أحمد السقاف
أحد رواد جيل التنوير، تفاعل مع قضايا عصره وحمل القومية عبئاً ثقيلاً. عاشق من طراز فريد وشاهد على قضايا عربية ووطنية بالغة الصعوبة والتعقيد. ضمير حي لبلاده وشاعر تشغله رفعة أمته. لم يستسلم يوماً لليأس ولم يركن إلى الكسل ولذة الشعور باللاجدوى، حتى بعد حادثة غزو الكويت، تلك الصدمة التي أحدثت شرخاً كبيراً في وجدانه لكنه كان أقوى وأصلب من أي وقت مضى فأصدر إثرها كتابه المشهور «صيف الغدر».
لم يعرف الانزواء أو التقوقع في دائرة ضيقة، بل انطلق إلى الفضاء الأرحب فذاعت شهرته ودرّست قصائده في الكثير من المدارس والجامعات على امتداد الوطن العربي.
حياته حافلة، مليئة بالإنجازات. يحظى باحترام ومحبة كبيرين. يحمل وسام مأرب من الجمهورية العربية اليمنية ووسام الاستقلال من جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية ونال كذلك جائزة الدولة التقديرية عام 2001.
يصعب علينا التوقف عند سائر نقاط حياته، لكننا نحاول انتقاء شيء مما بين أيدينا نراه مناسباً لسياق الحديث، لاسيما اننا في صدد كتابة أقرب الى الاحتفاء بإنسان أعطى أمته ووطنه الكثير. ومثلما يعشق الكويتيون وطنهم ويعتزون به في كل مكان. يحق للكويت أن تعتز بشاعرها، الإنسان النبيل الذي عطّر بشعره وأنسامه أرجاء المكان. بلى، انه واحد من قلة تذكرهم أوطانهم مهما توالت السنون والأيام.
أحمد السقّاف مهموم دائماً بقضية التنوير. أنشأ يوم كان مدّرساً في المدرسة الشرقية عام 1945 ندوة أدبية في منزله، ثم صارت الندوة متنقلة تعقد مساء كل خميس في ديوانية أحد الفضلاء حتى توقفت صيف 1946. وفي 1948 أنشأ أول مجلة أدبية ثقافية عامة تصدر وتطبع في الكويت مع المرحوم عبد الحميد الصانع، هي مجلة «كاظمة» التي توقفت عام 1949 لأسباب خارجة على إرادته وعين ناظراً للمدرسة الشرقية بضع سنين عرف خلالها بالحزم. في خريف عام 1956 نقلت خدماته إلى دائرة المطبوعات والنشر فأشرف على مطابع الحكومة ودرّب عدداً من الشباب الكويتيين. وفي ديسمبر1957 كلفه الشيخ صباح الأحمد رئيس دائرة المطبوعات يومذاك بالسفر إلى بعض الأقطارالعربية للتعاقد مع من يقع عليهم اختياره لإصدارمجلة ثقافية ضخمة فتعاقد في مصرمع الدكتورأحمد زكي وبعض المحررين والفنيين وقدموا في مطلع 1958 وصدرت مجلة «العربي» في العام ذاته.
يذكر أن طبع مجلة «العربي» أوجب تطويرالمطبعة. كان لا بدّ من إمكانات كبيرة لطباعة المجلة الضخمة فأصدر رئيس الوزراء الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح تكليفه لأحمد السقاف السفر إلى ألمانيا لحضور معرض الطباعة في « دسلدورف» في مطلع مايو 1958 فغادر السقاف إلى ألمانيا يرافقه خبيرالطباعة السيد بيبوس وعاد من المهمة بكل ما تحتاج اليه المطبعة. أما النقلة الممتازة والرائعة في الوقت ذاته فهي مفاجأة الشباب الكويتي بتعيينهم رؤساء أقسام في المطبعة وتعيين إدارة جديدة للمطبعة من هؤلاء الشباب وكانوا مبتهجين في مواقعهم الجديدة. عني الشاعرأحمد السقاف كذلك بطبع المخطوطات القيمة، بالتعاون مع معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية. ومن أهم ما أنجز المعجم الضخم «تاج العروس» وحين توقف طبع هذا المعجم اتصل السقاف بمن حل مكانه في وزارة الإرشاد والأنباء سعدون الجاسم وعملا معاً على الطباعة حتى أنجز المشروع.
طريق الدبلوماسية
بعد مساهماته المتعددة في التنويروالثقافة انتقل شاعرنا إلى الدبلوماسية وميدان العمل السياسي فعين عام 1962 وكيلاً لوزارة الإرشاد والأنباء (الإعلام حالياً) وفي 1965 نقلت خدماته إلى الهيئة العامة للجنوب والخليج العربي بدرجة سفير وهي هيئة مستقلة مرتبطة بوزير الخارجية، مهمتها بناء المدارس والمستشفيات والمستوصفات والكليات في اليمنين الشمالي والجنوبي (قبل الوحدة) وفي الإمارات ايضاً قبل أن تتحد وكانت الهيئة معنية بالبحرين وجنوب السودان أيضاً وكانت إنجازاته في هذه البلدان محل إعجاب وتقدير من حكوماتها وشعوبها. بذلك يكون السقاف أحد الشهود على النهضة الثقافية في الكويت وأبرز مؤسسيها. وهو عضو رابطة الأدباء وكان أمينها العام حتى ربيع 1984 وتولّى رئاسة وفدها إلى المؤتمرات الأدبية لمدة تزيد على عشر سنين. قبل ذلك انخرط في في سلك التعليم وعين عام 1944 مدرساً للغة العربية في مدرسة المباركية ثم انتقل إلى المدرسة الشرقية وعين ناظراً لها صيف 1950 .
من شعره
لو توقفنا عند نماذج من شعر احمد السقّاف لوجدنا شاهداً على ما نقول. لم يترك قضية سياسية ووجدانية إلا تفاعل معها. في 1982 حين قامت قوات الاحتلال الصهيوني بالزحف على جنوب لبنان وتدمير المخيمات الفلسطينية، كتب قصيدته الذائعة الصيت «مئتا مليون» وألقاها في حفل أقيم في جمعية الخريجين آنذاك، يقول فيها:
ملعون هذا الصمت الفاجر
ملعون هذا الدجل المشبوه العاهر
ملعون من باع الصدق وخان الأرض
وتغنى بالهذيان السمج المرفوض.
ولم يكن اهتمام شاعرنا مقصوراً على مثل تلك القضايا الوطنية والقومية فحسب، إنما كان اهتمامه منصباً أيضاً على مسائل أخرى ذات بعد إنساني وعاطفي. ذات مرة مثلاً كان مسافراً إلى بلد عربي وشاهد في الشارع طفلاً ممزق الثياب يجر رجليه ببطء ويبكي فكتب قصيدته «الطفل المشرد» وقال:
جوعان لم يذق الطعاما غدرالزمان به فهاما
متسربل بالبؤس يس حب في تشرده عظاما
مات الذي يحنو عليـ ـه فصارفي عدد اليتامى
وتنكرت أم فما رضيت معاناة الأيامى
وللشاعر قصائد وطنية، نستشف من خلالها تلك المحبة العميقة التي يكنها لأرض الكويت، قصائد غاية في الصدق والعذوبة:
يقول لي الناس ماسم الحبيبة؟
لقد حير الفكرهذا السؤال
فقلت الحكاية جداً غريبة
فما من غموض وما من خيال
أعيدو التأمل في كل بيت
فقالوا عرفنا الكويت الكويت
وكان الشاعر شديد التأثر بغياب الزعيم الراحل جمال عبدالناصر الرمز والأسطورة للقوميين العرب، وكان شاعرنا بكل تأكيد واحداً منهم. يقول في قصيدة «النسر»:
أنت باق ولم تزل في الوجود في قلوب وفي عيون سود
الجماهير نورها أنت في الليل وإلهامها إلى المنشود
حبّها حُب عابد قدّم النفس واهدى العنان للمعبود
ما شكت دربك الطويل وقد كا نت تمني الخطى بدرب جديد
أنت علمتها الصعود إلى المجد وعلمتها احتمال الصعود
كان الشاعر ألقى هذه القصيدة في حفل تأبين أقامه الاتحاد الاشتراكي في القاهرة في مطلع اكتوبر 1971 للزعيم العربي الراحل.
ومن الوقفات التي تدل على وفائه لأصدقائه تلك القصيدة التي ألقاها الشاعرفي حفل تأبين أقيم للأديب الراحل أحمد البشر عام 1982 في قاعة رابطة الأدباء. يقول فيها :
أحمد البشر جاءيرثيك أحمد بفؤاد من الفجيعة مجهد
جاء يرثيك ليس زلفى ولكن نسب بينه وبينك ممتد
لم يزده الخلاف في الرأي إلاّ قوة تمسح الخلاف وتشتد
ما افترقنا وإن تراخى لقاء رب قرب لصاحب وهو مبعد
كنت تبكي على العروبة مثلي ودموعي على دموعك تشهد
يا فقيد البيان عشت أبياً ألف طوبى لموضع لك مرقد
ترجمات ودراسات
ما لا يعلمه الكثيرون هو أن شعر احمد السقاف تجاوز الوطن العربي وانتقل الى العالمية إذ ترجمت قصائده إلى الإيطالية والفرنسية، بل اصبح فكره ونهجه الأدبي يدّرسان في جامعات أوروبية منها جامعة نابولي حيث يدرس طلبة قسم اللغة والأدب العربي شعر احمد السقاف .
في عام 1996 اختارت إحدى الطالبات في جامعة نابولي وتدعى ماريا انجلا احمد السقاف أعماله الأدبية وأشعاره موضوعا لرسالة الدكتوراه التي قدمتها آنذاك تحت إشراف الدكتور فتحي مقبول أستاذ الأدب العربي هناك ومؤلف كتاب «احمد السقاف شاعر العرب وراية العروبة». ويقول الدكتور مقبول في مقدمة كتابه إنه بعدما ألف الكثير من الكتب عن الإنتاج الشعري في عدد من الأقطار العربية، منها الكويت والأردن والسعودية وقطر والبحرين، وعدد من الكتب الأخرى عن الشعر المعاصر والشعر النبطي، وجد أنه من المناسب أن يتحول إلى الكتابة بشيء من الإسهاب والتفصيل للشعراء العرب المهمين. قرر حينذاك أن يبدأ بالكتابة عن حياة ومؤلفات الشاعر الكويتي الكبير والكاتب العربي الأنيق الأستاذ احمد السقاف الملقب بشاعر العرب. يضيف الدكتور مقبول في مقدمة كتابه: « أن الشاعر الأديب احمد السقاف يعتبر بلا شك شاعر الأمة وراية القومية العربية والمناضل الصلب في الدفاع عن قضايا أمته وقد حمل هم الأمة العربية على كاهله منذ أن كان فتى يافعا ولا يزال يكرس كل نشاطاته الثقافية والإنسانية لخدمة هذه الأمة بعيدا عن العنصرية والتعصب الأعمى».
كما ترجم شعر احمد السقاف الى الفرنسية إذ ورد في كتاب « همسات الروح» الذي أصدره البروفيسور الياس زحلاوي بإشراف الفيلسوف الفرنسي المشهور جان جيتون وتقديمه أن الأديب والشاعر الكبير احمد السقاف إنما هو رائد من رواد الحركة الثقافية والفكرية في الكويت إذ أصدر وصديقه عبد الحميد الصانع أول مجلة تطبع وتوزع في الكـويت هي مجلة « كاظمة «كما ساهم وأصدقاؤه في النادي الثقافي القومي بإصدار مجلة «الإيمان».
يقول جيتون في مقدمة الكتاب : «ساهم السقاف بشكل كبير في نشر الثقافة والمعرفة ليس في الكويت فحسب وإنما في الأقطار العربية، من خلال مركزه في دائرة المطبوعات والنشر، قبل استقلال الكويت، وفي وزارة الإرشاد والأنباء بعد الاستقلال حين عين وكيلا للوزارة . ففي ديسمبر 1957 قر الرأي على إصدار مجلة شهرية ثقافية ضخمة تقدم الى جميع القراء العرب في سائر أقطارهم. وصدر التكليف من رئيس دائرة المطبوعات والنشر الشيخ صباح الاحمد الجابر الصباح لاحمد السقاف بالسفر إلى الأقطار العربية للتعاقد مع من يختارهم لهذه المهمة وتم ذلك. وفي مصر وجد احمد السقاف من يبحث عنهم وكان في مقدمهم الدكتور احمد زكي». ويتناول الكتاب مجموعة من قصائد الشاعر بالترجمة والشرح .
شهادة
«أحمد السقاف لم يكن قيمة أدبية فريدة فحسب، إنما كان قيمة إنسانية عظيمة تستحق التوقف عندها فرغم انضباطيته وصرامته التي يضرب بها المثل إلا انه كان من الرقة والحس الإنساني المرهف ما لا يمكن وصفه. فهو كمن يحمل العصا بيد ويحمل الياسمين باليد الأخرى، يحاسبك بشدة عندما تخطئ ويحضنك بحنان عندما تحزن، ويبدو ذلك حتى في شعره فله الكثير من القصائد الإنسانية المرهفة إلى جانب القصائد الحماسية الوطنية فهو كالشمس والمطر المتزامنين في يوم واحد.
احمد السقاف الإنسان تعلمت منه الكثير . تعلمت منه احترام الآخرين، الصغير قبل الكبير، الفقير قبل الغني ، الضعيف قبل القوي . تعلمت منه أن هناك مبادئ أساسية لو التزمنا بها سنصبح اكثر الناس قوة وغنى وهي الأمانة والصدق، الشجاعة الأدبية والعطاء من دون حساب وأن تحب لأخيك كما تحب لنفسك .
احمد السقاف علمني انه لا بديل الى الكتاب والعلم فعلينا اتخاذ الكتاب رفيق درب دائماً وهو حتما لا يخذلك أبدا. لذا فان وجود احمد السقاف في حياتي لم يكن ضرورة عاطفية إنسانية فحسب وإنما كان مستفزا لقدراتي الذهنية ولإبداعي منذ الصغر.
احمد السقاف زرع فينا قيماً ومبادئ إنسانية جميلة جدا اعتز بها كثيرا، لذا فأنا حتما افخر بان أكون إبنة له».
مؤلفاته:
1_ «شعر أحمد السقاف»، وهو ديوان يضم أشعاره حتى مطلع 1989م
2_ «من شعر أحمد السقاف»، الطبعة الأولى 2001
3_ «المقتضب في معرفة لغة العرب»، طبعة ثالثة 1990
4_ «أنا عائد من جنوب الجزيرة العربية»، طبعة رابعة 1985
5_ «الأوراق»، كتاب يبحث في أشهر ديارات العراق والشعراء الذين كانوا يتطرحون فيها، شركة الربيعان للنشر طبعة ثالثة 1982
6_ «تطور الوعي القومي في الكويت»، رابطة الأدباء 1982
7_ «حكايات من الوطن العربي الكبير» طبعة ثالثة 1995
8_ «العنصرية الصهيونية في التوراة»، شركة الربيعان 1984
9_ «قطوف دانية، عشرون شاعراً جاهلياً ومخضرما»ً، دار قرطاس 1995
10_ «أحلى القطوف، عشرون شاعراً أموياً ومخضرما»،ً 1996
11_ الطرف في الملح والنوادر والأخبار والأشعار1996
12_ «أحاديث في العروبة والقومية»، 1997
13_ «أغلى القطوف، عشرون شاعراً عباسياً»، 2000
14_ «أحمد السقاف في مقالاته ومقابلاته»

أحمد السقاف

مع الشيخ صباح الأحمد عندما كان وزيرا للإرشاد سنة 1962

مع حرمه نجيبة الرفاعي

مع الرئيس اليمني علي عبدالله صالح والرئيس السابق لليمن الجنوبي علي سالم البيض في اليوم الثاني من إعلان الوحدة

مع رئيس مجلس الأمة الأسبق أحمد السرحان 1965

(من اليمين) محمد قاسم السداح، السقاف والشاعر الراحل خالد سعود الزيد في المملكة المغربية
جريدة الجريدة - 17/9/2007
__________________
"وَتِـــلـْــكَ الأيّـَــامُ نُـــدَاوِلـــُهَـــا بـَـيـْـنَ الـــنَّـــاسِ"
|