السدرة بين الأسرة البيضاء (7)
مـع عام 1962، أي عـام استقلال الكويت، بدأ يتضح التغيير الملموس عـلى عدة أصعدة، ذلك التغير الذي قلت إنه كان طابع الحياة في الخمسينات، ليس في دائرة الصحة فقـط وانما في الدوائر كافة.
كان الشارع الكويتي مشحوناً بقضايا وطنية وقومية وبرغبة عارمة في تحقيق المشاركة الشعبيـة في ادارة الدوائر. صحيح أن هذا التغير الملموس بدأ مع تشكيل المجلس التأسيسي الذي أعـد مشروع الدستور، الا أنـه سبقه وضع قوانين للوظائف العامة، وكان أول تشريع ينظم الخـدمة المدنية قد وضع في عـام 1955، وعرف بنظام الموظفين والتقاعد، ثم تغير مسماه في عام 1960 وصار «ديوان الموظفين»، وهي التسمية نفسها التي تغـيـرت في عام 1996 وصار اسمه «ديوان الخدمـة المدنية». ولهذا كان في هذه التشريعات التي وضعت قبل صدور الدستـور اجحاف بحق الكويتيين، لأن من وضع هـذه القوانـين السابقـة على الدستور اصحاب خبرات ومؤهـلات جاؤا من الخارج، من القـاهرة ولبـنان، بين عامي 1954 و1955، فوضعوا قوانـين تنصفهم وتم تطبيقها.
وزارة الصحة
كنت ما زلت أمينا لمستشفى الصباح حين تغيرت تسمية دائرة الصحة الى وزارة الصحة بعد الاستقلال وتسلمها عبد العزيز الصقر، فاستدعاني وطلب مني تسلم منصب مدير مكتبه. فتحفظت قليلا. لم أهضم فكرة الانتقال من وظيفة أمين عام الى مدير لمكتب وزير، وشعرت بثقل هكذا مسؤولية. الا انني قبلت المنصب بعد اصرار من الأخ الصديق يوسف ابراهيم الغانم الذي قال لي مشدداً على كل كلمة:
«يحتاجـك عبد العزيز الصقر، هـو بحـاجـة الى من يكون الى جانبـه الآن، ويجب عليـك قبـول هـذا المنصب».
بداية جديدة
هذه كانت البداية الجديدة لمسيرة تميزت بالتأكيد عن مسيرة الخمسينات في عدة جوانب، أكثرها أهمية أننا بدأنا برغبة الانجاز، أن ننجز شيئا لهذا القطاع الذي أعاقت تطويره صراعات الخمسينات ومنافسات الكتل المتعددة الجنسيات، والتعصب لمناهـج هذا النظام الطبـي أو ذاك وبالطبع تذكرت في منصبي الجديد كل الأفكار التي تعرضت للإجهاض في مجـال إعـادة تنظيـم إدارة المستشفيـات.
الفكرة الأولى التي بدأنا تحقيقها هي إنشاء سجل عام للمستشفيات والمستوصفات، حيث يحفظ لكل مريض ملف في هذا السجل. ولم يكن الأمر سهلا، أن تبدأ من ما يشبه الصفر، واستغرق منا إنجاز هذا السجل جهداً جباراً ووقتاً طويلا.
نبدأ عملنا في الثامنة صباحاً ونستمر حتى العاشرة ليلا، ونستريح لمدة ساعة فقط. وخلال ذلك يظل عبد العزيز الصقر حاضراً معنا دائماً، يجيء إلى العمل مستخدما سيارته الخاصة؛ فهو لم يطلب من الوزارة سيارة له.
حادثة مشهودة
استمر عملي مديراً لمكتب الوزير عاما كاملا، أنجزت خلاله سجلات المرضى العامة، وادخلنا تطويرات متعددة على إدارة مستشفيات، الأميري والصباح والصليبخات، إلى أن غادر د. إريك بيري رئيس الأطباء الذي كان يسيطر على كل شيء في شؤون المستشفيات بعد حادثة مشهودة تستحق أن تروى.
طلب د. بيري ذات يوم لقاء الوزير، وجاء إلى اللقاء حسب الموعد بلباس رياضي كأنه ذاهب إلى ملعب كرة، فأوقفته ولم أسمح له بالدخول للقاء الوزير بهذه الملابس، رغم أنه كان رئيسي سابقاً في عصر ما قبل الاستقلال.
قلت له:
«لو كنـت في بريطانيـا، هل ستذهب للقاء وزيـرك بهـذه الملابـس؟ يجب احـترام مقـام الوزيـر».
غضب د. بيري، أو صدم بالأحرى، وهو الـذي اعـتاد أن يعامل حتى زمـلاءه الأطباء بخشونة وعنجهية المستعمر القـديم، حاكم الامبراطوريـة التي لا تغيب عنها الشمس، وسارع إلى تقـديم استقالته. ربما إحساساً منه أنها لن تقبـل، وسيعود إلى منصبه مرتـدياً ملابس الملاعب الرياضية في حضرة أي كان، وربما إحساساً منه أن الزمن تغيـر، وأن دوام الحال من المحال، مـع أن هذا الأخير احتمال ضعيف في ضوء تجربتي مع أمثال هـؤلاء الذين كانوا يضعون نصب أعينهم خدمة ملكتهم لا خدمة الشعوب التي حـلوا بين ظهرانيها بقوة مدافع بوارجهم الحربية.
أطلعت الوزير الصقر على الاستقالة، فسألني:
«ما رأيك؟»
قلت:
«نقبلها فوراً»
لم تكن لـدي ضغينـة تجاه الطبيب البريطاني، ولكن كان لا بد للكويت أن تتجدد بعـد أن تـولى أمورها أبناؤها بالكامل، وآن لهـم الآن أن يشمروا عن ساعد الجـد.
كان د. بيري على علاقـة جيدة بالأمير عبدالله السالم قديمة، ويعـرف الوزير هذا الأمر، الا أنه بعد تفكير وتأمل، قال للأمير إنه سيوافق على الاستقالة. واعتبرت قبول استقالة د. بيري احد انجازات عبد العزيز الصقر.
لم يكن اتخاذ مثل هذا القرار الذي خلص وزارة الصحة من تركة ثقيلة الا حلقة في سلسلة من ممارسات الوزير الصقر جديرة بالذكر، وبخاصة أنها تندر هذه الأيام في وزارات الدولة. واذكر له موقفا آخر يثير الاعجاب.
كنا في المكتب ذات ظهيرة، فاتصل شخص من احد المستوصفات يشكو شخصا ذا نفوذ يهم بالاعتداء على أحد موظفي المستوصف. فغضب الوزير، واتصل فورا بالشيخ سعد رحمه الله وأخبره بالموضوع، وطلب اتخاذ اجراء سريع، وارسال سيارة شرطة للقبض على هذا المتنفذ، وسمعته يقول خلال الاتصال:
«اذا لم تفعلوا هذا فأقترح أن ترسلوا أحدا لاستلام وزارة الصحة»
فقاموا بالاجراءات اللازمة، وتم التحقيق مع هذا الشخص.
كان بو حمد دقيقا، وبحجم منصبه تماما.
مبادئ وتنظيم
يمكن وصف عملنا في أول وزارة بعد الاستقلال بصفتين؛ ارساء مبادئ وتنظيم وتطوير الخدمات الصحية وتأسيس ما يمكن أن أسميه قواعد لخلق كوادر كويتية قادرة على تولي المسؤولية. على سبيل المثال، وفي ضوء مسألة العلاج في الخارج التي أصبحت في السنوات الأخيرة مجال صراعات وتدخلات وواسطات، نظمنا هذه الخدمة على أساس مبدئي وعلمي. فعندما يوصي طبيب بارسال مريض للعلاج في الخارج، تتشكل لجنة طبيـة وتقرر ما اذا كان بحاجة الى علاج في الخارج أم لا. فاذا أقر الطلب، يعتمده وكيل وزارة الصحة مباشرة. ومن أجل أن تكون هذه الخدمـة فعالة افتتحنا مكاتب صحية في الخارج. والمهم أن أي وساطة لم تكن تقبل على الاطلاق في مكتب عبد العزيز الصقر. مقـابل بذل كل جهد ممكن لخدمة ذوي الحاجات المستعصية والجادة، وهو جهد كان الوزير يتابعه شخصيا في أحيان كثيرة حين يحتاج الأمر الى اجراء استثنائي. حدث مثل هذا حين جاءت امرأة تشكو من مرض كلوي، وكانت حالتها حسب التشخيص خطرة جدا ولا علاج لها في الكويت، ولابد من ارسالها الى لندن بسرعة. فأجرينا اتصالات سريعة للحصول على طائرة من الخطوط الجوية البريطانية، وتم علاج المرأة في لندن، ومازالت حية حتى الآن، ومازلت ألتقي بزوجها أحيانا وبيننا سلام، ولا ينسى موقف عبد العزيز الصقر وموقفي من علاج زوجه.
مع الأطباء
في ما يخصني كنت الموظف الكويتي الوحيد المرتبط بالأطباء ارتباطاً قويا، وعلاقاتي بهم وثيقة جداً بسبب أنهم كانوا مثقفين ومتعلمين، ومن مصلحتي أن أسمع منهم وأتعلم منهم. وفعلا استفدت من أطباء من أمثال د. مصطفى عبد التواب ود. أحمد لطفي ود. أحمد مطاوع ود. علي عطاونة ود. يوسف العمر. وكنت أقف مع الأطباء في مواجهة متاعبهم حتى العائلية، مثلما حدث حين وقفت أنا وابنتي مها مع د. عبد التواب حين مرّ بمتاعب من هذا النوع. هذا على صعيد ارساء المبادئ، أما على صعيد التأسيس، فقد شهد عام وجودي مديرا لمكتب الوزير منجزات مهمة، على رأسها تأسيس معهد التمريض وبنك الدم وقسم النظائر المشعة في مستشفى الصباح.
معهد التمريض
كان الوزير الصقر يريد خلق كوادر كويتية، فقرر انشاء معهد للتمريض. آنذاك اشتهر معهدان في هذا المجال، الأول المعهد العالي للتمريض في هايدلبرغ الألمانية، والثاني المعهد العالي للتمريض في الاسكندرية في مصر. وفكرنا بامكانية الطلب من مديرة المعهد الأخير، سعاد حسين، تأسيس معهد لنا للتمريض في الكويت. وسافرت لهذا الغرض الى مصر وقدمت لها العرض، فوافقت، وجاءت الى الكويت. وساعدتها من جانبي على انشاء المعهد مع وضع شرط أن تكون الملتحقـة به حاصلة على شهادة متوسطـة عـلى الأقل. ونشرنـا اعلاناً، وحصلنا عـلى سبع فتيات كويتيـات، بالاضافـة الى أربع فتيات غير كويتيات، وحملني أهلهن المسؤولية عنهن، فطمـأنتهم بأن الأمـور ستكون على ما يرام، وسنوفر لهن المواصلات من البيت الى المعهـد وبالعكس. وبالفعل خصصنا لهن مواصلات مناسبة ومرافقة اسمها «وضحة الحمـرة» ما زالـت على قيد الحياة.
كانت الدراسة لمدة أربع سنوات بالنسبة للممرضة، أما بالنسبة لمساعدة الممرضة فالدراسة تستغرق سنتين. وطلبنا اعفاء المتقدمات من شرط الشهادة المتوسطة، وان كانت عربية فمن الفتيات اليتيمات. وخصصت لكل طالبة مكافأة بمبلغ 40 ديناراً شهرياً. وبفضل السيدة الفاضلة سعاد السيد رجب زوجة د. نائل النقيب، بدأنا التعاون مع وزارة التربية.
بنك الدم
المنجز الثاني كان تأسيس بنك الدم. وهو مشروع رافقته عراقيل وصراعات لم نصادفها في غيره من مشروعات، فرغم الطابع الانساني الحساس لمثل هذا الخدمة، لم تكن تخلو من تدخلات أصحاب النفوذ والباحثين عن الأرباح المالية على حساب أرواح البشر. وكان علينا أن نصطدم في هذا المجال بكل ما يصادفه المرء في الأسواق من غش وتلاعب.
كان الـدم يصلنا من بيـروت. واكتشف د. علي أنسي، رئيس المختـبر، عدم صلاحيـة الدم الذي يصلنـا من هنـاك. وبدأنا. فكنت أجتمـع مع ستـة أطبـاء يوميـاً في المختبر، ومسؤول التثقيف الصحي يومذاك فريـد أبو غزالـة، ثم ننطلق لتوعية الناس بالأهميـة الإنسانية للتبرع بالدم. كان المتبرع يحصل على مكافأة مقـدارها 10 دنـانير وكـوب من العصير يسترد به قواه بعد تبرعـه. وبدأ النـاس يتـوافـدون للتبـرع.
لكن مشروع بنك الدم في الحقيقة كان موجوداً على الورق منذ أيام الشيخ صباح السالم الصباح، حين كان يرأس دائرة الصحة. ولم ينفذ المشروع بسبب بعض المتنفذين أو المنتفعين من لبنان الذين وقفـوا في وجه إنشاء بنـك دم محلي يحرمهم من المتاجرة بدم غير صالح كما اكتشفنا. هؤلاء هم الذين عـادوا إلى العرقلة فأبلغوا الأمير في ذلك الوقت أنني لست طبيباً، وأنني أتدخل في شأن لاعلاقة لي بـه، فاقنع المرضى بأخذ الدم الذي أوفـره لدائرة الصحة. وبتأثير هذه التدخلات واللغط الذي أثاره هؤلاء قـال لي محمد درويش العرادة ان الشيخ يطلبني ليتكلم معي حول موضوع الدم، فذهبت إليه ومعي تقرير د. علي أنسي حول الدم المستورد، وقلت لـه أنا شخص في منصب مسؤول، وأنا أقـدم خدمة للمرضى بمساعدة أطباء مختصين، ولا أتدخل في شؤون المرضى، بل أوفر ما هو صالح للمريض حسب رأي الطبيب، ويمكنك أن تسأل الأطباء في الـوزارة عـن ماهية الدم المستـورد من بيروت، إن كان مغشوشـاً أو صالحاً. قال الشيخ سأفكر بالموضوع.
وواصلنا عملنا، وأكملنا ما بدأنـاه إلى أن أصبح لدينا اكتفاء ذاتي وأنشأنا بنـك الدم. وكانوا يجلبون الدم من الولايات المتحدة الأمريكية ومصر في عهـد زينب السبكي مديرة بنك الدم في القاهرة.
النظائر المشعة
وفي هذا السياق، سياق اهتمامي بطلبات الفنيين والمختصين، وإرساء أسس متينة واستكمال تحديث الخدمات الطبية، عملت على تأسيس قسم النظائر المشعة في مستشفى الصباح. وضرورة وجود طبيب في هذا الاختصاص كان مطلباً من قبل الفنيين، فسافرت إلى لندن وبصحبتي طبيب اسمه ديفيد بيلي، عين لاحقاً ملحقا ثقافيا في لندن، بحثا عن طبيب متخصص بالنظائر المشعة أو مختص بالأمراض السرطانية والنظائر المشعة معاً. فعثرنا على طبيب بولندي الأصل مقيم في انجلترا منذ الحرب العالمية الثانية، وكان هذا الطبيب هو زيليسكي، أول طبيب في الكويت بهذا الإختصاص. جاء إلى الكويت وأنشأ قسم النظائر المشعة. وبعد سنتين تولى منصبه د. يوسف عمر من مصر الذي توفي أخيرا في عام 2008، فاستلم القسم وصار اسمه مركز علاج الأمراض السرطانية. آنذاك كان مركز حسين مكي الجمعة في سرداب في مستشفى الصباح، قبل أن ينشأ مركز بهذا الاسم.
الأيتام واللقطاء
منذ الخمسينات، كان لدينـا في المستشفـى الأميـري جنـاح مخصـص لـلأيـتام واللقطاء، وحين زاد العدد نقلنا الجناح كلـه إلي بيت سلطـان السالم على مقربـة من المستشفى في منطقـة شرق.
وكنت مهتماً بالرعـايـة الإنسانية لهذا الجنـاح، ولكن حين فتـح الباب ما بـين العامين 1955 و1958 أمام بعض الأسر لتبني الأيتام واللقطـاء شعرت أن في العملية ظلماً لأن الدولة هي الأحـق برعـايتهم.
وأذكر أنه مع تشكيل دوائر الدولة، وصارت لدينا دائرة للشؤون الاجتماعية ترأسها الشيخ صباح الأحمد، وكان مديرها الأستاذ حمد الرجيب، وهو إنسان فاضل ومتواضع، ذهبت إلى الرجيب بصفة شخصية وعبرت له عن رغبتي في نقل الأيتام من المستشفى الأميري لتجنيبهم الإصابة بالأمراض، ووافقني الرأي، وتعاونت معي في البداية الأخت نورية الحميضي، وأعطى الرجيب الموضوع اهتماماً، فنقل الأطفال إلى اشراف دائرة الشؤون في عام 1958، واختير بيت الشيخ سالم العلي ليكون مأوى لهم في العديلية.
مأوى الأيتام
وواصلت التردد على هذا المأوى وتفقد أحوالهم، وحين تألفت لجنة الأيتام بعد تحول دائرة الشؤون إلى وزارة، أصبحت عضواً في هذه اللجنة، وقدمت أفكاراً عن أفضل السبل لمساعدتهم والنظر في مستقبلهم، وأهم هذه الأفكار أن تتم تسميتهم ويمنحوا شهادات ميلاد.
كان لوزير الشؤون آنذاك عبدالعزيز محمود بوشهري دور فاعل في هذا الاطار، وقد بقيت في اللجنة إلى الوقت الذي اتفق فيه على منحهم أسماء وشهادات ميلاد.
من جانب آخر، طرحت أنه حتى مع وجود فكرة التبني، فيجب على الوزارة أن تظل مسؤولة عنهم، وتظل على صلة بالعائلات التي تبنت هؤلاء الأطفال، وزيارتهم وتفقد أحوالهم، لنبقى على علم بظروف حياتهم، ويظل ضميرنا مرتاحاً، فهؤلاء في النهاية أبناؤنا.
هذه الفكرة الأخيرة طبقتها عملياً وأفتخر بها، فقد وفرت الحماية للأطفال من الأمراض، ومن الآثار التي تلحق بهم حين تتخلى العائلات عنهم، وما عملت له وتمنيته دائماً هو الاشراف الاجتماعي ومتابعة أوضاعهم الصحية والاجتماعية والتعليمية.
إلى الجزائر
في عهد وزارة عبد العزيز الصقر أيضاً، حدثت قصة بعثتنا الطبية إلى الجزائر التي كنت مسؤولا عنها بصفتي مديرا لمكتبه في عام 1962.
استقلت الجزائر، وبدأ الجزائريون يدخلون إلى المدن، الجزائر وسيدي بلعباس وعين تموشن.. إلخ، بعد حرب التحرير الطاحنة طيلة سنوات الخمسينات، وظهرت الحاجة إلى مد يد العون الإنساني لمجتمع عزله الاستعمارالفرنسي طويلا وعاث فيه فساداً وتخريباً، وها هو يقف الآن على مشارف بناء حياته الجديدة.
وطلب الوزير إرسال مساعدات إلى الجزائر تتضمن أدوية وأطباء وممرضين. فتشكلت البعثة وفيها معي د. محمد أبوستة ود. توفيق الترك ود. فؤاد ظريفة ورئيس مضمدي العمليات في المستشفى الأميري طاهر عبد الرحمن وعبد الله علي الصانع وممرضتان.
سافرت، وأنا على رأسها، بوساطة طيران عبر البلاد التي كان وكيلها الشيخ دعيج السلمان الصباح. كانت طائرة ذات أربعة محركات تحمل كامل معداتنا ظلت تشق الهواء طيلة أربع ساعات إلى القاهرة. حين وصلنا استقبلنا المرحوم عبد العزيز حسين سفير الكويت آنذاك في مصر بحفاوة، وعبر لنا عن سعادته البالغة بهذه المبادرة.
استرحنا ريثما يعيدون تزويد الطائرة بالوقود، ثم انطلقنا. حين وصلنا إلى تونس أخبرونا أن ليس لدينا تصريح بالهبوط في مطار تونس، أي أن علينا أن نقلع عائدين. طلبت منهم الاتصال بالهلال الأحمر الجزائري، وقلت لهم:
«سأبقى معكم في انتظار الجواب، على أن يذهب أفراد البعثة إلى فندق للاستراحة، وإذا ثبت أن ليس هناك اتفاق على قدومنا، فافعلوا ماتشاؤون».
ذهب أفراد البعثة للاستراحة في فنـدق غـراند في شارع بـورقيبة، وبقيت عندهم لكي أشعرهم بالإطمئنـان. لم يمض إلا وقت قصيـر حتى جاء ممثـل الهلال الأحمر الجزائـري وتحدث مع التونسيين. كان لهذه المؤسسة الجزائرية رهبـة في ذلك الوقـت والكـل يهابهـا ويخشاها.
صحيح أن الجزائر حصلت على استقلالها، إلا أن الحكومة المؤقتة برئاسة يوسف بن خدة لم تكن قد وصلت بعد. ومنحنا التونسيون تصريحا بكفالة الهلال الأحمر الجزائري، فالتحقت بأفراد البعثة في الفندق حيث أقمنا ليلتين ننتظرالطيران الفرنسي لنقل الأطباء والمعدات لأنه الطيران الوحيد المسموح له بدخول الجزائر. وتم ترتيب أمر الرحلة.
في اليوم الثـاني صادف أن وصلت الحكومـة الجزائرية المؤقتة في طريقها إلى طرابلس الغـرب لحضور المؤتمر الوطني، وكان بين أعضائها أحمد بن بيلا فأردنا الذهـاب والسلام عليهم، أنـا وأفراد البعثـة الطبية.
التقينا بـأعضاء الحكومـة في قـاعـة، فألقى بن خـدة كلمة ترحيب بالبعثة وشكر للكويت موقفها، وشكرته من جانبي، وعبرت له عن مشاعر الكويت تجـاه الجزائر، وأذكر أنني قلـت له :
«اسمح لي سيدي الرئيس بقول كلمة واحدة لك، أرجو أن تبقيها في خلدك دائماً؛ لن توجد دولة عربية مستقلة ما دامت إسرائيل موجودة».
فسألني بن خدة:
«مـاذا تقصد؟»
قلت :
«نحن سعـداء باسـتقـلال الجـزائـر، ولكنني لا أعتبره موجوداً ما دامت إسرائيل موجودة».
قال :
«بارك الله فيك».
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت ***************** فان تولوا فبالاشرار تنقاد
|