظمها عام 1946م قراءة واعية نرى مدى ما يعانيه من ضيق وبؤس وحرمان.
القصيدة «شهيق وزفير»
كٌفي الملام وعلليني
يبدأ بالتوسل إلى أمه ألا تعاقبه وتلومه:
كُفّي الملامَ وعلّليني
فالشك أوْدى باليَقينِ
وتناهبَتْ كَبدي الشُّجُونُ
فمنْ مُجيري مِنْ شُجوني؟
وأمَضَّني الدَّاءُ العَيَاءٌ
فمنْ مُغيثي؟ مَنْ مُعيني؟
أينَ التي خُلقَتْ لِتَهْواني
وبَاتَتْ تجْتويني؟
أُماهُ قدْ غلبَ الأسى
كُفِّي المَلامَ وعَلِّليني
اللّهُ يا أماهُ، في
ترَفَّقي، لا تَعْذُليني
أَرْهقْتِ رُوحي بالعِتابِ
فَأَمْسِكيهِ أوْ ذَريني
أنا شاعِرٌ، أنا بائِسٌ
أنا مُسْتَهامٌ، فاعْذُريني
أنا من حَنيني في جَحيمٍ
آه مِنْ حَرّ الحَنين
أنا تائِهٌ في غَيْهَبِ
شَبحُ الرَّدى فيهِ قريني
ضاقَتْ بي الدُّنْيا دَعِيني
أَنْدُبٌ الماضي، دَعيني
وأنا السَّجينُ بِعُقْرِ داري
فاسْمَعِي شَكْوى السَّجينِ
بِهُزالِ جِسْمي باصْفراري
بالتَّجَعّدِ بالغُضُونِ
يقول يعاتب الوطن عتاباً مفرطاً بالحزن والأسى:
وَطَني وَمَا أقسى الحَياةَ
بِهِ عَلى الحُرِّ الأمِينِ
وأَلذُّ بينَ رُبُوعِهِ
مِنْ عيشَتِي كَأْسُ المنونِ
قَدْ كُنْتَ فِرْدَوْسَ الدَّخيلِ
وَجَنّةَ النَذْلِ الخَئونِ
لَهفي على الأحْرار فيك
وَهْم بأعْماقِ السُّجون
ودُمُوعُهُمْ مُهَجٌ وأَكْبادٌ
تَرَقْرقُ في العُيونِ
ما راعَ مِثْلُ اللَّيْثِ يُؤْسَر
وابْنُ آوي في العَرينِ
والبُلْبُلُ الغرّيدُ يَهْوي
والغُرابُ على الغُصُونِ
وطني وأَدْتُ بكَ الشَّبابَ
وكُلَّ ما مَلَكَتْ يميني
وقَبَرْتُ فيك مَواهِبي
واسْتَنْزَفَتْ غُلَلي شُؤوني
ودَفَنْتُ شتَّى الذِّكْرياتِ
بِغَوْرِ خافِقِيَ الطَّعِينِ
وكسَرتُ كأْسِيَ بعدَما
ذابَتْ بأَحْشائي لُحُوني
وسَكَبْتُها شِعْراً رَثَيتُ
به مُنى الروح الحَزينِ
وَطَوَيْتُها صُحُفاً ضنَنْتُ بِها
وَمَا أنا بالضَّنينِ
ورَجِعْتُ صِفْرَ الكَفِّ منْظوياً على سرٍ دفينِ
فَلأنت يا وطني المدينُ
ومَا هزارُك بالمدينِ
+++++++++++++
وطَني، وَمَا سَاءَتْ بِغيْرِ بَنِيكَ
يا وطني ظُنُوني
أنا لمْ أجدْ فيهمْ خَديناً
آهٍ مَن لي بالخدينِ
وَا ضَيْعةَ الأملِ الشّريدِ
وخَيْبَةَ القَلْبِ الحَنونِ
رَقَصُوا على نَوحي وإعْوالي
وأَطْرَبَهمْ أنِيني
وتَحَاملُوا ظُلْماً
وعُدْواناً عَليَّ وأَرْهَقوني
فَعرفْتُهُمْ، وَنَبَذْتُهُمْ
لكنَّهُمْ لم يَعْرِفُوني
وهُناكَ مِنْهُمْ مَعْشَرٌ
أُفٍّ لَهُمْ، كَمْ ضَايَقُوني
هذا رَماني بالشُّذُوذِ
وذا رَماني بالجنونِ
وهناكَ مِنْهم مَن رَماني
بالخَلاعَةِ والمٌجونِ
وتَطاوَلَ المُتَعصّبون
وما كَفَرْتُ، وكَفّروني
وأَنا الأبِيُّ النَّفْسِ
ذُو الوِجْدانِ والشَّرَفِ المَصُونِ
اللّهُ يَشْهَدُ لي ومَا
أنا بالذَّلِيلِ المُسْتَكِينِ
لا درَّ درَّهُمُ فَلوْ
حُزْتُ النُّضارَ لألَّهُوني
أوْ بِعْتُ وِجْداني بأسْواقِ
النِّفاقِ لأَكْرَمٌوني
أوْ رُحْتُ أَحْرِقُ في الدَّواوِينِ
البُخورَ لأَنْصَفُوني
فَعَرِفْتُ ذَنْبي، أنّ كَبْشي
ليسَ بالكَبْشِ السَّمِينِ
يا قَوْمُ كُفّوا، دينُكُمْ
لَكُمُ، وَلي يَا قَوْمُ ديني
وهنا يتوجه إلى (ليلى) الرمز الشعري لمن يحب:
ليْلايَ، يا حُلْمَ الفُؤادِ الحُلْوَ
يا دُنيا الفُنونِ
يا ربَّةَ الشَّرَفِ الرفيعِ البِكْرِ
والخُلُقِ الرَّصينِ
يا خمْرَةَ القَلْبِ الشَّجٍِي
وحُجَّةَ العَقْلِ الرَّزينِ
صُنْتُ العُهُودَ وَلَمْ أحِدْ
عَنْها، فيا ليلايَ صُوني
عُودي لِقَيْسِكِ وشَاطِريهِ
الحبَّ بالدَّمْعِ السَّخِينِ
عُودي إليه، واسْمَعِي
نَجْوَاهُ في ظِلِّ السُّكونِ
فَهُوَ الذي لِهَواكِ ضَحّى
بالرَّخِيصِ وبالثّمِينِ
ليلى تعالي زَوِّديني
قَبْل المَماتِ وَوَدِّعيني
ليْلايَ لا تَتَمنَعِي
رُحْماكِ بي لا تخْذُليني
لَيْلَى، تعالي واسْمَعي
وَحيَ الضَّمِيرِ وحَدِّثيني
ودَعِي العِتَابَ إذا الْتَقَيْنا
أوْ فَفي رِفْقٍ وَلينِ
لِمَ لا وعُمْرُ فتَاكِ أطْوَلُ
مِنْهُ عُمرُ اليَاسَمينِ
للَّه آلامي وأوْصابي
إذا لَمْ تُسْعِفيني
هَيْمَانَ كالمَجْنُونِ أخْبِطُ
في الظَّلام فَأخْرجيني
مَتَعَثِّراً نَهْبَ الوَسَاوِسِ
والمَخَاوِفِ والظّنونِ
حَفَّتْ بي الأشْبَاحُ صارِخَةً
بربِّكِ أنْقذيني
واشْفي غَليلي وابْعثي
مَيْتَ اليقين ودلّليني
ليْلى إذا حُمَّ الرَّحِيلُ
وغَصَّ قَيْسُكِ بالأنينِ
وَرَأَيْتِ أحْلامَ الصِّبا
والحُبِّ صَرْعى في جُفُوني
ولَفَظْتُ روحِي، فاطْبَعِي
قُبَلَ الوَداعِ على جَبيني
وإذا مََشَوْا بِجَنازَتي
بِبَنَاتِ فِكْري شَيِّعيني
وإذا دُفِنْتُ فَبَللي
بالدَّمْعِ قَبْري، واذْكُرِيني
في هذه القصيدة نسمع صرخة من صرخات فهد في الشكوى وهو يبدأ فيها الكلام إلى أمه لأنها كانت تلومه مع اللوام على تعديه على المجتمع وتقاليده رغم أنها كانت هي الوحيدة التي تعطف عليه عطفاً شديداً كما ذكرنا في المقدمة وكانت الوحيدة التي تعطف عليه هذا العطف وخاصة بعدما أصيب بالعمى، وفي هذه القصيدة نرى صورة واضحة لحالته النفسية وتعبه الروحي وما كان يعانيه يحز في نفسه من تبرؤ أبناء وطنه منه ومضايقتهم له وفيها أيضا يشفق على الأحرار منهم المتألمين بصمت مما يقاسونه من غربة في وطنهم الذي أصبح وطناً للدخلاء والأجانب الوافدين من الخارج لمضايقة المواطنين في لقمة العيش بالتزلف والنفاق والسرقة والنصب ليبتلعوا خيرات هذا البلد.
ثم يذكر الذين اتهموه بالكفر والمجون ويختم قصيدته بآهات حارقة تنطلق من صميم روحه الممزقة.
ولفهد العسكر قصائد كثيرة تغنى بها الكثير ومنها قصيدة شكوى:
قومي اسمعي يا بنت جاري
شكوي الهزار إلى الهزار
شكوى الحبيس المستجير
من الطليق المستطار
شكوى صريع الكأس كأس
الصاب لا كأس العُقار
يا ابن النهار وكم شكا ابن
الليل من طول النهار
وله أيضا قصائد أخرى لا تقل روعة عن هذه القصائد وأهمها قصيدة «البلبل» التي لا يسعنا المجال لعرضها ولكننا اخترنا قصيدة «شهيق وزفير» لما لها من معانٍ وأثر في نفوس محبي الشعر والتي تغنى بها المطربون أمثال «شادي الخليج».
فهد العسكر والشهرة:
لم يكن فهد العسكر شاعراً عادياً فقد ظهر خلال الإرهاصات التاريخية التي كانت تعج في المنطقة وقد رشحه نتاجه الشعري الغزير الذي لم يتبق منه إلا القليل بعد حرقه المتعمد من أسرته بسبب تناقضه مع المجتمع رغم ما وصل إليها من قصائد قليلة إلا أن فهد العسكر رشح لأن يكون في مقدمة شعراء جيله في الكويت والخليج والوطن العربي وكان من الممكن أن يكون له باع كبير لو أنه حرص على نشر أشعاره ولهث وراء الشهرة إلا أنه لم يكن ميّالاً إلى نشر قصائده في الصحف أو المجلات وربما يرجع ذلك إلى أن هذه القصائد لا تستحق النشر رغم أنه كانت لديه مجموعة كبيرة من القصائد أعدها للطبع كما أخبر الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري شخصياً عندما قام بزيارته وأخبره أيضاً عن خوفه وتردده من طبع بعض القصائد لكي لا يسيء الناس الظن بها وهو لا يحب أن يثير خواطرهم لذلك سيتركها للزمن.
ظل العسكر زاهداً بالنشر والانتشار وكان ذلك سبباً في تأخر مكانته الإعلامية والثقافية وكان السبب في ذلك أنه ظهر في بيئة منغلقة على نفسها مقارنة ببعض البيئات العربية المنفتحة كما أن تعرضه للرفض الأسري والاجتماعي وتعرضه للمرض وفقدان البصر ساهم على تغييب صورته على مشهد الشعر العربي رغم انتمائه لهذا المشهد وتأثره بالتيارات الشعرية العربية السائدة ورغم تجديده ورفضه لكل ما هو قديم
