السدرة (20)
الدستور والديموقراطية يتعرضان الآن إلى مخاطر
يبدو انني سأواصل فتح صفحات مجهولة من أنشطة جمعيتنا، أوانشطة الكويت بالأحرى في مضمار العمل الإنساني، لم يذكر عنها إلا القليل في وسائل الإعلام، وإن ذكر جاء مختصراً وعابراً. وأعود إلى الوراء، إلى جهودنا خلال الحرب في البوسنة والهرسك مع بدايات تمزيق دولة الاتحاد اليوغسلافي في عام 1992.
كانت المأساة الإنسانية التي تولدت من حرب التمزيق صارخة تستصرخ كل ضمير. مشردون في كل مكان نساء وأطفالا ورجالا، وقرى تحرق، ومجازر يتعرض لها المدنيون من مختلف الأعراق والديانات.
في هذا الجو قمت بجولة تفقدية شملت المركز الإسلامي ومخازن تموين اللاجئين من البوسنة والهرسك في زغرب عاصمة كرواتيا، وبعض مخيمات اللاجئين في ضواحيها، وفي المناطق القريبة من حدود البوسنة والهرسك، من بينها معسكر فازردين الذي ضم 1000 لاجئ تقريباً. وتحدثت مع غالبية اللاجئين، من النساء والأطفال، في هذا المعسكر الأخير، فوجدت لديهم تقديرا وامتنانا لما تقدمه الكويت حكومة وشعبا وجمعيات خيرية لهم في محنتهم. وهو ما كنا نقدمه بتعليمات من سمو الشيخ جابر الأحمد، رحمه الله.
رسالة هاتفية
جاءت زيارتي هذه لتقديم تبرعات جمعيتنا للاجئين إلى كرواتيا لأن الوضع الأمني والعسكري لم يكن يسمح بدخول العاصمة ساراييفو المحاصرة من كل الجهات. وهنا عقدت اجتماعاً مع نائب رئيس جمهورية البوسنة والهرسك، سالم شابيتش، وخلال اجتماعي به نقل إلي رسالة هاتفية من ساراييفو، من رئيس الجمهورية علي عزت بيغوفيتش موجهة إلى أمير الكويت والشعب الكويتي وحكومته تشكرهم على تضامنهم ودعمهم المالي والسياسي.
وتحدثت أمام ممثلي جمعية الهلال الأحمر البوسني والمنظمات الإنسانية الأخرى، مؤكداً لهم أن الشعب الكويتي يدرك أكثر من غيره معنى الاحتلال والتشرد، ولذا من الطبيعي أن يقف إلى جانب شعب البوسنة والهرسك في محنته الحالية. ثم قدمت إلى نائب الرئيس شيكاً بتبرعات جمعيتنا كمساعدة إنسانية لحوالي مليون مسلم شردهم العدوان الصربي.
مبادرة الأمير
وفي يونيو من العام نفسه، قدمت، في لقاء مع وفد رسمي يمثل رئاسة وحكومة البوسنة والهرسك، وضم سالم شابيتش وحسن شنقيتش ود.عزت آغا نوفتش رئيس مؤسسة المرحمة الاسلامية الخيرية، مبادرة أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح، باقامة مشروع خيري لمساعدة ضحايا ومنكوبي البوسنة والهرسك من الأرامل والأطفال. ويقتضي المشروع اقامة مخيم أو معسكر يحمل اسم الكويت لايواء واحتضان عدد من الأرامل والأيتام.
لم يكن هذا المشروع بدعا في مضمار المساعدات الكويتية، فكل مشاريعنا تقريبا نحرص على أن تكون نوعا من العمل الانساني الذي يواصل عطاءه وخيره ولا يتوقف عند حد تقديم وجبة غذاء لمحتاج، بل يتجاوزها الى تقديم وسائل تحصيل العيش، أو شبكة صيد بتعبير المثل الصيني، لا سمكة.
عام التسونامي
وهذا ما حدث على نطاق واسع في عام 2001، عام التسونامي الشهير. لم أكن اعرف معنى هذه الكلمة، وسألت خالد محمد الخالد الزيد، زوج ابنتي، فأخبرني أنه زلزال في البحر. واتصلت بالأخ الشيخ ناصر المحمد ورويت له ما حدث. كانت أكثر المناطق تضررا من هذه الكارثة هي أندونيسيا وتايلند وسريلانكا والهند. وتم تحويل مبلغ 400 ألف دولار كمساعدة للهند، أما بالنسبة لتايلند، فقد ذهبت مع سعد الناهض ود. هلال الساير الى سنغافورة، وهناك طلبوا منا معدات لفتح الطرق الى 150 قرية دمرهـا الزلزال، واشترينا معدات نقل وجرافات وشحناها. وفي سومطرة حيث وصلنا، رأينا مشاهد دمار مخيفة جدا، مثل مشهد يخت ألقت به الأمواج على الطابق الثاني من بناية، وطلبوا منا توفير المياه فاتفقنا مع شركة سنغافورية ووزعنا المياه على امتداد الطريق. والتقينا بسفيرنا في العاصمة الأندونيسية لمناقشة تفاصيل مشروع المساعدة الاغاثية قررنا بناء قرية باسم سمو الأمير جابر الأحمد رحمة الله عليه، كما أنشأنا محطة تقطير مياه للشرب.
عمل طويل الأمد
كان تفكيرنا، كما هـــو دائما، ارساء عمل اغاثي طويل الأمد يقوم على الانتاج وليس على تقديم مواد غذائية فقط، وستكون استفادة اللاجئين من هذه القرى مستمرة، بل وستتوارثها أجيال وأجيال. اضافة الى ما سيرسله مشروع الخير هذا الفريد من نوعه من أصداء ايجابية، سواء في الكويت أو أندونيسيا أو العالم، وسيخلد اسم الكويت في مجال الاغاثة ومساعدة الدول المنكوبة.
تجربتنا مع البوسنة والهرسك ثم مع كارثة تسونامي لم تكن هي الأولى بالطبع، فقد كان لنا حضور في مناطق الكوارث الطبيعية والانسانية على امتداد السنوات الماضية. أذكر من ذلك دورنا في كوسوفو الذي لم يبرزه الاعلام رغم أنه كان دورا بارزا، فهناك أنشأنا منازل بتكلفة 600 ألف دولار، وكذلك فعلنا في تركيا بعد الزلزال الذي حل في بعض مناطقها. ولم نغفل نداءات الصليب الأحمر الدولي ومنظمات الاغاثة الانسانية الى مساعدة أهالي دارفور السودانية، وتقدمنا عن طريق الهلال الأحمر السوداني، ولكن خشيتنا من ذهاب المساعدات الى جانب دون آخر، دفعتنا الى ارسال مساعداتنا عن طريق تشاد، وكانت مساعدات لا نعرف هل وصلت الى مستحقيها أم ضاعت في طريق مكتظ بالقبائل والعصابات. ولم نستطع ارسال مساعداتنا الى دارفور مباشرة حتى بعد أن أرسلنا وفداً وشاهد المأساة هناك على الطبيعة. ووصلنا حتى الى الولايات المتحدة في أعقاب اعصار كاترينا.
لقد وصلنا الى أقصى الأرض شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، ولا توجد بقعة في العالم لم نصل اليها.
تجاوز الحساسيات
في هذا المسلسل الطويل المتواصل من تثبيت وترسيخ صورة الكويت الانسانية، سيلاحظ أي قارىء أننا كنا نتجاوز الكثير من الحساسيات السياسية والشخصية، ونصل الى من يحتاج الى اغاثة ومساعدة بغض النظر عن جنسيته ومذهبه ودينه وبلده، بل وحتى حتى لو اعترض طريقنا معترض أو منتهز فرصة من الذين ينكرون على الكويت مكانتها، ولايتركون فرصة دون الطعن في مواقفها أو تشويه صورتها.
كنا نحرص على دورنا الانساني أولا، وعلى وصول مساعداتنا الى من يستحقها، ونبذل جهــدنا حتى لا تقــع مساعداتنا بيـــد منتهزي فرص للاثراء على حساب المحتاجين والضعفاء والمساكين، في العــراق وفلسطين ولبــنان والسودان.. وفي كل البلدان التي سارعنا الى واجبنا تجاه محتاجيها.
ضجة في الأردن
لقد كانت جمعيتنا المبادرة دائما للقيام بواجبها الانساني في أي مكان سواء داخل الكويت أو خارجها. ولعل قصة الضجة التي أثارتها صحف أردنية وأعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني في فبراير من عام 1997، وزعمت فيها أن هناك اساءة معاملة للسجناء الأردنيين في السجون الكويتية، هي قصة من القصص التي تستحق أن تروى، لأن دور جمعيتنا في جلاء الصورة واظهار الحقائق وفصلها عن المزاعم المختلقة للاثارة والتشويه كان دورا مهماً، وسيحفظ لنا وللكويت تصرفاً انسانيا قل نظيره في بلدان عربية أخرى.
حين بدأت تتصاعد هذه الحملة التي لانشك أنها مدبرة ضد الكويت لأسباب بعضها يتعلق بموقفها من رفض ابتزازها مالياً، ورفض التعامل مع جهات بعينها في السلطة الفلسطينية والأردن، قامت جمعية الهلال الأحمر الكويتي بتحري الحقيقة وأثبتت مجدداً ما تحظى به من مكانة في بلدها وخارجها. وطلبت من السلطات الكويتية السماح لوفد منها بزيارة السجن المركزي للتحقق من صحة ما يثار من تقارير صحفية. وبالفعل سارعت السلطات الى تلبية الطلب وفتحت الأبواب أمامنا لمعرفة حقيقة ما جرى ويجري ونقل حقيقة الأمر الى العالم والى ذوي السجناء.
كنت أنا على رأس وفد الجمعية، واستمعت إلى حقيقة الأوضاع من المساجين الأردنيين أنفسهم، فوجدتهم يثنون على حسن المعاملة التي يلقونها في السجن، وأكدوا أن ما أثارته الصحافة الأردنية من أنهم تعرضوا للضرب على يد القوات الخاصة لايمت الى الحقيقة بصلة. وعلمت من أحد السجناء، الذي التقى به وفدنا، أن رجال الأمن الذين كانوا يفتشون، كما هي العادة، عنابر السجن بحثا ً عن المخدرات والممنوعات، اصطدموا ببعض من كان يحاول عرقلة التفتيش، وتمت الاستعانة بالقوات الخاصة لفرض الأمن ومنع حدوث فوضى، مما أدى إلى وقوع صدامات بسيطة أصابت بعض السجناء من دون قصد.
هؤلاء السجناء، الذين نشرت الصحف الأردنية مزاعم تعرضهم للضرب، هم في الحقيقة سجناء محكومون بقضايا أمن دولة، وقد خصصت لهم عنابر بعيدة عن عنابر المحكومين بتهم جنائية، ويتراوح عددهم بين 70 إلى 90 سجيناً، بينهم 35 أردنياً. وتمت إدانتهم بعد محاكمات بتهم العمل في صحيفة النداء التي أصدرتها القوات العراقية إبان احتلالها للكويت، والانضمام إلى ما يعرف بجبهة التحرير العربية العراقية المنشأ والتمويل، والتعاون والتخابر مع القوات العراقية. وكان هؤلاء قد أعلنوا إضراباً عن الطعام في عام 1995مطالبين بإعادة محاكمتهم وتحديد ما إذا كانوا سجناء رأي أو سجناء قضايا جنائية. ودخلت إدارة السجن يومذاك في مفاوضات طويلة معهم، وزارهم نواب من مجلس الأمة من لجنة حقوق الإنسان للوقوف على مطالبهم. وبعدها عادوا عن إضرابهم لاقتناعهم بعدم إمكانية تنفيذ مطالبهم.
كل هذا كتبته وأرسلته إلى صحيفة الدستور الأردنية التي تصدرت الحملة على الكويت وسجونها، وشرحت فيه شرحا وافيا ما قامت به جمعيتنا وما توصلت إليه بعد التحقيق. وأكدت أن جمعية الهلال الأحمر الكويتي قامت بدورها الإنساني في تفقد أحوال السجناء انطلاقاً من احترامها لحقوق الإنسان، ومن حملها لرسالة إنسانية، تطبيقا لشعار الهلال الأحمر والصليب الأحمر الدوليين عملا وقولا، في رفع المعاناة عن أي كائن كان ومن دون عراقيل. وقامت الصحيفة بنشر نتائج تحقيقنا على صدر صفحتها الأولى، وذهبت الحملة ومروجيها أدراج الرياح.
في هذه الأيام
حين يصل أي قارئ إلى السطور الأخيرة من هذه الذكريات، لا أظن أنه سيضعها جانبا من دون أن يسأل نفسه السؤال المعتاد؛ بعد كل هذه المشاهد والفصول التي قدمها إلينا الكاتب في ما يشبه الدراما الحياتية الصاخبة، وبعد هذه الواقعية الكاشفة في أكثر من مجال من مجالات حياتنا، ما الذي يراه الآن وما الذي خلص إليه من اختلاف الآراء الذي كان شاهداً عليه، ومن الصراعات التي كان طرفا فيها مرة، ومراقبا وراصداً مرات؟
لهذا القارئ، أود القول وأنا أضع القلم جانبا، وأتوقف عند كلمة الآن، إن هذه المشاهد والفصول التي حفلت بها ذكرياتي كانت مؤشرات على ما نشهده الآن ويبرز في كل المجالات، في الصحة ووكالة كونا وجمعية الهلال الأحمر الكويتي. أي أن الماضي وتجربته لم يكونا قطعة منفصلة من حياتنا، بل عنصراً مساهماً في تشكيل حاضرنا، وسيكون الاثنان معاً، الماضي والحاضر، عنصري تشكيل مقبل الأيام.
لهذا السبب، ورغم تواضع هذه الذكريات، فالكثير مما تحدثت عنه من صعوبات واجهتنا، لا يعرفها الكثيرون، ولا يعرفون ما حفلت به من مواقف كان طابعها شخصيا في أغلب الأحيان، تغلبت فيها عواطف الأنانية والحسد على القيم الجماعية، قيم المصلحة العامة المشتركة.
كنتُ أتمنى أن يتاح لي مجال أوسع لقول أشياء لم أستطع ذكرها مع أنها حاضرة في الذهن، بل وحية تنبض حتى الآن بمشاهدها، سواء كانت مؤلمة أو مفرحة، وكنتُ أتمنى أن تصل إلى القراء الكرام بألوانها وأشخاصها وظروفها الواقعية وليس المتخيلة، لولا ما قد تسببه من إحراجات في وسط ما زال حتى الآن يفسر ما يقال أو يذكر بدوافع شخصية، لا بدوافع موضوعية لا تعلق لها بهذا الفرد أو ذاك تحديداً، بل بظواهر عامة يراها المراقب بمعزل عن رغبته أو ميوله.
لدي الكثير أقوله، وسيبقى دينا عليّ ووعداً مني، ما مد الله في أعمارنا وسمحت الظروف، أن أقوله بدافع واحد هو إفـادة القارئ. وحين أقول إفادة القارئ، فالمعنى هو أن نتجنب معاً، أفراداً وجماعات، الأخطاء التي مررنا بها، وهي كثيرة، ونتجه بأنظارنا إلى استخلاص العبر حتى لو كنا موضع النقد والتقصير، والانحراف أحياناً.
بالطبع تمنيتُ أيضاً أن أكتب عما يدور في الساحة الكويتية الآن، حيث يتعرض الدستور الذي نفتخر به والديموقراطية التي نعتز بها إلى مخاطر، وقد سبق لي أن تحدثت مع أكثر من مسؤول حول هذه الأمور، وكنتُ صريحاً وقاسياً جداً لما فيه مصلحة الكويت، إلا أن هذا الموضوع لا يكتب عنه هنا، فالهدف هو إيصال الرسالة إلى الجهات المعنية وليس استعراض القدرات في الكشف والتحليل. وهذا هو النهج الذي اتخذته، وأطالب كل المخلصين والمنتمين الى هذا البلد باتباعه؛ أن يأخذوا الحقيقة إلى القيادات المسؤولة من دون خشية على مصالحهم الشخصية، على الوجاهة والمال، فكل هذه تسقط أمام مصلحة الكويت العليا.
أكتفي هنا بالقول أن المخاطر التي ألمحتُ إليها في ما يتعلق بالدستور والحياة الديموقراطية، إذا استمرت الأمور على هذا المنوال، ستكون سببا لأزمات عديدة يتعرض لها وطننا، وبخاصة أن وضعنا من الناحية الجغرافية حساس جداً.
وأضيف، لو نظرنا إلى جيراننا واستعملنا عقولنا، سيكون حتماً علينا أن نفكر ونتروى قليلا كي تتضح الرؤية، ونتبين طريقنا. والمهم الان هو أن نتمسك بدستورنا ونظام حياتنا الديموقراطي، وأن نبعد عنهما من لا يجيد التعامل مع الدستور ولا التعايش في ظل النظام الديموقراطي، ولا إدارة هذا النوع من الحياة العصرية.
هناك ممارسات خاطئة في هذين المجالين تتجه نحو هدم الكويت والإضرار بأهلها، ولا يجب أن يستمر هذا من أي جهة جاء وتحت أي شعار مضلل جرى.
(انتهى )
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت ***************** فان تولوا فبالاشرار تنقاد
|