السدرة ( 11)
قوميون واشتراكيون وفلسطينيون
قد يبدو ما سـأرويه الآن تحت هذا العنوان انتقالا إلى موضوع آخر، أو زاوية أخرى في هذه المساحة الخمسينية من الزمن. ولكنه في الحقيقة إضافة لمسة لونية إلى اللوحة نفسها؛ إلى حكاية السدرة ذاتها التي أظلتنا صغارا وكباراً، أعني الكويت، على امتداد مسافة زمنية بدأت مع مطلع الخمسينات بالتجدد والتغير، وما زالت بالطبع، على المحور الشخصي والعام. في هذه المسافة كما قلت كان الحراك الاجتماعي آخذاً بالتباعد عما ألفناه، يتشبع بأجواء سياسية واقتصادية وثقافية جديدة قد تبدو غريبة عما نعيشه الآن.
لم تكن الحياة العملية، حياة الوظيفة، منفصلة عن الحياة العامة، وفي هذا تواصل بطريقة أو أخرى مع المألوف قبل ذلك في حياتنا بين بر وسفر وبين حياة قوافل وحياة سفن، إلا أن الجديد كان نشوء مؤسسات جديدة، ترسخت الدوائر الحكومية، أي الوزارات بمفهوم اليوم، من جهة، والنوادي والتجمعات الأهلية من جهة أخرى. ووسط كل هذا تموّجت العلاقات وتداخلت في ظلال السدرة وفي ما حولها.
الانفتاح على المحيط
لعل أهم ما حملته هذه السنوات هو الانفتاح على المحيط العربي انفتاحا غير مسبوق. صحيح أن العلاقة بالمحيط العربي لم تكن مقطوعة منذ نشأة الكويت على هذه البقعة الجغرافية والشاطيء الجميل لبوابتها على العالم، إلا أنها لم تشهد ما بدأت تشهده الآن من نمو لحركات فكرية وتردد لأصداء آتية من عواصم عربية بزخم أشد وتطلعات أبعد.
بدأ يتولانا إحساس أننا نستظل بظل أكبر، وتشغلنا قضايا أوسع، هو هذا الظل القومي أو الإحساس به إحساسا ملموساً. سواء عبر تزايد عدد العاملين معنا من البلدان العربية في دوائر الدولة أو في حركة الشارع وأنشطته، أو عبر تلقي مؤثرات ما يحدث من صراعات ومتغيرات في المحيط العربي من حولنا.
لم يكـن كـل هذا مجرد أصداء تأتينا عبر الأثير أو عبـر الاحتكاك بالوافدين، بـل كـان أيضاً تعبيراً عن تطلعات بدأت تنمو في داخلنا في تشابـك كامـل بـين الداخـل والخارج. هـذا قانـون طبيعي، فإذا كنا لسنـا وحدنا في هذا العـالم، فنحـن لسنا وحدنا في عـالمنا الأقرب أيضاً.
عايشت هذه المرحلة عن قـرب، معايشـة المشاركة وليس المراقبة فقـط، وفيهـا تشكلـت أوائل عـلاقاتي في محيط عملي وفي محيط الحياة العامـة عـلى حـد سواء. تعرفت على الفكر القومي والفكر الاشتراكي، وعرفت عن قـرب شـخصيات، بعضها نسيـت ملامحه وبعضها مازلت أحمل آثاراً من أقوالـه، وأكاد أبصر مواقفه كأنها حـدثت بالأمس بالكلمة والصـورة.
كان مجال المعرفة لدينا آنذاك متصلا مكانيا، بين مكاتب العمل ونشاط الأندية الرياضية والثقافية. وهذه الأخيرة كانت أبرز ما ميز مطلع الخمسينات، فقد بدأت هذه النوادي تنشأ وتتفاوت في اهتماماتها. كان لدينا النادي الأهلي، نادي الكويت حالياً، ومديره عبد الرزاق سلطان أمان. وبسبب تميز نشاطي الرياضي في أيام الدراسة، كان طبيعيا أن أشارك في الأنشطة الرياضية منذ وقت مبكر، ومعي الزملاء، خضير المشعان وخالد الحمد وبهجت أبو الخير وعبدالمحسن الفرحان وعبد الله مقهوي.
الرئيس الفخري للنادي كان الشيخ عبد الله المبارك، وشملت أنشطة النـادي الشؤون الرياضية والثقافية والسياسيـة. كانت الأنديـة تعبيراً اجتماعياً قبل أن تتخصص وتتحـول الى الرياضة فقط أو الى الثقافة وحدها أو الى نواد مهنية. عنى النادي بالدرجة الأولى التجمـع، فهو منتـدى بالأحـرى.
من هنا لم يكن غريباً أن يدعو النادي في عام 1955، والثورة الناصرية في كامل قوتها، د. محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر، فجاء وألقى ثلاث محاضرات في ثانوية الشويخ، محور الأنشطة العامة آنذاك، تحت عنوان «الحياد.. والحياد الايجابي»، وكلها يتعلق بمؤتمر باندونغ في اندونيسيا الذي أطلقَ في عام 1955 فكرة وكتلة دول عدم الانحياز بين المعسكرين، الاشتراكي والرأسمالي، بمعناها الايجابي وليس السلبي. وكان لهذه المحاضرات أثر كبير في تفتيح الأذهان على ما يحدث في عالمنا، واعتبرنا الدعوة والمحاضرات انجازاً.
النادي الثقافي
بعد ذلك جاءت نشأة النادي الثقافي القومي الذي سيلعب دوراً كبيراً في توعية المواطن الكويتي بقضاياه وقضايا المحيط العربي الذي هو جزء منه وليس قطعة مفصولة عنه. كان ميدان هذا النادي مزيجا من الثقافي السياسي. ولعب د. أحمد الخطيب الذي عمل معي جنباً الى جنب في المستشفى الأميري، دوراً بارزاً فيه، امتداداً لدوره في النادي الأهلي الرياضي قبل ذلك والذي لم يكن بارزاً. هنا في النادي الثقافي القومي كان له الدور الأكبر على صعيد أنشطة النادي وتوجهاته وعلى صعيد الحركة الوطنية الكويتية عموماً.
كانت مجموعة القوميين العـرب قبل أن تسمى «حركة القوميين العرب» التي ينتمي اليهـا د. الخطيب أحد مؤسسيها أكثـر فئات المعارضة تنظيماً، وتمارس نشاطها عبر هـذا النادي من مقره في شرق على شاطئ الخليج العربي. يعقد ندوات أسبوعية، ويصدر صحيفتين، احداهما شهرية اسمها «الايمان»، والأخرى أسبوعية اسمها «صـدى الايمان».
واذكر مـن الذين عملوا في النادي، محمـد جلال عناية، وغسان كنفاني كمتطـوعين. كنت عضواً في لجنـة النشر في النادي الى جـانب د. أحمـد الخطيب وعبد الـرزاق الزيـد الخالد وعبـد الوهاب عبـد الغفـور. وبعد صدور عددين من «صدى الايمان» أغلقتها دائرة المطبوعـات والنشـر.
في النادي الثقافي القومي بدأت علاقتي حقيقة بحركة القوميين العرب والفلسطينيين خصوصا، وبالحركة السياسية عموماً. لم أكن من القياديين في الحركة ولكنني كنت متعاطفاً معها، وأنشط بحدود امكاناتي وبتوجيهات من د. أحمد الخطيب.
كنت اكتب أخباراً صغيرة في مجلتي «الطليعة» و«الفجر»، وأذهب الى مطبعة مقهوي حيث تطبع الصحيفتان، وهناك أقوم بكتابة وتقديم مادتي الخبرية.
في تلك الأيام شاركت في الكتابة في أجواء مقاومة مشروع الدفاع المشترك الأميركي وحلف بغداد في عام 1955. كانت تردني منشورات توزعها احدى الشخصيات المعروفة في لبنان تناصر حلف بغـداد، وهي شخصية خطيـب محترف التقيت به مرتين في الكويت، ولا يحضرنـي اسمه، الا أنني اتذكر أنـه كان من جماعة السياسي اللبناني صائب سلام ومن خريجي جامعة الأزهر.
ونتيجـة اطلاعي على هذه المنشـورات كتبـت رداً أنتقـد فيـه دفاع هذه الشخصية عن حلف بغداد، ونشرتـه في صحيفة «الأحد» لصاحبها رياض طه، فأرسل لي المدافع عن حلف بغداد ما يشبه الانذار بأن أتوقف عن الكتابة ويهددني بالكتابـة عني في صحـف بـيروت، فتوقفت.
مع الخطيب والقطامي
علاقتي بالخطيب وجاسم القطامي هي التي قربتني من القوميين العرب. أما على صعيد الفكر الاشتراكي فقد جاء تأثيره علي من علاقتي بصيدلي فلسطيني ذي توجه اشتراكي هو كمال أمين، وآخر هو صبحي الخوري. واعتاد الاثنان جلب خطابات خالد بكداش، وكنت استمتع بقراءتها.
في كل هذه الأنشطة كنت مشاركاً جانبياً، لا قائداً ولا زعيماً. أحضر الندوات والمحاضرات في النادي الثقافي. واستمع الى أحاديث قيمة وتوعية قومية تشبعت بها من د. الخطيب أيضاً خلال عملنا في المستشفى، وودت أن يتبلور هذا الوعي نحو الأفضل. من جانبي ترجمت هذا الوعي عملياً بتعاطفي مع الفلسطينيين خاصة والعرب عامة.
التعليم والفلسطينيون
يرجع الحضور الفلسطيني في الكويت في مجال التعليم الى ثلاثينات القرن العشرين، ثم ومع أخبار نكبة عام 1948 التي كانت تصلنا ولو بشكل محدود عبر الراديو، بدأ هذا الحضور يتخذ طابعاً أوسع من مجرد الحضور البشري، ويتجاوزه الى الحضور السياسي حين بدأت أعداد اخواننا الفلسطينيين بالتزايد بعد النكبة مباشرة، تزايدت أعداد الأطباء والمهندسين والمعلمين منهم، بالاضافة الى اليد العاملة.
وأذكر أنه مع عام 1954 بدأت تصل إلينا أيد عاملة فلسطينية من الضفة الغربية عن طريق بغداد فالبصرة بواسطة الشاحنات والقطارات، ثم مشياً على الأقدام إلى الكويت. وكنت آنذاك مسؤولا عن التعيينات في المستشفى الأميري، وقمت بالاهتمام بالوافدين عبر الصحراء وإسكانهم في الجيوان G1 وإرسال الطعام إليهم من المستشفى.
وعرفت الكويت شخصيات فلسطينية في الخمسينات سيكون لها دور سياسي بارز في السنوات اللاحقة مثل ياسر عرفات، الذي عمل مهندساً في وزارة الأشغال مع أبو جهاد الذي جاء إلى الكويت في عام 1957، ولحق بهما فاروق القدومي (أبو اللطف) الذي عمل في وزارة الصحة، وأبو إياد (صلاح خلف) المدرس الذي بدأ ينظم اجتماعات سرية في عام 1959 لتأسيس منظمة فتح وإعلان وثيقة التأسيس.
{صوت العرب}
استمرت علاقتي بالقوميين العرب عبر ندوات واجتماعات ونشاطات متواصلة تعقد دائماً داخل الكويت أو خارجها. كان هناك قوميون عرب في البحرين لهم علاقات مع نظرائهم في الكويت، تترجم أحيانا بلجوء بعضهم إلى الكويت كلما تأزمت أمورهم، كما حدث مع جاسم بو حجي الذي أخرجوه من البحرين إثر اندلاع التظاهرات هناك في عام 1956، فجاء إلى الكويت ووجد فيها ملاذاً. كانت قاعدة القوميين العرب الشعبية واسعة، رغم قلة عددهم، فقد كان لديهم تركيز والتزام.
قبل قيام الثورة المصرية لم أكن مع القوميين العرب، إلا أن ظهور جمال عبدالناصر وذهاب الملكية غيّر أشياء كثيرة في المحيط العربي، بما في ذلك في الكويت. هنا تعاطفت الكويت كلها مع مصر ولقيت الثورة تأييداً. وكنا نستمع دائماً إلى إذاعة صوت العرب. واذكر أنه بعد عام على الثورة كانت لقيادة مجلس الثورة المصرية اتصالات بالعالم العربي، وأحد المدعوين إلى الكويت للتعريف بالثورة كان أنور السادات، فجاء إلى الكويت وزارنا في المستشفى الأميري، والتقيت به كما التقى به رئيس الأطباء د.ايرك بيري، وكانت المرة الأولى التي التقي به شخصياً. كان وسيما أسمر يتحدث عن الثورة وأهدافها وشخصية جمال عبدالناصر بلهجة متفائلة، والسادات ذاته هو من كتب بعد ذلك كتاباً عنوانه عبارة يخاطب فيها ولده «هذا عمك جمال»!
في هذه الفترة نفسها قرأت الكتب التي لها صلة بالمفهوم القومي. مثلا كلفت بقراءة كتاب «الاتحاد» وهو مجموعة مقالات لنقولا زيادة وكامل مروة وقسطنطين زريق الذين كانوا رواد المسيرة القومية، وكنت أتأثر بكتاباتهم.
العدوان الثلاثي
في هذه الفترة وقعت أحداث كان لها تأثير كبير على حياة العالم العربي من حولنا وعلى حياتنا تبعاً لذلك، وبخاصة مع نمو الشعور القومي، والإحساس العارم تحت تأثير مصر الناصرية أن العرب يواجهون مصيراً مشتركا. وخلق هذا أرضية لتحركات شعبية في أكثر من بلد عربي، ولم تكن الكويت استثناء.
عـلى رأس هـذه الأحـداث الكبـرى كان العـدوان الثلاثي العسكـري عـلى مصر، عـدوان التحالف الإسرائيـلي- البريطاني - الفرنسـي في عام 1956. أشعل غضباً عارمـاً على الإنكليز واحـدث انتفاضة في الكويت تمثلـت بالمظاهرات المؤيـدة لمصر والمناوئة للسياسة الإنكليزية.
وقـام النادي الثقافي القومي الذي يقوده د. الخطيب بدور بـارز يجب أن أسجل أنه أنعش الحركة الوطنيـة. فنشط في تعبئة المواطنـين والمقيمـين العرب عبر «لجنة الأندية الكويتية» ونداءاتها للقيام بالمظاهرات. وفي وقتها أرسل د. الخطيب رسالة إلى إذاعة صوت العرب يستنكر فيها العدوان الثلاثي ويعلن عن قيام مظاهرات شعبية، فشعرت بالخوف عليه لأنه لم يكن لدينا آنذاك قانون ودستور.
تظاهرات فريدة
وشهدت أيام تلك التظاهرات حدثاً فريداً من نوعه، ربما في المنطقة العربية كلها، لم يعد يتكرر مع الأسف، وهو ان أوامر صدرت آنذاك لمدير دائرة الشرطة جاسم القطامي بقمع التظاهرات وإخمادها، فرفض تنفيذ هذه الأوامر، وقدم استقالته من وظيفته، وقال واجبه ووظيفته هما خدمة الشعب وليس قمعه أو ضربه، وأن الشعب لم يرتكب جريمة بالتظاهر بل كان يعبر عن مشاعره القومية وتضامنه مع شعب مصر الشقيق.
لم تكن الحكومة معتادة على تجمهر وتظاهرات من هذا النوع، فأمثال هذه التجمعات لم تكن موجودة في الكويت. ومع تواصل التظاهرات أرسل الشيخ عبد الله السالم بطلب مديري النوادي، مثل نادي المعلمين والنادي الأهلي والنادي الثقافي. كان رئيس النادي الأهلي يومها المرحوم محمـد الخالد ولم يحضر، فكلفـت بالحضور نيابـة عنه عن النادي الأهلي، وحضر عن نـادي الخريجـين خالد الخـرافي، وعن نـادي المعارف محمد الحربش وعبـد العـزيز حسين.
استقبلنا الشيخ عبد الله السالم في مكتبه، وسلمنا عليـه ودار هـذا الحـوار:
عبد الله السالم: ماذا تريدون من حركاتكم هذه؟.
خالد الخرافي: والله نحن يا طويل العمر لا نستطيع أن نسكت ونقف مكتوفي الأيدي والشقيقة الكبرى مصر تضربها ثلاث دول، فرنسا وبريطانيا واسرائيل.. يجب أن يكون لنا دور.
عبد الله السالم: ماذا تريدنا أن نعمل؟
خالد الخرافي: يجب أن يكون لنا دور.
عندها نهض الشيخ عن كرسيه وأدار وجهه بمواجهة البحر وقال: لو جاءت منور (أي المدمرة الحربية) ووجهت مدافعها إلى الكويت، ماذا نفعل؟ هذا كلام غير مقبول، خلي العراق يكون له دور، فهو أكبر منا مساحة وإمكانات أكثر بكثير. إنما أنتم إذا أردتم مصلحة الشعب فاتجهوا إلى التجار في السوق واطلبوا منهم أن يحافظوا على اسعار المواد الغذائية، وألا يرفعوا الأسعار. هذه هي الفائدة. ماذا نستطيع أن نفعل لمصر؟ نحن عددنا محدود وإمكاناتنا محدودة، فرجاءً اغلقوا هذا الموضوع.
في ثانوية الشويخ
الحدث الكبير الثاني الذي كان علامة من علامات سنوات الخمسينات ونهضتها القومية كان التجمع الشعبي الذي أقيم على ملعب ثانوية الشويخ الرياضي بمناسبة الذكرى الأولى لقيام الجمهورية العربية المتحدة في فبراير 1959. وظل هذا التجمع، وما تخلله من خطابات وكلمات وما تلاه من إجراءات، علامة بارزة لا تنسى في تاريخ الكويت المعاصر.
شارك النادي الثقافي القومي في هذا التجمع عبر «اتحاد الأندية الكويتية»، وحضرته جماهير غفيرة من المواطنين والوافدين العرب. وفي هذا التجمع ألقى كل من د. أحمد الخطيب وجاسم القطامي خطابين انتقدا فيهما الحكومة، وطالبا بأن تدخل في مفاوضات مع قيادة الجمهورية العربية المتحدة.
كان جاسم القطامي يوم ذاك مديراً لشركة السينما بعد استقالته الشهيـرة مـن دائـرة الشرطة، وذهبت إليـه مع خالـد الحمـد في السوق القـديم لأقنعه بإلقاء كلمة بالمناسبـة، فقـال لا أريـد.. أريد ترخيصـاً من الحكومة أولا بإقـامة الاحتفال في ذكرى الوحـدة، ولا أريد أن أتورط.
للحصول على ترخيص كان يجب أن نذهب إلى عبد الله المبارك رئيس دائرة الأمن العام في قصره، وذهبت أنا والأخ خالد الحمد ووجدنا عنده هاني القدومي مدير الجوازات، وطلبنا الترخيص بإقامة الاحتفال في اليوم التالي. السؤال الوحيد الذي وجَّهه إلينا هو:
«هل يوجد أي شيء؟ هل هناك خرابيط؟»
قلنا :
«لا شيء.. أردنا فقط إذنا منك»
وحصلنا على الترخيص.
وبدأت الاستعدادات وتوجيه الدعوات للتجمع في جو كان فيه الشعب متشجعا جداً لحضور هكذا احتفالات، ومتعاطفاً مع مصر وعبد الناصر بخاصة ومع دعوات الوحدة والقومية العربية. بين الحاضرين في ذلك اليوم كان عبد الله الجابر وأحمد سعيد من إذاعة صوت العرب وجمهور غفير. وجاء القطامي وألقى خطابا حماسياً مؤثراً، تأييداً للوحدة العربية ونقداً للحكم العشائري ومطالبة بالديموقراطية ودور الشعب، وجاء في خطابه مطلبٌ ذو دلالة مهمة في وقت لم تكن فيه الكويت قد استقلت بعد، أو فكر فيه أحد بالحكم الديموقراطي والدستور:
« آن الآوان لحكم شعبي ديموقراطي يكون فيه للشعب دستوره ووزراؤه».
بعد هذا الخطاب والكلمات الأخرى خرج جمهور الاحتفال في تظاهرة كبيرة وحصلت صدامات. وأثارت الخطابات، وخطاب القطامي بالذات، غضب عبد الله المبارك واستدعى القطامي والخطيب. وحدثت ردة فعل قوية لدى الأجهزة الأمنية سحبت نتيجتها جوازات سفر المحسوبين على حركة القوميين العرب. وتم إغلاق جميع النوادي الرياضية والثقافية بناء على إعلان صادر عن دائرة الشؤون الاجتماعية في 8/2/1959. وأمر رئيس الدائرة بتشكيل لجنة خاصة لتصفية موجودات وممتلكات الأندية والهيئات وتحويل جميع حساباتها إلى دائرة الشؤون الاجتماعية. كما ألغيت أيضاً امتيازات جميع الصحف والمجلات الصادرة عن الأندية الثقافية، ومنها جريدة «الفجر» الصادرة عن جمعية الخريجين، و«الشعب»، جريدة أحمد العامر الذي مازال حياً يرزق لكنه لا يختلط بالناس، وهي نفسها الجريدة التي باع امتيازها وأصبح اسمها «الوطن» التي نعرفها حالياً.
ولم تتوقف الإجراءات عند هذا الحد، بل مضت دائرة الأمن العام إلى اعتقال منظمي الاحتفال الشعبي، وعلى رأسهم قياديو النادي الثقافي القومي.
ووجه حاكم الكويت الشيخ عبد الله السالم بياناً إلى الشعب يشرح فيه الأسباب التي أدت إلى القيام بهذه الإجراءات، ومن هذه الأسباب الإساءة إلى العلاقات بين الكويت وأصدقائها من العرب، وعدم المحافظة على المصلحة العامة.
مصادرة الحريات بهذا الأسلوب، إغلاق الأندية وإلغاء امتيازات الصحف المعبرة عن هيئات شعبية، تواصلت حتى إعلان استقلال الكويت في 19 يونيو 1961. ومع الاستقلال عادت جميع الأندية الثقافية وفتحت أبوابها وعادت الصحف إلى الصدور، وصدرت صحف جديدة، وتحول اسم النادي الثقافي القومي إلى «نادي الاستقلال الثقافي». وهو النادي نفسه الذي ستعود دائرة الشؤون الإجتماعية بعد أن أصبحت وزارة إلى إغلاقه وتصفية موجوداته وأمواله في أواخر سبعينات القرن الماضي.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت ***************** فان تولوا فبالاشرار تنقاد
|