السدرة
(10) التفرقة بين الطبيب الكويتي والعربي ظاهرة عجيبة غريبة
لقد ربطت بـين موضوع استقلال الجزائر ووجـود إسرائيل، لأن هـذه الأخيرة تشكل قـوة في المنطقـة، وأعطاها تفكك الحكومات العربية حرية الحركة، ولا يستطيع أحـد الوقوف بوجهها. تحدثت بهـذا قبل عـام 1967، قبل النكسة، وكان في ذهني دائماً أن هـذه الدولـة تتحكم بالمنطقة، وفكرت أن الدول العربية تقف ساكنة، وأن إسرائيل سوف تعمل ضد استقلال الجزائر.
لاحظت منذ بداية عملي وكيلا أن الوضع في المستشفيات مقلوبٌ ويحتاج إلى تصحيح، وهو ما يعني إحداث انقلاب، هذا ما قررته في ضوء توجيهات ولي العهد الشيخ جابر الأحمد، وتعليمات الوزير عبد الرزاق العدواني، ونتيجة لإيماني بحق ذوي الدخل المحدود والفقراء بالحصول على العلاج المجاني وبمستويات جيدة.
وتبين لي، نتيجـة للإحصائيات التي أجرتها الـوزارة، أن أكثر المتـرددين عـلى العيـادات الخاصة هم من ذوي الدخل المحدود والفـقراء، أمـا الأغنياء والموسرون فهم يلجأون في حالة المـرض إلى أطبـاء الوزارة ومستشفياتها! وهـذه ظاهـرة لافتـة للنظـر وتستحق الدراسـة. فماذا كانت نتيجـة؟
تبين بعد الدراسة والاستطلاع الميداني أن الجهاز الإداري الذي يتولى مهمة تنظيم العلاقة بين الأطباء والمرضى غير كفؤ، وأنه يرضخ لعوامل كثيرة بسبب عدم تمتعه بالإمكانات اللازمة للقيام بمهمته، ومعاملته غير اللائقة للمراجعين، وهذا ما جعل المواطنين يحجمون عن الإقبال على أطباء الوزارة لتلقي العلاج.
واكتشفنا أيضاً أن الهيئة الطبية لم تعد قادرة على تحمل أعباء العمل بسبب سوء الإدارة والتنظيم وقلة الأعداد.
انقلاب صحي
وهكذا كان لابد من أن يشمل الإصلاح الجهاز الإداري بإعادة تأهيله عبر دورات تدريبية، وكل متدرب يفشل يتم نقله إلى مجال آخر، وتعزيز الهيئة الطبية بأعداد جديدة لكي يتمكن الطبيب من العناية بعدد محدد من المرضى يومياً.
كان هـذا انقلاباً بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكن كانت له تبعاته ومشاكله، الشخصية وغير الشخصيـة أيضاً. وربما كان مـا واجهته من عراقيـل لا يتعلق تحديداً بالصراحـة التي كنت أواجـه بها مشكلات الإدارة فقط، بل بالمنطلقات المبدئية أيضاً، الإيمان بالعـدالة والمساواة في مـا يتعلق بالخدمات الصحية والتطبيب وصرف الأدوية، بلا تفرقة بين منطقة وأخرى، ولا تمييز بين مواطـن وآخـر.
كنت أراقب وأتابع بعناية، الندوات الخاصة بعملنا في الوزارة، واسجل ملاحظـاتي، وأقارب الدورات التدريبية للإطباء والإداريين التي حرصت عليها دائماً كوسيلة عملية للنهوض بمستوى عملنا. والاهم من كل هذا انني كنت آخذ بأي ملحوظة أجدهـا جادة ومخلصة، وأعترف بالقصور أينمـا وجدته، كما حـدث في نـدوة الجمعيـة الطبية عن الخدمـات الصحيـة في عام 1974، ولا أتوانى عن تقديم الاقتراحـات التي من شأنها إضـاءة الطريـق أمام الجهات المسؤولـة.
كان العمـل وظل متشعباً في كـل اتجـاه، مـا تعلق مـنه بالجهاز الوظيفـي الذي ألتقـي بأفراده وأتباحـث معهـم في مشاكلهم وأحـوالهم، واطالب بإنصاف المظلومين منهـم، وما تعلـق منـه بنقـد الظواهر السلبية مثـل ظاهرة الواسطـة التي اعتبرتها عاملا مساعداً في تشكيك المواطنين في كفاءة العاملين في جهـاز الدولة، وبعضها يريد منا أصحابها أن نكون أداة لكسر القانون.
التفرقة بين الأطباء
وأخيراً مـا تعلق منها ببعض ما أطلقت عليه الظاهرة العجيبة الغريبة، وهي التفرقة التي لمستها بين الطبيب الكويتي والعربي، التفرقة الدخيلة على تقاليد الكويت العربية الأصيلة المتوارثة عن آبائنا وأجـدادنا في اعترافها بالخير والجميل والمحبـة.
وقد أعلنت صراحة بمناسبـة دورة تدريبيـة للأطـباء في أوائل عام 1976، ان الفروقـات الدخيلة في هذا البلد بين الطبيب وأخيه الطبيب يجب أن تـزول لأن لا فرق بينهما إلا بما يقدمه كل منهما من خير ومحبـة وعناية ورعايـة للمرضى.
كنت اجتهد لتقديم الحلول واقتراح سبل تضـع حداً للظواهر السلبية، وإنصـاف العاملين على اختلاف جنسياتهم، لأنني أعتبر هذا مـبدأ انسانياً، فما بالك إذا كان التمييز والظلـم وتقـديم المصالح الشخصية على المصلحة العامة يحـدث في مضمار عمل إنساني مثـل العمـل الطبـي؟
أمين عام
في أحد الأيام نقل إلي أحد أقارب د. عبد الرحمن العوضي أن الشيخ سعد رحمه الله حذره مني حين تسلم وزارة الصحة وقال له:
«خـذ حـذرك مـن بـرجـس البرجس فهـو الأمين العام للجنـة المركزية للحـزب الشيوعـي في الخليج»! وأنا استبعد أن يكون الشيخ سعد قال هذا الكلام.
لا أعرف إن كان الشيخ سعد مازحاً أم جاداً، إلا انني أعرف أن صحيفة باكستانية كتبت شيئا من هذا القبيل، فاتصلت بالسفير الباكستاني وأوضحت له أنني أعمل في مجال الصحة ولست سياسياً، وما زلت أستخدم سيارة من طراز قديم!
وفي ظني أن أمثال هذه الأقاويل في تلك الأيام كان يشيعها، ويحرص على إيصالها إلى آذان المسؤولين، أشخاص لا يعجبهم أن تصد وساطتهم غير المحقة لتمرير توظيف مقرب أو إرسال أحدهم لعلاج في الخارج، او تقف في وجه متضرر من تشكيل لجنة مناقصات. ولا شيء أسهل من الاتهام تطلقه أشباح لا تعرف لها وجها ولا مكاناً حريصة على شيء واحد فقط هو أن تزيحك عن منصبك وتحتل مكانك.
عام الاستقالة
وأصل إلى عام 1976، العام الذي تقدمت فيه باستقالتي. كان الانجاز هو الغاية طيلة مدة عملي، واكتسبت روحية السعي لتحقيق المزيد من الانجازات زخماً مع زيادة المتطلبات، ان على صعيد الحاجة الى تحديث الجهاز الاداري أو على صعيد تأسيس مستشفيات جديدة مثل مستشفى الأمراض السارية الوحيد من نوعه في الشرق الأوسط، أو على صعيد التطور الطبي مثل اجراء أول عملية زرع بطارية ذرية لتنظيم عمل القلب في الكويت، وكانت الأولى في منطقة الشرق الأوسط.
لم تكن المتاعب التي تنشأ من حولي: تخلف التشريعات عن ملاحقة متطلبات تأمين استقرار نفسي للعاملين، وتذمر الجهاز الوظيفي المتضخم من متطلبات التدريب واعتماد معايير الكفاءة والحاجة، وما جرى مجرى هذا، تعيق عملي أو تدفع بي الى اليأس من اصلاح الأحوال، ولكن متاعب جديدة بدأت تنشأ مع تعيين د. عبدالرحمن العوضي وزيراً مصدرها الوزير ذاته، لا أي جهة أخرى.
وهنا احتاج الأمر مني الى وقفة.
في هذا العام سافر الوزير العوضي الى جنيف لحضور مؤتمر الصحة العالمي. ونشر أحد الصحافيين في جريدة «الرأي العام» سلسلة مقالات موضوعها وزارة الصحة ووزيرها، وكانت هذه السلسلة هجوما نقديا عنيفاً. فأرسلت بطلب الصحافي كاتب المقالات وقلت له ان ماكتبته غير صحيح، ودافعت عن العوضي. وحين عاد الوزير من السفر فوجئت به يقول لي: «لماذا لم تتخذ موقفاً حازماً في الدفاع عن وزارة الصحة؟».
أجبت: «اتخذت موقفاً ودافعت عن الوزارة، ولم تكن بيدي حيلة، لأن صاحب الرأي العام عبدالعزيز المساعيد رجل ذو نفوذ».
لم يقنع جوابي العوضي، وأحس أنني تواطأت مع الصحافي، أو هكذا قيل له، الا أنني أدركت من لهجته وعدم رغبته بالاقتناع أن هناك من يعمل في الخفاء للايقاع بيني وبينه لابعادي عن منصب الوكيل.
في تلك الأيام كان معظم اصحاب شركات الأدوية ضدي، لأنني كنت أشدد على تشكيل لجنة للمناقصات تقدم عطاءاتها مختومة، وتناقش العطاءات وترسي المناقصة بحضوري في اللجنة، ولا توجد أي فرصة لتسريب أخبار المناقصة والعروض المقدمة.
وبعد فترة أصبح العوضي يتدخل ويتصل بالأطباء بنفسه. اعترضت بالطبع وقلت له أن هذا لا يجوز، فأنا المسؤول عن الجهاز الوظيفي في وزارة الصحة، أما أنت فمركزك سياسي. وأغضبه قولي، وحدث سوء تفاهم بيننا. وامتد سوء التفاهم في الأيام اللاحقة وبدأ يشمل جميع جوانب العمل تقريباً، حتى حين رشحت محمد الحساوي لمنصب وكيل مساعد لم يقبل به لأنني من رشحه. وصار التفاهم بيننا يكاد يكون معدوماً.
سافر العوضي، وتولى عمله بالانابة وزير العدل عبدالله المفرج، فقدمت له استقالتي في 12/6/1976 وطلبت منه ارسالها الى ولي العهد آنذاك الشيخ جابر الأحمد.
قلت في استقالتي الموجهة الى سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء: «لما كنت أعتبر نفسي مجنداً في خدمة المصلحة العامة لبلدي منذ أكثر من 25 عاماً، ولما كنت أمضيت طيلة تلك السنوات أعمل مع زملائي بروح ايجابية خالصة لا تشوبها أي مسائل شخصية، ولما كنت منذ عام ونصف العام قد حاولت بكل طاقتي أن أتعاون مع زميلي في العمل سعادة وزير الصحة الدكتور عبد الرحمن العوضي، ولما كنت قد وصلت الى قناعة نهائية بأن استمرار تعاوني معه لا يمكنني من متابعة الخدمة العامة بروح خالصة من أي دافع سوى دافع خدمة المصلحة العامة. لذلك كله فأرجو من سموكم أن تفتح لي مجالا آخر أخدم فيه بلدي بنفس الروح المخلصة المتفانية، وأن تأمر بنقلي الى موقع آخر من مواقع الخدمة العامة. لدي ايمان مسبق بأن نظرتكم الثاقبة للأمور سوف تفتح أمامي المجال الذي أريده».
أرسل الشيخ بطلبي وسألني عن سبب الاستقالة، فقلت: «بدأت تتولد خلافات في الوزارة، ويمكن ان يكون عبد الرحمن العوضي على صواب وأنا على خطأ. واستقالتي تفسح له المجال لقيادة الوزارة لأنه أكثر كفاءة مني».
لم يخف على الشيخ جابر الأحمد أن وراء هذه الحجج ما وراءها، فقال: «هذا كلام غير مقنع!».
قلت مواصلا اصراري على الاستقالة: «لم آت لأشكو أحداً، بل لاعفائي من المنصب. أريد عملا حراً يريحني».
هنا، وبعد أن لمس جديتي، قال الشيخ جابر: «أريدك عندي في المكتب».
وعدت معتذراً: «اطال الله عمرك.. رمضان على الأبواب ولا قدرة لي».
قال: «خذ شهرين راحة».
ولم يتم تعيين وكيل للوزارة لمدة عام كامل، ثم تم تعيين د. نائل النقيب وكيلا.
بعد رمضان أرسل ولي العهد يطلبني. فقلت بصراحة: «لا أستطيع العمل في مكتب ولي العهد».
هز رأسه وقال لي: «يبدو عليك الارهاق والتعب!».
«نعم، والله انني مرهق جداً ومتعب».
ومنحني فرصة أخرى للتفكير قائلا: «لك ثلاثة اشهر اجازة.. لترتاح».
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت ***************** فان تولوا فبالاشرار تنقاد
|