ونخلص من استقراء رسائل الوكيل الإخباري في الكويت إلى أن موقف بريطانيا من الكويت والشيخ مبارك مر في مرحلتين: الأولى مرحلة المراقبة وتسجيل ما يجري في الكويت وما يجري في داخل الجزيرة العربية من أحداث وتغيرات، وبيان علاقات الشيخ مبارك مع الدول الكبرى مثل الدولة العثمانية وروسيا وألمانيا، ومعرفة الأغراب الذين يزورون الكويت وبيان أهدافهم وكانت زيارة السفن البريطانية محدودة نسبيا. وهذا لا يمنع من الاتصالات السرية المباشرة التي كانت تتم بين الشيخ مبارك والمقيم السياسي البريطاني التي توثق وتفصل وتزيد من مساحة المعلومات التي قدمها الوكيل الإخباري علي بن غلوم.
المرحلة الثانية
أما المرحلة الثانية فقد كانت مرحلة التدخل المباشر للحماية، وقد بدأت هذه المرحلة على وجه الخصوص بعد معركة الصريف في مايو ،1901 فقد أرادت الدولة العثمانية استغلال مرحلة ما بعد الصريف للتدخل في شؤون الكويت، ظنا منها أن الشيخ مبارك لم يعد في القوة التي تمكنه من مواجهة الأتراك. وقد تحركت عناصر من الجيش السادس من بغداد إلى البصرة بهدف الوصول إلى الكويت، كما قامت الدولة العثمانية بتشجيع ابن رشيد على تشديد هجماته على الكويت.
ولم تقف بريطانيا مكتوفة الأيدي إزاء هذا الأمر، ورأت أنه من الواجب القيام بعمل مباشر لتفعيل الاتفاق الذي بينها وبين الكويت وتقرر إرسال سفينة حربية وتبعتها ثانية وتم إعداد ثالثة لتكون جاهزة، وقد رابطت السفينة الأولى (سفنكس) في ميناء الكويت.
محسن باشا في الكويت
وفي هذه الأثناء زار الكويت والي البصرة محسن باشا في 29 من محرم 1319ه (الموافق 18 مايو 1901). وقد زعم أنه جاء للسلام على الشيخ مبارك وليعرف أسباب موقفه من الدولة العثمانية وميله إلى بريطانيا في الوقت الذي كانت فيه الخطط العسكرية التركية لاحتلال الكويت جارية. وقد واجه الشيخ مبارك هذا الموقف بعدة إجراءات. أولها أنه قد أرسل ابنه الشيخ جابر لاستقباله عند الجهراء وكان معه أربعمائة فارس، وكان قصد الشيخ مبارك أن يعرف الوالي قدره من خلال استعراض لقوته. والثاني أنه طلب من قائد السفينة البريطانية أن يحضر اللقاء الأول معهم. أما الإجراء الثالث فهو تحديد مدة الزيارة بثلاثة أيام فقط وقد عاد محسن باشا إلى البصرة بعد أن تأكد تماما من ميل الشيخ مبارك إلى البريطانيين على لسانه وعلى لسان الشيخ جابر المبارك الذي أجاب بمنتهى الوضوح عن استفسار الوالي بأننا 'لنا عزم على اتباع دولة الإنكليز على ما نراه منها من الشفقة والحمية أما دولة الترك فلم نر منها سوى الأذى والمشقة' وأشار إلى الحشود التركية لغزو الكويت، وذكر أن الكويت بفضل الله قوية وقادرة على المحافظة على حدودها برا وبحرا. ورفض الشيخ مبارك كل العروض والإغراءات التي قدمها محسن باشا، وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد. (انظر رسائل الوكيل الإخباري في ،12 ،21 24 مايو و7 يونيو 1901).
ويذكر سلوت في كتابه عن الشيخ مبارك الصباح أن القوات العثمانية تحت قيادة محمد باشا الداغستاني قد صدرت لها الأوامر بالعودة إلى العمارة لأسباب ثلاثة أولهما أن مباركا قد دفع سبعة آلاف ليرة تركية إلى قائد الجيش وخمسة آلاف إلى محسن باشا والي البصرة، وثانيهما وجود السفن الحربية البريطانية بالقرب من الكويت، أما الثالث وهو الأرجح انتشار مرض الطاعون في البصرة، فقد أجبر هذا الوباء الخطير الأتراك على إيقاف تحركهم إلى البصرة.
إعلان الاتفاقية
وبعيدا عن تفصيلات هذه الفترة التاريخية التي أفرد لها كل من بونداريفسكي وسلوت صفحات عديدة فإننا سوف نقتصر، فيما يلي، على ما ذكره الوكيل الإخباري من أحداث:
- في 24 من أغسطس 1901 وصلت إلى الكويت السفينة العثمانية زحاف. وقبل نزول قائدها إلى البر أنذره بيرس Pers قائد السفينة الحربية البريطانية برسيوس Perseus التي كانت آنذاك راسية في ميناء الكويت بعدم السماح بنزول عسكري تركي إلى البر، وأن عليه النزول وحده إذا ما أراد لقاء الشيخ مبارك. وقد رضخ القائد لأوامر القائد البريطاني، ثم كان لقاؤه الساخن مع الشيخ مبارك وابنه الشيخ جابر الذي انتهى بطرد القائد التركي بعد أن هدد بغزو الكويت برا وبحرا كما جاء في رسالة الوكيل الإخباري بتاريخ 24 أغسطس 1901. وكان هذا أول انكشاف لسرية الحماية البريطانية.
- في 7 نوفمبر 1901 زار الكويت السيد رجب النقيب وحاول أن يبقي على علاقة الشيخ مبارك بالدولة العثمانية إلا أن الشيخ مبارك أصر على موقفه وذكر أن 'ليس للترك حق علينا، بل نحن لنا الحق عليهم وقد استرجعنا لهم بلد القطيف وبلد الأحساء بالسيف، ولم يكن رئيسنا من دولة الترك' وأكد أنه قد جعل نفسه ورعاياه وجميع عشائره في حماية الدولة الإنكليزية.
- ذكر الوكيل الإخباري في رسالته المؤرخة في 1 ديسمبر 1901 وصول تلغراف من الباب العالي إلى والي البصرة يفيد بأن على الشيخ مبارك أن يحضر إلى أسطنبول ليتم تعيينه عضوا في مجلس الشورى أو أن يترك الكويت ويسكن في أي مكان خارجها وإلا أرسلنا عليه جيشا لإجباره على الخروج من الكويت. وأنه في 20 من شهر شعبان 1319ه أي في 2 من ديسمبر 1901 سوف يصل الكويت السيد رجب النقيب ومعه مصطفى نوري باشا أخو والي البصرة ومعهما تلغراف الوالي.
وواضح من رسائل الوكيل الإخباري أن هذا الأمر وضع اتفاقية الحماية البريطانية على المحك فقد أرسل الشيخ مبارك إلى المقيم السياسي البريطاني في بوشهر رسالتين مستعجلتين بتاريخ ،17 19 من شعبان 1319ه (29 نوفمبر، 1 ديسمبر 1901)، يطلب فيهما إجابة واضحة وصريحة من بريطانيا تفيد التقيد بمعاهدة الحماية المبرمة في عام 1899 يستند إليها في رده على الدولة العثمانية، وإلا فإنه سوف يعمل على تسوية أموره مع الدولة العثمانية بالطريقة التي يراها مناسبة. مؤكدا أنه إذا لم تبين بريطانيا موقفها في هذا الظرف فمتى يمكن عليها إظهاره؟ (الوثيقتان رقم ،10 11). وقد وصله الرد في 23 شعبان 1319ه (5 ديسمبر 1901) أي في اليوم الثالث من زيارة النقيب بالإعلان الرسمي للحماية البريطانية.
وقد جاء رد المقيم السياسي البريطاني في رسالتين بتاريخ ،23 24 من شعبان 1319ه (،5 6 ديسمبر 1901) ذكرت الرسالة الأولى أن المقيم السياسي قد أرسل إلى السلطات البريطانية يستطلع أوامرها في هذا الشأن، وأن على الشيخ مبارك أن يطلب من النقيب - الذي وصل بالفعل إلى الكويت - إمهاله للرد عليه، وأن للشيخ الحق الكامل في الامتناع عن الرد الفوري في مثل هذا الأمر الخطير. وفي اليوم الثاني وصلت الرسالة الثانية من المقيم السياسي والتي يؤكد فيها التزام بريطانيا بالدفاع عن الكويت والطلب من الشيخ مبارك برفض المطالب العثمانية. وهكذا غادرت السفينة 'زحاف' ومعها رجب النقيب ومصطفى نوري باشا دون تحقيق الهدف من زيارتهما (الوثيقتان ،12 13).
وقد جمع الشيخ مبارك في اليوم التالي تجار الكويت ووجهاءها وأعلن لهم الاتفاق الذي تم مع الحكومة البريطانية، وقد باركوا له حسن تصرفه في إقدامه على هذا الأمر.
|