عرض مشاركة واحدة
  #16  
قديم 22-09-2011, 11:05 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة (16)
التعتيم على الأخبار يشجع انتشار المدسوسة والملغومة
لقاء أجراه معي تلفزيون الكويت في أوائل عام 1984، قلت إن غياب الديموقراطية هو مشكلة عالمنا العربي. وكنت أعني في ما أعنيه، الحرية الإعلامية، حرية الرأي، واذكر أنني قلت يومها: «إن نكساتنا في الأمة العربية مصدرها غياب حرية الإعلام، فإن تكلمنا بالغنا، وإن سكتنا عشنا في ظلام، ولا أفضل من العيش في نور».
وفي عالم تسوده حرب وكالات الأنباء والأخبار المدسوسة والملغومة، تتضح أهمية سرعة نقل الأخبار، وعدم التعتيم عليها، والحرص على المصداقية من دون تهويل أو استفزاز أحد. ومن هنا كان توجهي منذ تسلمت مسؤولية تأسيس كونا، أن الإعلام الحر أفضل من الإعلام الموجه، وكانت استقلالية الوكالة أيضاً أول مطلب خطر ببالي، حين واجهت هذا التحدي وسط إعلام عربي نجده يخضع في بعض البلدان للتوجيه الرسمي، فيضطر المواطن إلى اللجوء إلى إذاعات أجنبية معادية، ليسمع شيئاً من أخبار بلده هو، فيصدق ما يقال مضطراً لأنه يفتقر إلى الخبر، ويفتقد حرية الإعلام داخل البلاد العربية.

تجربة رائدة
تجربتنا في الكويت إذن كانت رائدة. ولن أكون مبالغاً إذا قلت ما كررته مراراً خلال عمل كونا وفي ذروة نشاطها، إننا في الحقيقة كنا في نعمة، وعبرت في أكثر من مناسبة عن تقديري واحترامي للمسؤولين والحكومة، لأنها لم تتدخل يوماً في توجيه الوكالة في ما يتعلق بالأخبار، فنحن نخرج بالخبر ونتحمل مسؤوليته، فإذا كان هناك خطأ يتم لفت نظرنا، أو يقال بأن الخبر غير صحيح، وعندها ندقق فيه. بالطبع وقعنا في أخطاء في البداية، إلا أنها لم تكن نتيجة إهمال، لأن الإهمال يواجه بالعقوبة.
كان رائدنا أن الإعلام الحر هو الذي ينبع من الشعب، ويعبر عن الرأي الصحيح، وحاجتنا هي إلى إعلام يدخل كل بيت، ولسنا بحاجة إلى إعلام رسمي. نحن بحاجة إلى إعلام موضوعي يمثل الشعب ووجهة نظره. بالطبع من المطلوب توافر الرقابة الذاتية لا الرقابة المفروضة. وسأضرب مثلا دالا.
حين تسلمت كونا لم تكن هناك رقابة على الإطلاق. جمعت زملائي رؤوساء الأقسام والمحررين، وقلت لهم:
«ليكتب كل واحد خبراً ويوقع عليه باسمه، لو حدث خطأ أنا أتحمل المسؤولية وحدي، وأنا أحاسبكم عليه، ولكنني أتحمل المسؤولية أمام الدولة. أرجوكم أن تكونوا حذرين.. لابد من فرض رقابة ذاتية».
وهكذا اعتمدنا بالدرجة الأولى على مراسلينا دائما، وعلى التدقيق في ما يصلنا عبر الوكالات المختلفة، من أميركية أو أوروبية أو من العالم الثالث. لقد كنا في سباق دائم مع الوكالات الأخرى، وكان الزملاء حريصين بالفعل على مصلحة البلد وأمنه القومي. ويشعر الجميع أنه مسؤول لأن سياستنا كانت العمل الجماعي، فلا رئيس ولا مرؤوس. بالطبع هناك هيكل تنظيمي، لكن العلاقات داخل كونا كانت علاقات عائلة واحدة متعاونة.

اعتداء على سفارتين
وتجربة تغطية الاعتداء على السفارتين الأميركية والفرنسية في عام 1983 مثال بارز على طبيعة عملنا. حين حدث الاعتداء نشرنا الخبر مباشرة كما هو. وجاء الصحافيون ورجال الإعلام ووكالات الأنباء من كل الأنحاء، ولم يجدوا شيئاً ينقلونه إلى صحفهم أو إلى وكالات أنبائهم التي يعملون فيها أكثر مما نشرنا. صحيح حاول بعض المسؤولين وقف بث وكالة كونا، إلا أنني شرحت لهم وجهة نظري، وملخصها، إننا ننشر أخبار الحدث كما هي، حتى يرى العالم كل شيء واضحاً، ولا يستطيع أحد تحريفه، لانزيد ولا ننقص، وبالتالي تصبح لنا مصداقية إعلامية.

..وفي المقاهي الشعبية
وهناك تجربة أخرى مررنا بها خلال تغطيتنا لأخبار تفجيرات المقاهي الشعبية تغطية كاملة، وكان هناك دعم من المسؤولين. سارعنا يومها إلى توزيع مندوبينا على المواقع، ودققنا في كل الأخبار التي بثتها الوكالة، مما ساعد على سرعة الوصول إلى الخبر وبثه الذي انفردنا به، ووفر طمأنينة للمواطن الذي رفض الاستماع إلى الاشاعات بوجود الخبر الصحيح. وكان هناك مواطنون اتصلوا بنا مباشرة، وانشغل 46 خطا هاتفيا لدينا انشغالا دائما، وانهالت علينا الاتصالات من الداخل والخارج، لأننا كنا المصدر الوحيد لخبر التفجيرات، وتحركنا بسرعة وكفاءة.
لقد حصلنا على الخبر قبل وكالات الأنباء التي نقلت عنا، ووجدت تغطيتنا صدى جيداً في الصحف العالمية، وشعرنا بالسعادة ونحن نرى الخبر يتصدر الصحف الأجنبية مسنوداً إلى وكالتنا الوطنية. وحين كانت بعض الوكالات تشوه الخبر، كنا نتصل بها ونخبرها الخبر الصحيح، ونطلب منها نشر ما تشاء.
وفق هذا النهج، وفي سياق الإصرار على الاستقلالية، سارت كونا، ليس في مجال الأخبار فقط بل في مجال الدراسات والأبحاث أيضاً. كان لدينا قسم للأبحاث والمعلومات يصدر كتيبات في كل مناسبة، مثل مناسبات المؤتمرات الإسلامية أو القمم العربية أو مؤتمرات مجلس التعاون الخليجي أو دول عدم الانحياز، أو مناسبة زيارات سمو الأمير أو ولي العهد لبلد من البلدان، بالإضافة إلى الدراسات الخاصة بالسياسات المحلية مثل السياسة السكانية.

ملفات خاصة
أطلقنا على هذه الكتيبات اسم الملفات الخاصة، وحاولنا تقديم الموضوعات مختصرة قدر الإمكان ليتمكن المواطن من الاطلاع عليها بسهولة، ويقرأها في يوم واحد، وتحفظ كمراجع يمكن العودة اليها. ونجحت هذه الملفات، بدليل تزايد الطلب عليها من داخل الكويت وخارجها. واستفادت منها جهات متعددة، صحفية وجامعية وبحثية.
بفعل هذا الانتشار الذي تحقق لاسم الوكالة على الأرضية التي ذكرت، رؤية ونهجا، أصبح المواطنون يعرفونها، وصار لهم رأي في تقييم مدى نجاحها من عدمه، فهم الذين ينتقدون أو يقترحون، ونحاول من جانبنا تنفيذ مقترحاتهم.
• هل حاولت كونا تحقيق مبدأ ديموقراطية الاعلام؟
ــــ من واقع الخبرة والتجربة أستطيع الاجابة بنعم. وأقول انها حاولت، لأن لا طريق سوى هذا، أي التدرج الممكن. ولست مع تلك النظرية التي يزعم أصحابها أن الديموقراطية لدى الشعوب المتخلفة تعني حكم الأغلبية الغوغائية، هذا غير صحيح، أنا انسان حر، ولدت حرا ويجب أن أعيش حرا، وهذه أرضي، وهي الأرض التي أعيش وأموت عليها، وأنا أحبها وأخدمها واشعر بالمسؤولية بغض النظر عن المكان الذي أشغله أو نوع العمل الذي أقوم به. المهم أن يكون لي رأي في شؤوني وشؤون بلدي، أو هناك على الأقل من يمثلني في ورشة صناعة القرار.

كسبت الرهان
يبدو أنني كسبت الرهان، رهان النهج ورهان المسيرة. سواء في مواصلة تعميق فكرة الاعلام الذي لا يمكن أن يقدم أجل الخدمات لوطنه، الا اذا كان حرا، أو في الوصول بهذا النهج الى نهايته القصوى، حتى وان اقتضى الأمر الاستقالة والتخلي عن المنصب. لا مساومة حين يتعلق الأمر بما تلمس وما ترى عيانا أنه الصواب، أو ما يتعلق بمبادئ نشأت عليها فأصبحت توحد بين الفكر والسلوك بلا انقسام بين ما تفكر فيه وبين ما تفعله.
هذا هو الجو الذي واجهت فيه، كما واجه الوطن كله، أزمة الخيار بين أن تواصل نقل الخبر الصحيح، او تتوقف أمام حسابات المكسب والخسارة الشخصيتين فتختار نقل الخبر الملفق.
واخترت ما رأيت أنه الأصوب لي وللوطن، لماضيه ومستقبله، نقل الخبر الصحيح، وتحملت تبعاته.
حدث هذا في غمار عام 1990، وكان قد مر على حل مجلس الأمة وتعليق الدستور ما يقارب الأربع سنوات، وبدأ الاعداد لاجراء انتخابات ما سمي آنذاك المجلس الوطني ليحل محل مجلس الأمة. لم تكن فكرة هذا المجلس، بالقيود التي جاء بها مرسوم تأسيسه وخفضت سقف التمثيل الشعبي فيه، مقبولة لدى غالبية الشعب الكويتي. وبصفتي مديرا لكونا، واحساسي أنها موضع أنظار وكالات الأنباء، وموضع ثقة المواطنين، تابعت شخصيا نتائج تلك الانتخابات.
وزعت المندوبين على الدوائر الانتخابية، وشددت عليهم أن يأتوا بالنتائج النهائية من وزارة العدل. وخلال المراقبة والمتابعة لاحظنا أن نسبة اقبال الناخبين على صناديق الاقتراع كانت متدنية جداً، فنشرت هذا الخبر محلياً وخارجياً لأنه واقعة حقيقية لا تقبل تحريفاً، ولأن قول عكس ذلك يعني أن الوكالة تمارس خداع الناس.
بعد نشر هذه المعلومات الأولية اتصل بي حمد الجوعان ليسألني عن حقيقة موقف الناخبين ومدى اقبالهم على التصويت وعن النتائج، ثم سألني:
«هل أنت بخير؟ هل حدث معك شيء؟»
استغربت السؤال، وطمأنته:
«أنا بخير»
قال:
«سأزورك في الوكالة»
وما أن وصل حتى أعلمني بسبب قلقه؛ أخبرني أنه سمع خبر اعتقالي بسبب نشري خبر قلة الاقبال على التصويت، وبسبب النتائج التي نشرتها، وكانت تعاكس النتائج الرسمية التي أعلنتها الحكومة. وبعد دقائق اتصلت بي ابنتي مها وسألتني:
«أبي .. هل أنت في الوكالة؟»
قلت:
«نعم.. ماذا يحدث؟»
«سمعت أنك معتقل!»
«أنا قادم الى البيت»

تردد حكومي
حدث هذا يوم 10 يونيو 1990، في وقت كانت تبث فيه كونا أن نسبة التصويت بلغت 26.3%، بينما تعلن أخبار منسوبة الى مصادر رسمية حكومية أن نسبة المقترعين وصلت الى 41%. كانت الحكومة منزعجة جداً من قلة نسبة المقترعين، وظلت مترددة في اعلان النتائج النهائية الرسمية طيلة 48 ساعة. والحقيقة هي أن النتائج أعلنتها الحكومة في مساء اليوم التالي، وأكدت نجاح الانتخابات، ومشاركة 62.3% من الناخبين في التصويت من دون أن تعلن النتائج التفصيلية لما حصل عليه كل مرشح.
لقـــد جــــاءت انتخابات المجلس الوطني في جـــو معارضة قويـــة لاجرائها ومقاطعة عبرت عن نفسها في تـــــدني نسبـــة المقترعــــين. ومـــــا كان لنــــــا الا أن أن نعكس هــــذا الواقــــع في أخبارنا انسجاماً مــــع مبــــدأ نهضت عليــــه كونـــا، وبسببه اكتسبت مكانتها المتميزة، ألا وهـــو مبــــدأ الاستقلال عن التدخــــل الرسمي، وخاصة اذا كان هذا التدخــــل سيفقدها مصداقيتها في نظر المواطنين وفي نظر العالم الخارجي.
في البيت، ومع كثرة الاتصالات الهاتفية التي وصلتني، إما للاطمئنان الى انني بخير ولم يعتقلني أحد بسبب صدق أخبارنا، أو للشد على يدي وتثمين الموقف الذي وقفته «كونا» لمصلحة الحقيقة، سمعت أن هناك تحركات ضدي. وبالفعل نشرت إحدى الصحف خبر استقالة رئيس وكالة الأنباء الكويتية بدفع من أحد المسؤولين. لم يواجهني أحد، بل اتخذت التحركات ضدي طريقاً ملتوياً. تم إقرار قانون الإحالة إلى التقاعد بسرعة لكل من أمضى في الخدمة ثلاثين سنة، وبما انني من الذين أمضوا في الخدمة ثلاثين سنة، تمت إحالتي على التقاعد، أو الخلاص مني بطريقة مهذبة بالاحرى، وعلمت أن نقاشا دار في مجلس الوزراء، وطالب بعضهم بالتحقيق معي، إلا أن الشيخ جابر العلي، وزير الإعلام، نصح لهم باتخاذ قرار الإحالة على التقاعد. وعندما تأكد لي أنهم في سبيلهم لاتخاذ مثل هذا القرار، لم أرغب بإحراج الحكومة أكثر مما أحرجت بسبب أرقامها الرسمية عن الانتخابات، والتي ظهر أنها غير واقعية، فقمت بكتابة استقالتي. ولكن ما أدهشني أن تنشر إحدى الصحف على صدر صفحتها الأولى خبر استقالة رئيس وكالة الأنباء الكويتية في صباح اليوم التالي، مع انني لم أكن عرضت الاستقالة بعد على مجلس الوزراء!
لم أفعل شيئاً سوى إرسال رسالة عتب، أعاتب فيها من سرب خبر استقالتي، وأخذت إجازة لمدة ثلاثة أشهر، وسافرت مع أسرتي إلى لندن، ومن هناك ذهبت مع زوجتي إلى مقاطعة البحيرة Lake District شمالي غرب انكلترا.

في مقاطعة البحيرة
هنا خلال وجودي في مقاطعة البحيرة، بدأت الأزمة بين الكويت والعراق، وبدأ تبادل الرسائل عبر الجامعة العربية؛ وزير الخارجية العراقي طارق عزيز يرسل رسالة إلى الجامعة العربية يتهم فيها الكويت بسرقة النفط وتجويع العراق، ووزير خارجيتنا الشيخ صباح الأحمد يرد عليه ويفند ادعاءاته، من دون أن يخطر ببال أحد أن افتعال هذه الأزمة سيجر الخراب على المنطقة العربية. وظهرت في الجو غيوم منذرة بالأسوأ. ومن مكاني هناك في فندق ساحل شاوربيل، بدأت أتواصل مع الوكالة عبر الفاكس. وكتبت رسالة موجهة إلى صدام حسين كانت مناشدة من أجل العودة إلى العقل والحكمة. وجاء في نصها الذي ما زلت أحتفظ به:
«.. إن الخلاف الطارى‍ء بين العراق والكويت أحدث ألماً عميقاً لدى كل مواطن عربي، فقد جاء في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى وحدة الموقف والصف».
وقلت مذكراً:
«.. أعلنتم ميثاق التضامن العربي الذي يدين استخدام القوة والعنف في حل الخلافات
العربية، وقلتم في إحدى المناسبات، نحن نحتفظ بأسرارنا كعرب حتى لا نختلف، كما أنه لا توجد حواجز نفسية أو فعلية مع أشقائنا.. فما الذي حدث ليغير هذه القناعات وليكشف ظهورنا لأعداء أمتنا العربية؟
أنتم تعلمون أن أي حملة معادية للعرب أو أي خلاف جانبي بينهم يهدف أساساً إلى تشتيت الطاقات والجهود التي يجب أن توظف من أجل العمل الجاد لاستعادة الحقوق العربية المغتصبة، وللدفاع عن قضية فلسطين التي أخذت تتراجع إعلامياً وسياسياً إلى الخطوط الخلفية من الاهتمام العالمي، وسط الانشغال بقضية الخلاف العراقي مع الكويت والإمارات بينما يتعرض شعب فلسطين إلى حرب إبادة على أيدي العدو الصهيوني، كما تتعرض أرضه إلى غزو بشري من قطعان المهاجرين اليهود، وما يشكل ذلك من تهديد خطير للأمن العربي».
واستبعدت الأوساط الإعلامية والتحليلات السياسية، على قاعدة معايير عقلانية، أن يكون وراء هذه التحرشات والاتهامات إعداد لغزو عسكري، ووضعت كل هذه الإثارة في إطار محاولة ابتزاز المزيد من الأموال الكويتية، أو الحصول على مكاسب في الأراضي الكويتية.

حول رقعة الشطرنج
كان الرأي السائد تقريبا أن من المستبعد أن تكافأ الكويت بعد سنوات من وقوفها ماليا وسياسيا مع العراق في حربه على إيران بهجوم من هذا النوع. ولكن يبدو أن كواليس السياسات الدولية كانت تخطط لشيء آخر، فتفتح الطريق للنظام العراقي لارتكاب حماقة خطيرة تتجاوز أي عقلانية سياسية. ليس من المعروف حتى الآن ماذا كانت أهداف المتحلقين حول رقعة الشطرنج آنذاك، ومن منهم كانت نقلاته محسوبة ومن منهم كانت نقلاته تعبر عن جهل وغباء، ولكن ما أظهرته الأحداث بعد ذلك، وما تكشف، أثبت أن اللاعب الأميركي كان ينقل أحجاره بخطوات محسوبة، بينما كان النظام العراقي يندفع وراء نقلات غبية ستدمره في النهاية، وكانت الكويت ضحية هذه اللعبة التي أورثتها مأساة غزو لا منطق له ولا حجة.
في جو هذه الهواجس والتوقعات انتقلت إلى لندن لأكون أكثر قرباً من الأحداث، ولأستطيع متابعة مجريات التحركات السياسية، وليكون لي دور شعرت أننا كلنا مطالبون به. وبعد ثلاثة أيام اتصل بي خال زوجتي، خالد الحميضي، رحمه الله، وحمل لي خبراً غريباً؛ هناك إطلاق نار في شارع فهد السالم، والتفاصيل غير معروفة. كانت محادثات جدة التي عقدت مساء الثاني من أغسطس 1990 بين وفد يرأسه ولي العهد الشيخ سعد العبد الله ووفد عراقي يرأسه نائب الرئيس العراقي عزت الدوري قد انهارت، ولم تخرج بأي حل، وتبين أن مطالب العراق المبالغ فيها لم تستهدف التوصل إلى حل، بل تقديم الذريعة لما هو مخطط له سلفاً. وفي الساعات اللاحقة التي تلت مغادرة الوفدين جدة، بدأت شاشات وأخبار الوسائط الدولية تتحدث عن اختراق طوابير الدبابات العراقية للحدود الكويتية، والتقدم في الأراضي الكويتية، وأن هدفها الكويت كلها! كانت الأخبار أشبه بصواعق تنهال على الاسماع، ولا أكاد أصدق ما أسمع وما أرى. لماذا؟ ولمصلحة من؟

كارثة الغزو
أبعد كل ما قدمنا نكافأ بالقتل والتشريد؟ أسئلة ظلت تدور في رأسي، ولا أجد جواباً معقولا، فأمسك بسماعة الهاتف وأتصل بمكاتب وكالة كونا في الكويت لاستطلع ما يجري في الثالثة والنصف فجراً، ولا أجد هناك غير عامل البدالة وداوود سليمان المحرر المناوب في قسم التحرير، فيخبرني بأنهم علموا بوجود الجيش العراقي على الحدود الكويتية. طلبت منه أن يتأكد ويتصل بي. وانتظرت حتى السابعة والنصف صباحاً بتوقيت الكويت من دون أن يهدأ لي بال. وجاءني الاتصال، وأخبروني أن الجيش العراقي دخل الكويت.
قال داوود بصوت قلق:
«أنا أبحث عن مسؤول لآخذ منه تصريحا ولا أجد أحداً!»
قلت وأنا أكثر قلقاً:
«زودني بأي معلومات فور وصولها»
اتصلت بالمنزل، وتحدثت مع ابنتي مها، فسألتني:
«هل أذهب إلى العمل أم لا؟»
«القرار لك»
ولم تذهب إلى عملها بالطبع. لم يكن الوضع جلياً، لا لمن في الكويت ولا لمن خارجها، وكان الذهاب إلى العمل في مثل هذه الوضعية يعني مسايرة الاحتلال، ولم يكن أحد منا مستعداً لارتكاب هذه الجريمة ومسايرة المحتلين. ولكن كان لدي ما أعمله، ولابد أن أعمله، وخاصة بعد أن انقطعت الاتصالات بيني وبين الوكالة في الكويت.
ذهبت إلى سفارتنا في لندن، والتقيت بالسفير غازي الريس ود. أحمد الخطيب وجاسم القطامي، وتحدثنا وتبادلنا الآراء حول ما يجري. وكان مما قاله د. الخطيب:
«صدام حسين مجرم، ولن يتردد أبداً، وسيبطش بالشعب».
غادرت السفارة إلى مكتب كونا في لندن، في الطابق السادس من البناية رقم 150، شارع ساوثهمبتون، والتقيت هناك بمدير المكتب حسني إمام والسكرتيرة، ووجدتهما في حيرة من أمرهما لا يعرفان ما يفعلان شأنهما شأن الجميع. كانت الصدمة أبرز ما تلمسه على الوجوه، وما تسمعه من تساؤلات، ولكن تفكيري تركز على ما يجب أن أفعله. وفكرت، بما أن الجيش العراقي دخل الكويت، إذن ستنتهي وكالة كونا بمرسوم عراقي فوراً، ولن يسمح لها بأن تتنفس. فما العمل؟.
في هـــــذه الاثناء اتصل بي مصادفة عدلي بسيسو، الذي عمل معنا في الوكالة قبل أن يهاجر إلى كندا، يستفسر ويسأل، فطلبت منه أن يأتي إلى لندن بأسرع وقت، وطلبت من إحدى المحررات، وكانت موجودة في لندن، أن تلتحق بنا في المكتب، وكذلك فعلت مع كل من اتصل بي من الكويت: «تعالوا إلى لندن لنرى ما سنفعل»
بعد مرور ثلاثة أيام على احتلال الكويت أعلنا من مكتب كونا في لندن الخبر. وأعلمنا جميع الوكالات العربية والعالمية أن المقر الرئيس لوكالة الأنباء الكويتية أصبح في لندن، ومنه سنباشر نشاطنا. لم تكن لدينا الإمكانات لنعمل كمكتب رئيسي، إلا أن علاقاتي الطيبة مع بعض الوكالات العالميـة وفرت إمكانية مساعدتنا عن طريق فتح خطوط اتصالات لنا. وأرسل لنا الإخوان في قطر والسعودية أجهزة Teleprinter، وعن طريقها بدأت الوكالات العالمية تأخذ منَّـا الأخبار وتبثها.
في اليوم الرابع اتصل بي الشيخ ناصر المحمد من الطائف، وطلب مني القيام بكل مسؤولياتي من مكتب كونا في لندن، فأخبرته أنني بدأت فعلا. وأرسلت خطابا إلى وزير الإعلام الشيخ جابر المبارك أطلب فيه تزويدي بتكليف رسمي لإدارة مكتب كونا في لندن، ولتكون لي صفة قانونية واستمر في العمل، لأنني قدمت استقالتي من قبل وأنا بحاجة لهذا التكليف الآن. وتلقيت التكليف الرسمي.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس