السدرة بين أزهار النوير (3)
في الحلقة الثالثة من «السدرة» يحكي برجس البرجس قصة كفاحه في التعليم بعدما ترك المدرسة واعتمد التثقيف الذاتي، كما يروي قصة سفرته الاولى الى بغداد ولقائه الاول مع الرجل الذي سيصبح لاحقا أحد اصدقاء العمر، وهو صالح العجيري الذي كان ذاهبا الى العاصمة العراقية كي يطبع روزنامته، حيث لم تكن المطبعة قد دخلت الكويت بعد.
مع عام 1946، أي مع نهاية الحرب، بدأت تتغير أشياء كثيرة، ربما أبرزها بداية عمل شركة نفط الكويت KOC، ووصولي الى المحطة الأخيرة في المدرسة القبلية. في هذه السنة بدأ تصدير النفط، مع أنه كان مكتشفاً منذ الثلاثينات في منطقة بحرة وراء كاظمة، وبعد ذلك في برقان، ولكن العمل في هذه الحقول توقف بسبب الحرب.
كانت الحياة قاسية على الجميع، لذا اضطررت الى ترك الدراسة ومباشرة حياة العمل في شركة النفط، حياة العمل التي ظلت متواصلة منذ ذلك الوقت، وظل قلبي على الدراسة في الوقت نفسه، جامعا بين التقلب في الوظائف وبين حرصي على تلقي دروس خصوصية.
في البداية، استطعت، بالقليل من المال الذي أوفره بين فترة وأخرى، الاستعانة بمدرس لغة انكليزية، ثم وسعت الدائرة الى تلقي دروس خصوصية في الرياضيات والتاريخ واللغة والأدب العربي والكيمياء والطبيعيات، بعد انتقالي الى العمل في وزارة الصحة، على يد مدرسين هنود وفلسطينيين أدفع لهم من جيبي الخاص.
تثقيف ذاتي
منذ تركي المدرسة القبلية لم أدخل امتحانا، وسيطر التعليم الذاتي على مسار حياتي وثقافتي. وربما كان عدم حصولي على شهادة جامعية في بداية حياتي العملية هو المحفز الأكبر لي لتأكيد قدراتي، فجاهدت لأحصل على أكبر قدر من العلم؛ كثفت القراءة، بالاضافة الى الدروس الخصوصية وسط حياتي العملية.
في البداية، تلخص عملي في تسجيل بيانات البضائع الخاصة بشركة النفط التي تنزلها البواخر؛ تسجيل علاماتها التجارية وأعدادها قبل أن يتم نقلها الى الأحمدي. تقف البواخر على مبعدة من الشاطئ مقابل دسمان من ناحية البحر، وتنزل بضائعها في ناقلات صغيرة تسحب الى ميناء الشويخ، وهناك تنزلها الرافعات.
على رصيف التفريغ هذا، عملت لمدة تقارب الشهرين، ثم نقلوني للعمل في محطة تجميع البنزين في الشويخ. هناك حيث تجيء دائما الباخرة «تسيلا» قادمة من عبادان الى الكويت محملة بالبنزين، فنستقبلها وهي تفرغه في الخزانات، ومن ثم تنقله الشاحنات المخصصة لنقل البترول الى الأحمدي أيضاً.
ويبدأ عملي، وعمل زملاء معي من بينهم علي المتروك، بعد أن تصل الباخرة الى الميناء وتقوم بتفريغ شحنتها في الخزانات، فنعتلي الخزانات ليلا ونقوم بقياس العداد والهواء البارد يهب علينا. أما رائحة البنزين والهواء المتصاعد من قلب الخزانات حين نفتح أغطيتها فكان يورثنا الدوار. ولا نستطيع شيئا بالطبع، هذا هو عملنا. كنا نسعى وراء لقمة العيش.
الراتب الشهري
كان راتبي في البداية ككاتب يسجل بيانات البضائع 157 روبية ونصف الروبية، والأهم هو نصف الروبية هذا. كم كانت عزيزة هذه الروبيات بعد شهر من الوقوف يومياً على رصيف الميناء والتحديق بعلامات البضائع وعدها، والحرص على أن يكون التسجيل دقيقاً والعدد صحيحاً.
بالنسبة لي كان الراتـب جيداً، وكذلك رواتب وأوضاع العاملين في الشركة، وقد توزعوا على وظائف مختلفة بين حرفيين وموظفين منهم الصغير ومنهم الكبير. وعمل معنا أولاد عائلات غنية.
والحقيقة أن أعداداً لا بأس بها من أهل الكويت عملوا في الشركة في هجرة شبه جماعية من أعمالهم التقليدية نحو حياة أكثر حداثة حملت وعوداً بالتغيير في أكثر من جانب من جوانب الحياة، فكان منهم العمال والنواخذة. وأذكر من هؤلاء عبدالرحمن العتيقي، وكان مسؤولا عن تعيين الموظفين، وسعود الفوزان وبدر السالم.
مَنْ استفاد؟
والحقيقة أن شركة النفط أخذت كل أهل البحر تقريباً خلال السنوات 1948 و1949، أعني الذين كانت مهنتهم الغوص والسفر، واعطوهم أعمالا في البواخر، فمن لم يكن نوخذة اشتغل عاملا، ولهذا كانت غالبية اليد العاملة من الكويتيين.
ولكن لابد من القول انهم لم ينصفوا اليد العاملة الكويتيـة آنذاك، فكانت الرواتب متدنية. ولم يستفد من العمل في شركة النفط استفادة ملحوظة سوى أفراد معينين، أناس لهم أسلوب خاص حصلوا على مراكز واستفادوا مالياً، أما بقية العاملين فلم يكن من نصيبهم سوى رواتبهم.
ومع ذلك كانت الوعود مثمرة في بعض النواحي، فبدأ نوع من الرخاء يتسرب الى الحياة في الكويت شيئاً فشيئاً بعد سنوات التقشف والحرمان التي فرضتها ظروف الحرب، وفرضها انتهاء زمن الغوص على اللؤلؤ الذي كسرته مزارع اللؤلؤ اليابانية، وتضاؤل فرص تشغيل سفن التجارة البحرية.
بـدأ الأكل يتحسن مـع توافـد المـواد الغـذائية وتنفرج الأسارير في ضوء الدخل المضمون على قلته في يد البعض. وتحسنت أيضاً لغتي الانجليزية خلال عملي مع تزايد حضور المتحدثين بهذه اللغة.
بيوت الأحمدي
والظاهرة الأكثر لفتاً للنظر كان حضور الانكليز المتزايد مع توسع أعمال الشركة، لكنهم لم يختلطوا بالجو الاجتماعي الكويتي بعامة، وصنعوا لهم جوا خاصا تجمعوا تحت مظلته في الأحمدي، فكان لهم نادي حبارى الخاص بهم، ولهم بيوتهم الشبيهة ببيوت المنتجعات الريفية ذات الطابق الأرضي الواحد بحدائقها الأمامية الصغيرة، ولهم ملاعبهم الخضراء التي مارسوا فيها هواياتهم المفضلة، الغولف والسباق والاسترخاء في الأماكن الخلوية.
ومع ذلك حملت طبيعة الحياة التي بدأت تمثل أمام أعيننا مع حركة تصدير البترول وهجرتنا إلى الأعمال الجديدة منافذ ومداخل لنا إلى العالم المعاصر.
قبـل ذلك كان العـالم يصلنا عبر راديـو أو حكايات بحـارة ونواخـذة وتجار، وتـدور أخباره بيننا كما تدور الاشاعات، أمـا الآن فها هو يقترب منـا ويأتي إلينا بناقلاته وأشخاصه وصـوره الحيـة.
حياة تتغير
بدأت الحياة تتغير، بدأت تظهر سيارات في الشوارع، وتظهر شركات مقاولات تعمل مع شركة النفط، وتستخدم عمالا كويتيين وغير كويتيين، وحظي أصحاب هذه الشركات بأوضاع مالية جيدة. ولكن عادة السير على الأقدام لم تغادرنا في بعض الأحيان، وحتى بعد أن غادرتنا ظلت أحداثها الطريفة تعود إلى الذاكرة.
كان عملنا في محطة البنزين في الشويخ مناوبة، فيبدأ دوامك مثلا في الواحدة ظهراً وحتى الحاديـة عشر ليلا. وكثيراً ما كنا نعـود إلى الكويت سيراً عـلى أقدامنا، فنجد كل البوابـات مغلقة. كانت هـذه البوابات نوافـذ السور الكبير المحيط بالكويـت، والذي ظل قائماً منـذ بنائه في عام 1920 حتى عام 1957، فالكويت حالها حال المدن القديمـة تغلق أبوابها مساء لتحمي أهلها وتصونهم.
هـذه البوابـات هي البريعصي والشامية والجهراء والمقصب وبنيـد القار وشرق. والساعـة الحادية عشر هي موعد الإغلاق، وتكون سيارات الشركة قد أنهت أعمالها ودخلت من بوابة الجهراء قبل هذا الموعد، ويندر أن يستجيب الحارس لنداء المشاة المتأخرين من أمثالنا فيفتح البوابة.
ويزيد الأمر سوء أن عشيشا، أي أكواخاً سكنية بدائية، كانت تنتشر في منطقة المحطة، ويقيم بدو مع كلابهم، مما كان يحول رحلة العودة إلى نزهة محفوفة بالخطر، وكم من مرة فوجئنا بالكلاب تركض وراءنا وأمامنا البوابات مغلقة!
عبر المسلخ إلى البيت
في هذه الأوقات العصيبة كنت وزميلي المرحوم إبراهيم المضف نقدم رجلا ونؤخر أخرى، فأقول له أن يتقدمني، وإذا لم يحدث شيء مفاجئ، كنت أتقدم. وحين يعيرنا حارس البوابة أذنا صماء، نضطر إلى الهرولة إلى المقصب أي المسلخ على شاطئ البحر، ونهبط ونخوض والماء يغطي نصف الجسم، ثم نعتلي صخور الشاطئ متسللين. لولا هذه الطريقة ما كنا نستطيع الوصول الى بيوتنا.
ما بعد النفط
من الواضح أن طبيعة الحياة، الحياة التي بدأنا نطلق عليها تسمية مابعد النفط، تختلف عما قبلها. ليس لأن التغير بدأ يلم بالموجودات من حولنا فقط، بل لأن هذه التغيرات بدأت تلم بنفوسنا أيضا وان بدت طفيفة في البداية. كل مايتغير حولك يؤثر فيك والعكس صحيح. أنت جزء من كلّ حتى، وان كنت لاتعي هذا، والكل أوسع من فريج الصغر وبساتين الجهراء وهذه المسافة بين محطة البنزين في الشويخ وبوابة الجهراء، انه يمتد الى عوالم تظل دائما وراء الأفق حتى وان اقترب بعضها وتكشف.
كل ما يتغير من حولك هو نافذة ومدخل الى عالم آخر. صحيح ان البحـر واسع بما يكفي لتخيل شواطيء ومدن صاخبة وأجناس بشرية مختلفة، وصحيح ان الطرق البرية تأكيد لوجود بساتين ومدن أخرى، الا أنك ان لم تخط خطواتك الأولى، سـواء على الطرق البحرية أو البرية، ستظل حبيس تخيلاتك، أو ما يصوره الوهم لك. وستظل حبيس ماضيك تقيس المسافات بمسطرتـه، وتتعرف على الجديد من نوافذه. ولم أكن من هذا الصنف. كنت تواقـا للتجربة والمعرفـة والعلم بما لم أعـلم.
اول سفر
وهكذا ما أن سنحت لي أول فرصة في عام 1951 للسفر في عطلة الأعياد حتى انطلقت في أول رحلة لي خارج الكويت، الرحيل الى البصرة، بصرة النخيل والأشجار والشوارع التي لم نألف مثيلا لها في الكويت. بصرة المياه والأنهار والخضرة، وكلها مما يمتلك جمالا كان آنذاك تجربة جديدة، أو مشهدا أود أن أقرأ كل حرف فيه.
كان عـدد من تجار الكويـت يقيم في البصرة اثناء الحـرب العالميـة الثانيـة، فهي مركز تجـاري، والكويت مركز لصناعة السفن الشراعيـة، وللتجار هناك بساتين نخيل كثيرة تنتج التمور، وتصدر هـذه التمور الى الهند بوساطة السفن الكويتية. من هؤلاء التجار المقيمين، في البصرة عبدالله الصقر وجاسم الصقر لرعاية مصالحهم وأملاكهم ومحمد الغانم وآخرون، ولديهم مكاتب، وقد شكلوا طبقة لم نختلط بها وان كنا نراهـا من بعيـد وهي مشغولة بشؤونهـا ومسؤولياتهـا.
بالاضافة الى هذا كانت للكويتيين بالبصرة علاقات وثيقة عبر الارتباطات العائلية، مثلما كانت لهم علاقات وثيقة بأهالي الزبير على مبعدة 20 كيلو مترا جنوب البصرة. ومع ندرة وجود عائلات كويتية في الزبير الا أن علاقات المصاهرة مع سكان هذه البلدة الذين ترجع أصولهم الى نجد كانت متواصلة.
طريق السكة
طريقنا إلى البصرة كان يسمى طريق السكة، وفي كل عام بعد موسم الأمطار ومجيء الربيع، يذهب إليه مشرفون مع عمال لإصلاحه، وكان جدي عثمان الموسى أحد هؤلاء المشرفين، وكذلك بوعبدالرزاق العبدالجليل.
على هذا الطريق انطلقت إلى البصرة بالسيارة مع أصدقائي، ومنهم محمد البدر بن حمد الناصر البدر، فنزلنا معا فندق سميراميس. كان الطعام شهيا ومنوعاً، وقدموا لنا في مطعم العصري التشريب كإفطار، والقوزي مع التمن على الغداء، وكل هذه مأكولات نفيسة. وهناك عرفنا الساندويشات التي كانوا يسمونها «لفة».
في نظرنا كانت البصرة جميلة جداً، وبخاصة ذلك الجزء الشمالي منها على ضفاف شط العرب المسمى العشار، والذي يعد مركزها التجاري بشارعه الطويل الممتد بضعة كيلومترات على طول الشط. في ذلك الزمن ازدهرت هذه المنطقة بالأشجار والشوارع والحركة التجارية والمكتبات وصالات السينما والمقاهي، وهو ما لم يكن متوافرا في الكويت. وأذكر أن سينما الوطني هناك كانت تعرض آنذاك فيلم عنترة وعبلة، وكان مبنى الفندق الذي نزلناه ممتازاً، وفي غرفه مرش استحمام صادفناه لأول مرة. أما طريقة تكييف الهواء فكانت مما نصادفه لأول مرة أيضا. تغطى النوافذ من الخارج بإطار شبكي مصنوع من جريد النخيل محشو بنبات شوكي أظنه العرفج، ويصب عليه الماء بين فترة وأخرى، فيتخلله هواء الصيف الساخن وينساب إلى الغرف باردا ورطباً.
في عام 1952 عدت إلى البصرة ثانية، ولكن مع فريق كرة السلة في النادي الأهلي، وهو نواة نادي الكويت الحالي، وقد تأسس في أوائل الخمسينات ليكون أول ناد رياضي كويتي قام لمنافسة الفرق الأجنبية. من أعضاء الفريق كان معي فهد الساير وعبدالمحسن الفرحان وخالد الحمد وخضير مشعان وفهد الصرعاوي وعبدالله مقهوي. ودخل فريقنا بلاعبيه هؤلاء مباراة ضد نادي الميناء البصراوي لكننا خسرناها.
الرحلة الثالثة
رحلتي الأولى خارج عالمي بدأت بمشهد فندق سميراميس وغرفه ومرشاته وتشريب المطعم العصري، وانتهت الثانية بخسارة مباراة، إلا أن رحلتي الثالثة بدأت بمصادفات مختلفة واتصلت بمدى أبعد مما ذهبت إليه في البداية.
كانت الرحلة هذه المرة إلى العاصمة بغداد، وفي عطلة الأعياد أيضاً، ومعي ابن عمي عبدالله ومحمد نصف السليمان النصف وداود العتيقي. كانت وسيلتنا قطارا يبدأ رحلته من محطة المعقل شمالي البصرة مساء، ويجر وراءه طيلة الليل عددا من القاطرات بمقاعدها الخشبية العارية، ببطء حينا وبتسارع في أحيان أخرى. وفي القطار حشد من الناس الريفيين على الأغلب الذاهبين إلى قراهم المتناثرة على امتـداد الطريق، فما ان يتوقف في محطـة حتـى يهبط أناس ويصعـد إليه أناس آخرون، ويهرع الباعة إلى نوافـذ القاطـرات ليعرضوا بضاعتهم عـلى المسافرين، الخبز واللبن والقيمـر.
العجيري والروزنامة
في هذا القطار التقينا مصادفة بصالح العجيري، وكان ذاهباً لطباعة روزنامته في بغداد حيث لم نكن عرفنا المطابع بعد، فاستفدنا من خبرته بهذا الطريق الذي يبدو أنه كان يتردد عليه كثيراً، وبخاصة من خبرته بأنواع الأطعمة التي يعرضها الباعة. حين وصلنا السماوة مع تباشير الصباح الأولى ألقى إلينا بنصيحته الأولى: «عليكم بالقيمر»! أي بالقشدة الشهيرة التي ينتجها الريفيون هناك من حليب الجواميس والأبقار. وبالفعل كانت نصيحته في محلها، فالقيمر مع الخبز الساخن فطور فاخر لا ينسى طعمه. وكانت النصيحة الثانية الذهاب إلى فندق تروكاديرو، والنوم على سطحه طلباً للبرودة والهواء الطلق! وظل العجيري دليلنا في شوارع وأماكن بغداد التي يعرفها، بينما كنا نهبط عليها لأول مرة.
مع زهور حسين
في أول ليلة لنا ذهبنا، وبناء على نصيحته أيضاً، إلى ملهى صيفي لرؤية مطربة مشهورة اسمها زهور حسين. واتخذنا مجلسنا في المقاعد العليا المشرفة على قاعة الملهى المكتظة برواد من مختلف المشارب والأزياء، ريفيون تميزهم الكوفية والعقال الضخم والشوارب الكثة، وسكان مدن من الموظفين والطلبة يرتدون الملابس الغربية، البنطلون والقميص، وعمال من المناطق الشعبية مفتولو العضلات تميل على رؤوسهم الفيصلية. كل هؤلاء كانوا يجلسون فرادى أو جماعات حول طاولات تتوسطها زجاجات العرق العراقي الشهير باسم أبو كلبشة وأمامهم المسرح الذي سيشهد ظهور المطربة.
هرج ومرج
كان الجو هادئا في البداية، ولكن مع مضي الوقت بدأ السكر يظهر على وجوه وتصرفات الشاربين، وما ان ظهرت زهور حسين وبدأت بالغناء حتى وقف عدد من لابسي العقال الضخم وقد استخفه الطرب، وبدأ كل يرمي عقاله على المسرح تحت قدمي المطربة وهم يترنحون، تعبيرا عن إعجابهم. بعد نصف ساعة بدأت معركة وسط هذا الحشد وتطايرت الزجاجات والشتائم والصرخات. وساد هرج ومرج لم نستطع معه الخروج وقد فوجئنا بانقلاب الموقف.
ولكن من حسن حظنا أن بجوار مجلسنا راقب المشهد معنا شاب وسيم يتمتع بحراسة ثلاثة مسلحين، فلاحظ ارتباكنا، ومن ملامحنا ولباسنا أدرك أننا لسنا من العراق، فقال لنا تعـالوا اخرجوا بصحبتنا. وسألنا عن هـذا الشـاب فقيل لنا انه أحد أبناء شمر. وعرض علينا مع مرافقيـه أن يصطحبنا إلى فندقنـا، إلا أننا لم نقبل، واتخـذنا طريقنا بسيارة أجرة. كانت هذه هي المرة الأولى والأخـيرة التي نغشى فيها أماكن مثل هـذه يختلط فيها الغناء الجميل بالشراب ومشاجرات السكارى.
.. في بيروت
في العام نفسه كانت رحلتي الرابعة الى العالم الخارجي، الى بيروت هذه المرة عبر دمشق، هناك ذهبت الى الجبل مباشرة، وفي فندق عبدالله مجاعص في بحمدون أقمنا لمدة ثماني ليال مع فطور وغداء وعشاء، وتحتنا مباشرة على منحدر ملهى طانيوس.
التقيت هناك بصديقي عبدالعزيز العتيبي الدائم التردد على بيروت بسبب حالة والده الصحية. وأصبح العتيبي دليلنا أيضا الى ساحات بيروت، الى ساحة البرج وساحة رياض الصلح، والشوارع الجانبية ومقاهيها، وشارع البحر والصخرة العالية الراسخة وسط الماء بتجويفها العجيب الذي جعلها أشبه بساقي عملاق بدين ضاع نصفه الأعلى وغاصت ساقاه حتى الركبتين في الماء. تلك هي صخرة الروشة كما تسمى، أو صخرة المنتحرين المفضلة للرحيل الى العالم الآخر، كما أصبحت في المشهور من القول.
كان الوقت صيفاً، ومع ذلك فالجو في الجبل كان يشيع البرودة المنعشة، وينتشر الضباب مساء فيغلف المنحدرات ويرف حولك وتحتك كأنه خيوط دخان تتموج في الرياح الخفيفة.
كل هذا كان أمراً باعثاً على الارتياح، سواء كانت الرحلة الى البصرة أو بغداد أو بيروت، وبخاصة حين لا تكون وحدك. فلكل مكان طابعه الخاص، لكنني كثيراً ما شعرت بالغربة حين يتصادف أن أسافر وحدي وأواجه الوجوه والأماكن كمن يصادف كتاباً يقرأه من دون مرشد أو دليل.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت ***************** فان تولوا فبالاشرار تنقاد
|