عرض مشاركة واحدة
  #15  
قديم 21-05-2010, 06:09 PM
الصورة الرمزية جون الكويت
جون الكويت جون الكويت غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 2,208
افتراضي


  • لا أكتب عن محمد الرشيد لأرثي خالي بل لأوفيه حقه كإنسان كان من بناة الحصون التي أحتمي فيها الآن
  • كانت النيابة متوثبة في نفسه.. وكان نائباً قبل البرلمان.. خُلق ليكون برلمانياً وممثلاً للشعب
  • في ذلك البيت القديم.. بدأت ذاكرتي تنسج خيوطها وتتعرف إليه .. رجلاً ذا هيبة.. حازماً برفق.. صارماً من غير شدة
  • أخرج الحق من جوف الحوت .. ولم تفتّ في عضده تلك التهديدات أو تثنه عن إرجاع الحق إلى أصحابه
كلما دنت يدي من القلم.. تلكَّأت اليد ونأى القلم..

وربما ما تلكأت يد.. ولا نأى قلم.. ولكنها النفس المصدومة.. والروح المفجوعة.. والمزاج المتكدر..
ذلك ما كان يباعد بيني وبين القلم.. وما يجعل الكلمات تفر مني.. وما يجعل السطور وكأنها مرافئ تفر من سفنها.. ومراسٍ تخون مراكبها..
ويح نفسي.. ألمّ بها ناعٍ فصدّعها ولوّعها.. وأحدق بها خبر الموت فصيّرها كعصفور في مخلب أسد..
فكيف للقلم أن يسير في يد.. لا تني ترتجف؟!
وكيف لعبارة تصدر وقد تراكمت الأحزان والتفّت النفس بالسواد؟!
إن الأزمـــان برجـــالها.. وبناسهـا.. وهذا الزمن.. الذي سحب محمد أحمد الرشيد.. كان يقول له: إني ضنين بك.. إذ أعزلك عنّي.. عن هذا الزمن الذي لو عشته صحيحا سليما عفيا.. لأوردك المهالك وأهال عليك أسقام الروح.. وأنت ترى ما تهدم من بناء كنت أحد بُناته..
اعطني ذاكرتك.. وشعاع عقلك.. حتى لا ترى الحق يروغ والباطل يسود.. تندس المنائر في جوف الأرض.. وتعلو على الرؤوس الأقدام..

على رصيف العقلانية
هل كنت منساقا وراء عاطفتي في تلك المقدمة؟
أم انني دنوت من رصيف العقلانية فيما انسقت إليه وسقته؟
ثم لماذا.. أكتب عن.. محمد احمد الرشيد.. بمثل هذا الدنو والاقتراب والملامسة العاطفية، وهو الشخصية العامة التي عرفها أدنياء هنا.. وأقصياء هناك.. وضيّعته ذاكرات ليست كثيرة؟
أكتب عنه.. لا لأنه جزء مني.. بل لأنني ـ أنا ـ جزء منه.
بحكم الدم.. هو خالي.. شقيق أمي..
ولكن.. كم من خالٍ.. خالٍ من حياة ابن شقيقته.. ومن ذاكرته.. وذكرياته وسطور قلمه..
خالٌ.. يُحلّه الدم.. ووشيجة القربى.. ويمضي ويمضي ابن الشقيقة وليس بينهما سوى وشيجة الدم.. وكفى بهما ذلك نسبا.. وهو ما نسجه لهما الزمن.. وحاكت خيوطه.. حياتيهما.
ولكن ما بيني.. وبين هذا الخال.. أكثر مما بين الأب وابنه..
لست بذلك أبالغ.. أو أستحضر مادة للرثاء.. وللكتابة المغروزة مناكبها بحروف الحزن.. ولا لاستدرار عواطف جامحات.. ولا لزمجرة الضوء حول هذه البقعة المكتوبة..
لست ـ وأنا الزاهد في كل ذلك ـ أفعل ذلك..
ولكن لأنني.. لا أحبس الحق عن صاحبه..
وهذا حق.. «محمد الرشيد» عليّ.. حق الخال.. وحقه كإنسان كان من بُناة الحصون التي أحتمي أنا بها الآن..
لذلك.. كتبت.. وليغفر لي من رأى بي شططا أو عسفا أو جنوحا..
ومن ظنني مرفرفا في سماء العاطفة.. أو مجنحا في فضاء تعودت أجنحتي التجنيح فيه..

الفاجعة
أحاول الدقة فيما أكتب ما استطعت إليها سبيلا، مستعينا بذاكرتي وهي ربما شيء مما أورثني إياه الخال «محمد الرشيد».
كنت دون الخامسة من عمري في أواخر أربعينيات القرن العشرين.. حين وعيته.
في بيت والده ـ جدي ـ «أحمد الرشيد» المقابل تماما لمسجد الفهد في حي المباركية، بدأت ذاكرتي تعيه.. في ذلك العمر الطفولي لم أكن أعرف معنى القرابة وماذا يعني خالي أو عمي أو جدي..
في ذلك البيت القديم.. بدأت ذاكرتي تنسج خيوطها.. وتتعرف إليه.. رجلا ذا هيبة.. حازما برفق صارما من غير شدة، وصوتا.. واضح النبرات.. دقيق التعبير.. سريع الوصول الى النهايات.. لا يطيل ولا يسهب ولا يستخدم من الكلمات الا ضروريّها..
يجمعنا نحن الصغار ـ أطفال العائلة ـ يختبر ذكاءنا بأسئلة تناسب طفولتنا.. وتحيي فينا شرف المنافسة.. وحصد الجوائز التي خبأها لنا..
ثم في بيته في منطقة نقرة الطواري.. وكانت برا ممتدا.. يدفعنا هناك للجري وممارسة الرياضة.. في زمن كان آمنا من سيارة جانحة وسائق أرعن..
كانت أرواح الصغار ـ آنذاك ـ مؤمّنة.. فلا خوف علينا.. ولا أهلنا يحزنون إلا من تلك الفاجعة.. والتي فقدت فيها الأسرة أحد أبنائها.. أو من كان بمثل تلك المنزلة.. حين قرر بعض فتية العائلة الذهاب الى بحر الشعب.. سيرا على الأقدام للسباحة دون استئذان.. فغرقوا ولولا نجدة من هب لنجدتهم لماتوا جميعا.. ولكن هذه النجدة قصرت عن أن تمتد لجسد غيّبه البحر فمات.. فكانت الفاجعة.

نائب بلا حصانة..
لا أريد أن أفسح لمخزون الذاكرة.. فسحة في هذا الورق.. فيجنح بي بعيدا ويشط عن بغيتي في الكتابة عن «محمد الرشيد» كرجل من الكويت.. ولكل الكويت.. وكشخصية عامة آمن بها الكثيرون وأحبوها.. حتى من اختلف معه أحبه واحترمه..
قبل أن يكون نائبا في مجلس الأمة.. وقبل ان تدخل الكويت ساحة الديموقراطية.. كانت النيابة متوثبة في نفسه.. كان نائبا قبل البرلمان.. خلق ليكون برلمانيا.. وممثلا للشعب..
تدلل على ذلك.. قصته مع ارض كانت ملكا لأخيه «راشد» المتوفى عام 1915 تقريبا وكان تاجرا يتاجر مع «روسيا القيصرية» وصاحب أملاك.. ومات «راشد» وله أولاد صغار.. ولكنهم كانوا أكبر من عمهم محمد الذي ولد في عام 1920 تقريبا.
وفي خمسينيات القرن العشرين ومع تطور الكويت وارتفاع أسعار الأراضي.. حاول بعض المتنفذين وأصحاب القوة والبطش «آنذاك» تضييع الحق والاستيلاء على هذه الأرض الثمينة والمتميزة من حيث موقعها وثمنها.. ولكن المرحوم «محمد الرشيد» تصدى لهم ودخل معهم في نزاعات وصلت حد تهديده بالقتل.. ولكنه لم يهب ولم يخف ولم يتردد قيد أنملة في السير على جادة الحق.. حتى كتب له النصر في نهاية الأمر.. وأعاد الأرض إلى أهلها.. وجعل للتراب معنى ورنينا..
أخرج الحق من جوف الحوت.. ولم تفتّ في عضده تلك التهديدات.. أو تثنه عن ارجاع الحق الى اصحابه.. والسير فوق الشوك وبين أسنّة الرماح وتحت ظلال الموت..
وبعد النيابة وتمثيل الأمة في مجلس الأمة.. صارت الكويت كلها عائلته.. وكل كويتي أباه أو أخاه أو ابنه.. وكل كويتية أمه أو أخته أو ابنته.. وكل أرض الكويت أرضه.. فوقف تحت قبة البرلمان.. لا يقبل تجاوزا.. ولا يرضى بتعدٍ.. لا يهادن في حق، ولا يساوم في مظلمة..
شوكة في عين تجرؤ على الحق..
وسيف يبتر اليد السرّاقة..
دخل في مجادلات مع الوزراء.. في قضايا لم يكونوا يتصورون الأساليب التي سوف يتبعها للدفاع عن وجهة نظره.. وتبيين صواب موقفه..
ومن ذلك لجوؤه.. الى تشبير اراض والقيام بقياسها بالمتر، قام بذلك بنفسه مستعينا بسائقه.. ليفاجأ المجلس والوزير المعني بالذات بنتيجة حساباته ودقتها..
ومواقفه في مجلس الأمة.. كثيرة ومشهودة ومازالت الذاكرة الكويتية تعيها وتحفظها ولسوف تحفظها على الدوام..
اكتشف ان المشروع الحكومي الذي قامت الحكومة ببنائه.. تبلغ كلفة متر بنائه خمسمائة دينار.. فلجأ الى احد اصدقائه من تجار العقار، وكان الصديق قد أنجز مجمعا تجاريا فخما وحديثا.. ليسأله عن كلفة متر بناء هذا المجمع الضخم.. فكان الرد مفاجئا وصاعقا.. لأن المتر الحكومي.. يزيد بأكثر من أربعة أضعاف عما كلفه متر المجمع التجاري.. فكشف الأمر وعرّى الحقيقة.. ولكن كم من حقيقة تغتال في مهدها..

الخطأ.. ممنوع
كان دقيقا في متابعاته... ولا يخجل من اللجوء الى من هم أصغر من أبنائه ليأخذ منهم المعلومة الدقيقة.. ولا يأنف من سلوك أي طريق يفضي الى الحق.. ورفع الظلم عن مظلوم أو مغبون.. لا يمنعه عن ذلك قرابته لذاك.. أو صداقته لذلك.. ولم يكن ذا حسابات انتخابية.. يخسر هذا أو يربح ذاك.. فلم تكن تلك الأمور تعنيه بشيء.. المهم عنده سيادة الحق وسطوع الحقيقة..
أحبه الفقراء والبسطاء وأحبهم هو.. وكان مجلسه يغص بهم.. يعرفهم بالاسم ويسأل عن دقائق حياتهم وقضاياهم التي كان ملما بها..
كنت كثير التردد عليه في مجلسه.. حين كان في كامل عافيته.. وكنت ألمس حب الناس له لمسا مباشرا.. فهو دائم الترحيب بكل قادم لمجلسه صغيرا أو كبيرا.. سواء في السن أو المقام.. ترحيبه بأكبر قادم إليه.. يوازي ترحيبه بأصغر القادمين.. وكان يتنحى عن صدارة المجلس ليدعو القادم إليه.
يرفض الخطأ حتى وإن كان صغيرا.. ولابد ان يقومّه بالنصح والإرشاد.. وهكذا كان يفعل معنا حين كنا صغارا.. فقد كان حريصا على أن تكون سلوكياتنا وتصرفاتنا قويمة وسليمة.. وان نبدو كالكبار.. حتى ونحن في تلك السن الصغيرة.

بعض من تلك الصفحات
لولا الحياء.. لزدت من ذلك كثيرا.. ولفتحت قنوات كثرا سددتها متعمدا.. حتى لا تستقي القريحة بمائها وتسبح في زلاله.. وحتى لا يظنن أحد أني أكتب مدفوعا بتيار العاطفة لرجل أحببته بحكم صلة الدم.. بل إن جلّ همي أن أكون منصفا لرجل من الكويت عرفته عن قرب.. وإن اكتب عنه.. اكتب كشاهد تدعوه الأمانة للإدلاء بشهادته في رجل لن يستثمر هذه الشهادة بعدما غيّبه الموت واحتضنه تراب الأرض التي ما تورّع يوما أن يكون خادما لها.. معليا فيها الحق.. ورافعا لواءه.
كم من صفحات عليّ تقليبها.. وأُخَرٍ عليّ تسويدها..
هل أقلّب صفحة انتخابات 1967 المزوّرة.. والتي كاد.. محمد الرشيد، يفقد حياته فيها.. ثمنا لكشفه لذلك التزوير المفضوح.. وتلك قصة تداولها شهودها العيان ونقلوها ورووها حتى حفظها لسان الزمن ورددها.. وباتت في خزائن ذاكرته؟!
أم أقلب صفحات «دواوين الاثنين» في النصف الثاني من الثمانينات والمطالبة بعودة الحياة البرلمانية.. ودوره المشهود فيها.. وتعرضه للأذى الجسماني خلال حوادثها؟
فلم يتورع – حينذاك – وهو المسن ان يشارك الشبان ومن يصغرونه كثيرا تلك الأحداث.. ويكون أحد أبطالها والمطالبين بعودة مجلس الأمة.. رغم انه اعتزل العمل البرلماني ولم يكن طامعا في العودة إليه.. ولكنه كان مدفوعا بإيمانه بالدستور والتمثيل الشعبي والمشاركة السياسية للشعب.. وإزاء ذلك لم يتورّع عن القيام بأي دور ودفع أي ثمن يحقق ما كان يصبو إليه.

دعاء الحروف
ذلك هو.. محمد أحمد الرشيد.. الذي لا أراني راثيا له فيما كتبت.. بقدر ما كنت محاولا تسطير بعض كلمات لا أراها وافية أو مُغنية راغبا في معرفة.. فلم أضف جديدا فيما كتبت سوى نزر يسير من شذرات عاطفة حملها قلبي له.. لم تكن وليدة قرابة وصلة دم وحسب.. بل عاطفة قائمة على الإيمان والتأثر والانفعال.. وشهادة حق لرجل من وطني..
ولا أراني مغاليا.. إذا ما قلت إن صلة الدم وقفت حائلا بيني وبين إيفاء هذا الرجل حقه.. حتى لا يظن البعض من قراء هذا المكتوب.. أنني وقعت في فخ المديح والإطراء بسبب تلك الصلة.
لست أخجل من عاطفتي.. وهي هويتي التي ازدان بها.. وهي عنواني الذي تسكنه روحي.. ولكنني ألجمتها وكبحتها فيما كتبت هنا.. ولم أسمح لها بأن تقودني وتوقعني في حبائلها.. فيخرج كلامي مغسولا بها.. ناهلا من عسلها بل غمست قلمي في محبرة الحقيقة.. فكتبت متوخيا الإنصاف.. ومدليا بشهادة حق في رجل له في عنقي دين عام وربما في أعناق المنصفين كلهم..


فهل أفلحت وبلغت المأرب.. أم ضللت الطريق.. وضلّت سفائني مراسيها وخانتني كلماتي.. وانكسرت عصاي فتخبط سيري.. وتعثر قلمي؟!
فليكن كل حرف مكتوب هنا.. دعاء رحمــة ومغفـــرة.. ورسالــة حـــب لـ «الخال.. الغالي» محمد أحمد الرشيد.


الانباء - الجمعة 21 مايو 2010 - الأنباء
صالح الشايجي
رد مع اقتباس