السدرة(17)
«جبلاوي» من زودنا بأخبار الكويت.. وأعتقد أنه سليمان الفهد
في العاشر من أغسطس1990، ووسط أكوام الصحف والملفات في قاعة مكتب كونا الرئيسية في لندن، اتخذنا قرار استئناف ارسال الوكالة، ووضعنا آلية تنفيذ على مراحل، تقوم على اعادة بناء جهاز فني وبشري قادر على القيام بالعمل الاخباري في وقت فقدت فيه الكويت وسائطها الاعلامية. وبدأت خطواتنا بتزويد مشتركي كونا بالأخبار عن طريق الفاكس، واعادة نسج شبكة المكاتب الخارجية واعادة الفعالية واللحمة الى مديريها ومراسليها الذين أفقدتهم الصدمة الاحساس باليقين عما سيحدث غداً، وعما يجب أن يفعلوه في ظل حالة شبه ضياع بدأ يعانيها العاملون معنا. وكان ضرورياً توفير كوادر ادارية وفنية ومهنية للوكالة خارج الكويت.
التأسيس الثاني
يمكن أن أسمي هذا الجهد الذي بذلناه في لندن باسم التأسيس الثاني لوكالة الأنباء الكويتية. وكنت خلاله المسؤول عن المكتب، أذهب اليه يوميا وأعود الى المنزل مشيا على قدمي لمدة ساعة، لم تكن لدينا ميزانية كافية. واتصالاتنا بالكويت متقطعة، الى أن أصبحت تأتينا الأخبار من هناك عن طريق الفاكس من شخص يطلق على نفسه اسم «جبلاوي»، أي من سكان منطقة جبلة، أعتقد أنه سليمان الفهد. واتصل بي شخص من باكستان من هواة اللاسلكي، كان عمل لدينا في وزارة المواصلات وكان مسؤولا عن الفاكس في كونا، وبدأ يزودنا بأخبار تصله عن طريق شخص من آل معرفي في الكويت، ونقوم من جانبنا ببثها.
لم يقتصر نشاطي على العمل في الوكالة، بل اتسع عبر الاتصالات السياسية في لندن وخارجها.
رسائل إلى عرفات
في لندن التقيت بمدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية عفيف صافية مرتين، واستهدفت منهما إيصال رسالة إلى عرفات أقول فيها ان الكويتيين والنصف مليون فلسطيني في الكويت هم أول المتضررين من الاحتلال العراقي. لم أكن على يقين حتى تلك اللحظة أن هذا الرجل الذي وقعت نصائحي وتحذيراتي له في لقاءاتي معه في الماضي على أذن صماء، وكان يستقبلها باستخفاف أحيانا وسخرية في أحيان أخرى، لديه حسابات أخرى في وقوفه مع المحتلين، لا علاقة لها بمصير الفلسطينيين لا في الكويت ولا في غيرها. على العكس من قيادات فلسطينية أخرى، مثل صلاح خلف الذي وقف علنا وبشدة ضد الاحتلال، وواجه صدام حسين مباشرة وطلب منه سحب قواته من الكويت، وأنه لا يوافق على احتلال دولة عربية لأخرى، فكان مصيره الاغتيال ذات صباح شتائي في تونس مع اثنين من القادة اتخذا موقفه نفسه.
خدام عاتب
وفي سبتمبر ذهبت إلى دمشق للقاء نائب الرئيس السوري آنذاك عبد الحليم خدام بناء على موافقة من سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، والأخ الشيخ ناصر المحمد فوجدت لديه عتباً على بعض المسؤولين الكويتيين خلال فترة وجود مجلس الأمة، ومواقف بعض أعضائه من السياسة السورية. وعنى بذلك الموقف من الدعم المالي لسوريا، إضافة إلى هجوم بعض الصحف الكويتية المتواصل. ولكنه أنهى عتابه بالقول ان هذا ليس بوقت عتاب، بل هو وقت عمل.
كان هذا العتاب يواجهنا في أماكن كثيرة، ولكنه كان أخف من الهجوم الضاري الذي واجهته الكويت من عدة اتجاهات ظلماً وعدواناً في عدة ساحات عربية، وقف وراءها مسؤولون حكوميون ومخابراتيون في هذه الدولة أو تلك لتأجيج المشاعر المعادية للكويت، وانتصاراً للمحتل، إما انتهازاً لفرصة كسب مالي أو استجابة لأدوار مرسومة، كما كان الحال بالنسبة للأردن وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي أذهل موقفها الفلسطينيين أنفسهم، وبخاصة من كانوا يعيشون في الكويت ويشهدون بأم أعينهم كيف يتم تقويض وجودهم الاقتصادي والإعلامي وتشريدهم في حالة ذكرت بعضهم بأحوال نكبة 1948.
أين المعارضة؟
بعد العتاب، انتقل نائب الرئيس السوري إلى لومنا على التقصير تجاه الكويت، فنحن كما رأى لم نتحرك شعبياً لاستقطاب التنظيمات الشعبية والنقابات المهنية، ولم نعقد المؤتمرات لمناقشة الوضع في الكويت. ومضى إلى القول ان هناك مؤتمرات تعقد الآن تصور الظالم على أنه صاحب الحق والمعتدى عليه، أما الكويت، المعتدى عليها، فليس هناك من يقول كلمة الحق بالنيابة عنها. وتساءل: «أين تنظيماتكم الشعبية؟ أين المعارضة؟ لماذا لا تتوجهون إلى الجزائر وإلى عدد كبير من الفلسطينيين المناوئين لسياسة عرفات، وهم مستعدون لإصدار بيانات مضادة؟».
بالطبع وعدت برفع هذه الاقتراحات الى المسؤولين الكويتيين، وهذا ما حدث، ولكني اقترحت في ما يخص سوريا تعاوناً اعلامياً بيننا، وتم وضع خطة بث اذاعي لنا من دمشق.
في موسكو
في اكتوبر من العام نفسه تحركت الى موسكو التي لي علاقـات جيدة بمثقفين فيها وأكاديميين، لأتعرف على انطباعات المبعوث السوفياتي الى الرئيس العراقي يفغيني بريماكوف، وكنت التقيت بـه مراراً. وخرجت بنتيجة أن الرئيس العراقي يمعن في ضلاله، أو غبائه بالأحرى، ربما لحسابات شخصية لديه خاطئة بالتأكيد وفق كل التقييمات التي سمعتها، حتى انـه لم يكن يستجيب لنصائح سياسيين عريقين في لعبة الشطرنج الدولية من وزن بريماكوف أو غيره. وقال بريماكوف انه طلب منا تعهداً بأن جيشه لن يضرب من قبل القوات الاميركية اذا انسحب من الكويت.
المؤتمر الشعبي
بعد الاعلان عن نية عقد مؤتمر شعبي كويتي في جدة في 13 اكتوبر، قررنا أن تبدأ «كونا» من لندن ارسالها الكامل عبر شبكتها الجديدة، وان يتزامن هذا الارسال مع انعقاد المؤتمر. وصلت الى جدة قبل موعد الانعقاد بأيام، بعد أن وضعت خطة التحرك الاعلامي: مواكبة نشاط الحكومة الكويتية ومسؤوليها، ومتابعة تحركات الوفود الشعبية والنيابية والاعلامية في مختلف أنحاء العالم، ومتابعة مواقف الدول والهيئات الدولية من الاحتلال متابعة دقيقة، وتغطية وتحليل كافة القرارات المتعلقة برفض وادانة الاحتلال.
وفي جدة وصلني من لندن البيان الذي أعددناه ليكون مفتتح اعلان انطلاقة «كونا» الى العالم، لمراجعته مراجعة نهائية، فسلمني اياه زميلنا يحيى مطر معتمدنا لتغطية أنشطة الحكومة الكويتية في مقرها المؤقت في الطائف، فقرأته بعناية عدة مرات وأنا على طرف سريري في الفندق، ثم قلت له:
«بلغ الزملاء في لندن أن يتوكلوا على الله».
أذيع البيان، أو صوت الكويت بالأحرى، في الساعة التاسعة بتوقيت غرينتش من صباح الثالث عشر من اكتوبر، وكان تحية من «كونا» الى العالم واعلانا عن استئناف ارسالها المعتاد من مقرها المؤقت، باسم الوطن الذي دنست أعراضه وحرماته على أيدي سفاحي العقد الأخير من القرن العشرين، وباسم شهداء هذه البقعة الغالية من وطننا العربي، وباسم الأطفال الذين يتّمهم جيش العروبة الجرار، وباسم حرائر العرب الكويتيات اللواتي أثكلهن جيش القادسية.. وباسم مئات الالاف من الكويتيين والعرب الذين شردهم سيف العراق العربي.. وباسم الشرعية التي حاول المحتلون مصادرتها، وباسم وحدة الصف واللحمة والالتفاف الشعبي الكويتي الذي يتبلور اليوم بأبهى صوره، وباسم كل مبادئ العروبة والإسلام التي استند اليها وجود الوطن الكويتي وعطاؤه الدافق منذ بدايته، باسم كل هذا، وباسم حرية الكلمة والتعبير للصحافة الكويتية التي حاول دعاة الوحدة خنقها.
الثوابت والمواقف
وقدم البيان صياغة لسياسة كونا الإخبارية في إطار الثوابت والمواقف التي جاء مؤتمر جدة الشعبي معبرا عنها، وأهمها رفض الاحتلال ومطالبة شعوب العالم بإدانته وشجب ممارساته اللاإنسانية في الكويت المحتلة، ورص الصفوف خلف القيادة الشرعية وتأكيد الوحدة الوطنية، وبذل كل الجهود لتحرير الوطن ودعم الصامدين على أرضه، والرفض القاطع للمساومة على سيادة الكويت واستقلالها ووحدة أراضيها، ومطالبة مجلس الأمن باتخاذ قرار يجيز استخدام القوة لإزالة الاحتلال، ومطالبة العرب الذين خرجوا على الإجماع العربي في قمة القاهرة بمراجعة مواقفهم بما يتفق وتعاليم الدين الاسلامي الحنيف والمبادئ القومية والقيم الإنسانية، والتأكيد أن موقف بعض القيادات الفلسطينية لن يؤثر على تضامننا مع الشعب الفلسطيني في كفاحه العادل من أجل تحرير وطنه، واعتبار ذلك الموقف مسيئا بالدرجة الأولى إلى القضية الفلسطينية ومصداقية النضال الفلسطيني ومصالح الشعب الفلسطيني ذاته. كما أكد التوجه الإعلامي والسياسي على نقطتين مهمتين، الأولى على أن الكويت لا تضمر شراً ولا تحمل حقداً للشعب العراقي لأنه مغلوب على أمره ينتظر ساعة الخلاص، والثانية، التأكيد على أن بناء كويت ما بعد التحرير سيتم على أسس راسخة من وحدتنا الوطنية ونظامنا الشرعي، معززين الشورى والديموقراطية والمشاركة الشعبية في ظل دستورنا الصادر عام 1962. في المؤتمر الشعبي وجدت حشداً إعلاميا منقطع النظير من مختلف أنحاء العالم، مع حضور لمندوبي كونا في الخارج، فقمت بتزويد الوكالات العربية والعالمية بأخبار ونشاطات المؤتمرين، وبنص خطاب الشيخ جابر، رحمه الله، وخطاب عبدالعزيز الصقر، رحمه الله، وأبرز هذا التحرك الإعلامي دور مؤتمر جدة وأهميته التاريخية.
التأسيس الثالث
وعدت إلى لندن لمتابعة العمل في الوكالة، ولم أعد إلى الكويت مع زوجتي إلا بعد تحرير الكويت. وهنا بدأت مرحلة جديدة أعطيتها عنوان التأسيس الثالث لوكالة الأنباء الكويتية. وبالفعل كان الأمر تأسيساً من الصفر، وهالني ما رأيت من خراب ودمار واشعال للحرائق في آبار النفط، ولم يكن ما نال مكاتب كونا أقل تدميراً وتخريبا. كانت في حالة يرثى لها، تعمها الفوضى بعد ما تعرضت له من سرقة ونهب عصي على الوصف. في كل زاوية من زوايا الكويت كنت تجد علامات بارزة على تخريب متعمد وتدمير لكل معلم من معالم الكويت، في الشوارع والبيوت والمناطق الصناعية والواجهة البحرية، وكانت سحب حرائق آبار النفط السوداء تظلل سماء الكويت وتحيل نهارها ليلا.
وأمام استحالة اسئناف عمل الوكالة من الكويت في ضوء انعدام اي امكانية، عدت الى لندن. وهناك طلبت حضور بعض الأشخاص وبدأنا نوسع عملنا. بعد ذلك بثلاثة أشهر بدأنا العمل الجاد لاعادة الحياة الى مكاتبنا في الكويت، فرجعت وأرسلت شخصين الى دبي لاحضار أثاث، وطلبت من الأخ أحمد القطامي مساعدتهما. ومع الوقت تكثف عمل كونا في الكويت، وقلصنا العمل في لندن، وعادت الأمور الى مجراها الطبيعي كما كانت قبل الغزو.
وقت الراحة
خلال انشغالي بتجهيز مقر الوكالة في الكويت، عاد قرار التخلص من هذه الشخصية الاعلامية الى التداول. كان بعضهم قد قالها بصراحة حين اعلان نتائج انتخابات المجلس الوطني الذي لم يعد الى الحياة بعد تحرير الكويت:
«آن أوان التخلص من برجس البرجس»
ووجد هؤلاء الحل الأمثل للتخلص مني في المقولة المهذبة الخالية من الفظاظة ظاهريا: «أنت خدمت بما يكفي.. لم تقصر.. وآن لك أن ترتاح وتنعم بالتقاعد.. الله معك»!
كنت أعرف هذا الذي يصلني عن طريق مصادري الخاصة، وبسببه قدمت استقالتي الأولى، ولم أرجع الى العمل الا في وقت الشدة، ولمقاومة الاحتلال، وبتكليف رسمي، أما الآن وبعد أن انجزت واجبي، صار علي أن أقرر.
اتخذت طريقي الى سمو الشيخ جابر الأحمد الصباح، وقدمت له نص الاستقالة، فوضعها جانبا، وأجل النظر فيها. فذهبت الى وزير الاعلام بعد التحرير بدر جاسم يعقوب، وأخبرته أنني مستقيل، ولديهم كتاب استقالتي، فقال: «لماذا الاستعجال؟»
قلت: «لأنني حسب القانون خدمت لأكثر من ثلاثين سنة».
لم يقل شيئا، وكان عليهم أن يجدوا شخصا آخر. وخلال ذلك واظبت على الذهاب الى الوكالة لفترة مؤقتة ريثما يتم تعيين رئيس جديد.
خلال هذه الفترة اتصل بي يوسف السميط وأخبرني أنه أصبح مديرا لوكالة الأنباء الكويتية، فباركت له منصبه، وسألني: «متى أحضر لاستلام الوكالة؟».
«الآن .. فورا».
لم يأت الا في اليوم التالي، فقمت بشرح أوضاع الوكالة له، وسلمته كل شيء بما في ذلك الملفات السرية، وكانت آخر كلماتي له: «أولا أنا على استعداد لخدمتك في أي وقت، وثانيا أطلب منك من منطلق الأخوة الحفاظ على استقلالية الوكالة لأنني قمت بتأسيسها، وتعبت عليها حتى وصلت الى هذا المستوى».
وأضفت: «استقلالية الوكالة مظهر حضاري وقـوة للكويت، فاذا أتاك خبر، أنت صاحب القرار لأن الرقابة لدينا ذاتية، والرقابة الذاتية أقوى من القانون المكتوب، واذا قمت بمراجعة الحكومة سيتأخر الخبر ويحترق، ولن تكون له أهمية. أرجوك أن تحافظ على هذه الاستقلالية، وسأكون في خدمتك في أي شيء».
وخرجت من الوكالة مودعا بعد خمسة عشر عاما بدأت في عام 1976 وانتهت في عام 1992، ولم يتصل بي يوسف السميط بعدها، ولم يسألني عن أي شيء. وهيمنت الحكومة على الوكالة.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت ***************** فان تولوا فبالاشرار تنقاد
|