السدرة(5)
بين الأسرّة البيضاء
في هذا الجو الخمسيني تفتحت طرقٌ على الصعيد العام والخاص، أي على صعيد الدولة والمجتمع وعلى صعيد الأفراد، في كويت جديدة بدأت تلوح آفاقها، كما قلت، مع بدايـة تصدير النفط، أضف إلى ذلك ما بـدأ يحـدث على الصعيد العربي حـولنا فيلقي بظلاله، إن خيراً أو شراً، على امتداد الخريطة العربية. وبدا أن منطقتنا، وبلدنا معها، ترحل إلى عصـر آخر، ونجد كأفـراد وجماعات أن علينا أن نتحرك أيضاً ونغادر نوافذنا وأبوابنا التقليدية إلى ساحات جديدة.
على صعيد الطب الوقائي والطب العلاجي، تم نقل القسمين إلى دائرة الصحة، ونقلوا د. بيري من المستشفى الأميري إلى دائرة الصحة، وتسلم رئيس الأطباء القسم العلاجي، ونقل د. برعي ليكون مسؤولا عن الطب الوقائي، وظل في هذا المنصب فترة لا بأس بها.
وسط هذه التنقلات كنت أمارس عملي في المستشفيين، الأميري وملحقه الذي قمت بفرشه وتجهيزه بالكامل مع د. ماكريدي، ونقلت إليه عدداً من العيادات والأقسام. ولا أنسى تلك المطرة الشهيرة في عام 1954 حين حوصر في المستشفى ثمانية مرضى كانوا فيه بحاجة إلى الأكل، ولم تكن سيارة تستطيع الوصول إليه. فحملت الخبز والأكل على رأسي وخضت المياه التي وصلت إلى الركبتين بالقرب من الحجى ون (G1) ووصلت إلى المستشفى. كان د. ماكريدي موجودا، وسره عملي. لقد كان إنسانا اجتماعيا وطيباً.
محاولة تكتيكية
واستمر هطول المطر خمسة عشر يوما متصلة، مما اضطر الحكومة إلى توزيع بعض العائلات على بيوت ذوي الدخل المحدود قبل الانتهاء من بنائها. كانت أمطاراً فاقت أمطار السنة المعروفة باسم الهدامة، إذ بلغ عدد المتضررين 18 ألف نسمة وتهدم أكثر من 500 بيت.
كما لا أنسى حدثا مهماً مر بي في ذاك العام نفسه هو قيامي بمحاولة تكتيكية لإفشال عقد مؤتمر طبي كان يعقد في الكويت دائما، احتجاجاً على تسميته بـ «مؤتمر الخليج الفارسي» بدلا من مؤتمر الخليج العربي.
اعتاد المشاركة في هذا المؤتمر أطباء من دائرة الصحة وشركة نفط الكويت وأطباء من شركة النفط الإيرانية في عبادان، ومن شركة بابكو البحرينية.
حين تقرر عقد هذا المؤتمر كان الشيخ فهد السالم خارج الكويت، وكان علي الداوود مدير عام دائرة الصحة في حينها، أما د. بيري فكان من أشد المتحمسين لهذا المؤتمر. وفي الليلة التي سبقت الإنعقاد اتصلت بعلي الداوود ونقلت له احتجاجي على التسمية، وقلت له إنها تناقض قرار أمير البلاد الشيخ عبدالله السالم بأن تطلق على المؤتمر تسمية «مؤتمر الخليج العربي».
قال علي الداوود: «وما الحل؟»
قلت: «تظـاهر بالمرض حتى لا تضطر إلى افتتـاح المـؤتمر، وأنـا اذهب إلى د.بيري وأقول له إنك مريـض».
واتصلت في الليلة نفسها بجريدة «الفجر» وكتبت خبرا عن المؤتمر تضمن احتجاجا على تسميته لأنها تناقض القرار الأميري. وفي الساعة السادسة صباح اليوم التالي كنت في المستشفى الأميري وأخبرت د. بيري بمرض علي الداوود، وأضفت:
«اعتقـد أن سبب تغيبـه الحقيقي عن المؤتمـر هو اسمه الذي يعتبر ضد قرار الشيخ عبـد الله السـالم».
فاستشاط د. بيري غضباً. إلا أن غضبه لم ينفعه، فقد انعقد المؤتمر إلا أنه فشل، وكان آخر مؤتمر يعقد تحت تسمية «مؤتمر الخليج الفارسي».
صراع الأطباء
في هذه الفترة أصبح لدينا مستشفى المصح الصدري، المتخصص بالقلب الآن بجوار ثانوية الشويخ، مقر جامعة الكويت حالياً. وعمل في المصح الصدري د.أحمد سلامة ود. شعبان، وكرنيك اغصوبيان مسؤولا عن قسم السل النسائي.
واتضحت ملامح صراع بين فريقين من الأطباء، بين الفلسطينيين والمصريين، ليضاف هذا إلى الصراع مع جبهة د.بيري.
اذكر أن مجرد مجيء طبيب عربي جديد من أي مكان كان يثير استياء د.بيري، وبخاصة إذا لم يكن عن طريقه، كما حدث حين استقدم الشيخ فهد السالم د.أحمد مطاوع أول طبيب عربي يحمل شهادة في الجراحة مع شهادة زمالة.
في عـام 1959 حـل الشيـخ صباح السالم الصباح محـل الشيخ فهد بعد تنحيه عن منصبـه، واستعان الشيخ صباح بعبد الرحمن العتيقي الذي عمل معـه في دائرة الشرطة، فاستبدل به علي الداوود بعـد استقالته. وكان عبد المحسن المتروك مساعداً للعتيقي الذي ظل في منصبه حتى عام 1960.
وسيطر عبد الرحمن العتيقي على الوضع تقريباً، وصارت علاقته بدكتور بيري ممتازة وطيبة. كان دبلوماسياً والسلطة كلها للانجليز. أما الشيخ صباح فكان عطوفا يتميز بالطيبة. واذكر موقفا حدث لي معه ذات يوم حين زارني في مكتبي.
منشورات في مكتبي
كانوا يقومـون ببناء أقسام جديدة مسقوفـة في المستشفى الأميـري، فنقلنا مكاتبنـا الى بيت البسام المجاور للمستشفى في الزاويـة الشرقيـة الشمالية.
في هذا المكان دخل الشيخ صباح مكتبي مصادفة وعلى غير توقع، فنهضت وحييته ودعوته للجلوس الى مكتبي. جلس وبدأ يبادلني الحديث الا أنه خلال ذلك فتح أحد ادراج المكتب، فوجد فيه منشورات توعية وتأييد للتحركات الشعبية في البحرين. فسألني:
«ما هذا؟»
قلت:
«لا أعرف.. هذه منشورات أحضرها أحدهم»
فابتسم الشيخ وهو يتصفح المنشورات، ثم قال ببساطة:
«لا.. أنا اعرف الموضوع.. لاحاجة للف والدوران.. أنا أتفهم موضوع هذه المنشورات»
كنت في الحقيقة أقوم بتوزيع هذه المنشورات.
خرج الشيـخ، ورافقه الى مدير المستشفـى د. سامي بشارة. وفي طريقنـا صادفنـا د. عبد الرزاق العدواني، فمازحـه الشيخ وهو يشير الي:
«ضـع همـك في علمـك وتخصصك، ايـاك وسـماع كلام برجس البرجس، والا قادك الى داهية».
لم يكن يعني ما يقـول حرفياً، ولكنه كان قـد شغل منصب رئيس دائـرة الشرطـة، ولا بد أنـه كان لا يزال أسير حـذره في منصبـه ذاك حتى بعد أن أصبح رئيساً لدائـرة يتحرك فيها أطباء وممرضون لاشرطة ولا مخبرون. أناس لهم مشاكل من نوع مختلف، أو هم سبب مشاكل من هذا النـوع.
لقد طغت النزاعـات والمنافسات بالفعـل على المسائل الطبيـة بعامـة، سواء كان طباً وقائياً أو علاجياً، فسار التقدم فيها ببطء وعبر المنازعات والتداخل بين الوقائي والعلاجي. مثلا استقدموا في قسم الولادة د. علي التنير ود. عبـد المنعم أبـو ذكرى ود. أحمد نعيم ود. حسان حتحـوت ود. عبد اللطيـف علكـة العـراقي المختص بأمراض النساء والولادة، ثم استقدموا آخر اسمه د. ليـج مسؤولا عن المختبر، ولكن لم تكن هناك امكانات للتشخيص، وترسل الحالات الصعبة الى لندن للفحص والتشخيص والحصول على نتائج على حساب الحكومة وبوساطتها.
العـيـنـات
كانت الولادة تتم في مستشفى الأميري آنذاك، وكذلك كان فيه قسم الأطفال، ولم تنتقل الى مستشفى الصباح بعد افتتاحه الا في 20 يونيو 1962.
اختفى الضباب في لندن
في عام 1955 اقترح عليّ د. بيري الذهاب الى لندن للاطلاع على تجربة المستشفيات هناك، في دورة مركزة لمدة ثلاثة شهور رتبها المعهد البريطاني. وبالفعل ذهبت في شهر يونيو. كان الوضع في لندن آنذاك مختلفا عما هو عليه الآن. للمستشفيات نظام خاص مختلف، بمجلس ادارة وسكرتير. ويتكون مجلس الادارة من رئيس الشؤون المالية ورئيس الصيانة ورئيس التغذية ورئيسة الممرضات، وعضوين او ثلاثة من الخارج. هذا هو النظام الانكليزي. ويجري تحريكه عن طريق مجلس الادارة هذا الذي يقرر الميزانية والترقيات وصرف المواد الغذائية والأدوية. في ذلك الوقت كان للمستشفيات ميزانيات مستقلة.
يضاف الى هذا، تنتظم المستشفيات على شكل مجموعات، تضم كل مجموعة ثلاثة أو أربعة مستشفيات أحدها رئيسي والبقية تتبعه. مثلا هناك مجموعة «ذا ميدل سكس» ومجموعة «ذا مين هوسبيتال» ومجموعة « سانت هيليا». هذه مستشفيات رئيسية تتبعها مستشفيات أخرى، مستشفى للأطفال على سبيل المثال أو غيره. ولكن لا يوجد فيها أساتذة، فهؤلاء يكونون في «مستشفى التعليم».
المطاعم هناك منظمة ونظيفة، وعندما تنتهي من تناول الطعام ليس من المقبول أن تقدم «بقشيشا»، فماذا تفعل؟ تضع ستة بنسات تحت الطبق. لايجوز أن تمد يدك وتعطي العامل مباشرة، فهذا الأمر لايعتبر لطيفا ابدا. هناك شيء آخر؛ اذا أحضروا أدوات المائدة فعليك أن تقول شكرا أو أي شيء من هذا القبيل، والا نظروا اليك نظرتهم الى انسان غير متحضر.
الوضع مختلف الآن، فاذا لم تناول العامل بقشيشا فسينظر اليك نظرته الى شخص غير حضاري! بل أصبحوا يضعون ثمن الخدمة مقدما على الفاتورة. ويتساءل من يزور لندن الآن، أين تلك الكثرة الكاثرة من الناس، 90%، التي كنت تشاهدها تقرأ الصحف في القطارات والحافلات؟.
مررت برحلتي الى لندن في بيروت، ونمت فيها ليلة في فندق كارلتون، وفي اليوم التالي سافرت الى نيقوسيا ثم روما، ومن هناك الى لندن واستغرقت الرحلة 12 ساعة. وحين وصلت كان مطار لندن يشهد افتتاح ممر جديد.
سيارة اسعاف
كان هناك وكيل للكويت هو بوليجليز، وسبقتني اليه برقية أرسلها د. بيري تطلب منه استقبالي، فجـاء الى المطـار بسيارة اسعاف ظناً منـه أنني مريض قـادم من الكويت. كنت أول كويتي يرسل الى لندن للتدرب على نظـام المستشفيات، فأخـذني الى وكالـة الكويت، اذ لم تكن لدينا سفارة في ذلك الوقت، ومن هناك أرسلني بالسيارة مع سائق الى سكن داخلي يقـع في كولنجهام جاردن رقم 28. وفي هذا السكن لم أجد غرفـة فأنزلوني في غرفة المكانس حتى اليـوم الثاني. من وجد لي مسكنا بتكليف من بوليجليز صديقي محمد خلف كان مسؤولا عن مكتب الشؤون العسكرية، وهـو من أخـذني الى المعهد البريطاني لأبدأ التدرب، وحـدد لي المعهد مستشفى تابعـاً لمجموعة هوكني في منطقـة شعبيـة في شرق لندن. وفي طريقي اليه كنـت أستقل القطار يوميـاً من محطة جنوب كنستون الى محطـة ليفربول، ثم أستقـل حافلة الى المستشفى.
المكتب الصحي
المكتب الصحي في لندن كان مسؤولا عنه د. بيلي بالاضافة الى صفته كمسؤول ثقافي، ثم أصبح المسؤول فؤاد سمعان، وبعد ذلك أرسلت الكويت كويتيا هو رشدان المرشد ليكون مسؤولا عن المكتب الصحي، وتسلمه بعده حسن درويش، ثم العدساني. أما العمل وقتها فمرتجل يعتمد على اجتهاد الشخص نفسه. وتنقل المكتب بين ثلاث مناطق لندنية، الى ان استقر في مكان السفارة في شارع ديفونشاير.
هنـاك سكنت لمـدة يومين أو ثلاثـة، ثم بحثت عن مسكن آخر في ساوث كينغستون في آنسلو جـاردن، ووجدت غرفة ايجارها 8 جنيهات أسبوعياً. غرفة عادية. وكانت دورة الميـاه مشتركة بـين سكان الطابـق كله. لغتي الانكليزية متوسطة بحيث أستطيع بها تـدبير أموري، وشعرت في لندن أنني رأيت عالماً آخر. حتى ملابسي كانت صيفية والجو في لندن شتائي والأمطـار غزيرة. الآن أصبح المطـر أقل، بل واختفى الضباب واختفت معه صفة مدينـة الضباب. وطيلـة ثلاثـة أشهر قضيتها هناك، كانت الحياة بالنسبة لي غريبة شعرت معها بالحنين الى الكويـت.
في المستشفى لم يكن هناك أحد يعلمني اثناء عملي، ولم أعط أي انتباه، وتركت في الأقسام لأتعلم وحدي. لم يكن لدي خلال تلك الأيام ما يكفي من المال، فكنت آكل وجبة واحدة في اليوم وأشرب الكثير من الحليب. ولكن حظي كان جيداً اذ التقيت بعدد من الأصدقاء، ففي لندن آنذاك كان طلبة كويتيون يدرسون الطب مثل عبد الرزاق العدواني وعبد الرزاق العبد الرزاق، ويدرسون الأدب الانكليزي مثل سليمان المطوع. والتقيت هناك أيضاً بمعجب الدوسري ويوسف الشايجي وقاسم الياقوت السفير في باكستان وروما. كان لدينا طلبة في مانشستر وليفربول ومناطق أخرى، وكلهم مبتعثون.
بعد عودتي الى الكويت، عدت الى العمل في المستشفى الأميري وملحقه في الصليبخات، وحاولت ادخال بعض الاجراءات الادارية البسيطة على مستشفياتنا، مثل تنظيم المخازن والاعتمـاد على الصيانـة والشؤون الماليـة، أما بقيـة اقتراحاتي، مثل ايجاد مجلس ادارة يتكون من رئيس الشؤون المالية ورئيس قسم الصيانة ورئيس قسم الامـدادات الغذائية ومدير المستشفى كسكرتير، فلم يوافقوا عليها. وحتى د. بيري الذي اقترح علي التدرب على تنظيم المستشفيات عارض، وكذلك أعضاء مجلس الادارة لأنهم لم يستوعبوا الأمر واعتبروا هذا النظام تدخلا في شؤون دائرة الصحة.
كل شيء كان بحاجـة الى تنظيـم، فحتى شهادات الميـلاد لم تكن موجـودة، التسجيل غير منظم؛ تعطى شهادة من المستشفى أن فلانـاً أو فلانـة ولد أو بنت ويضعون الاسـم، ويعطون شهادة. لم يفكر أحد بقضايا الجنسيات وتبعات الميلاد. وكان المرضى يدخلـون ويطلبون العلاج. المهم أن يعرفوا أن فلانة كويتية فقـط، والكل مسموح له أن يأخذ دوره، سـواء كـان كويتيـاً أو غير كويتـي.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت ***************** فان تولوا فبالاشرار تنقاد
|