«عيال بطنها» (1) مصطلح كويتي يطلقه الكويتيون على من ساهم في تأسيس الكويت القديمة قبل الرفاه النفطي، فعانوا في الغوص والسفر، وبنوا مرفأ الخليج والجزيرة البحري الذي كان بمنزلة الرئة التجارية التي تتنفس بها المنطقة، مستخدمين سفنهم الخشبية ذات الأشرعة القماشية في غياهب المحيط الهندي «الغبة» في عزلة تامة عن المحركات البخارية، فضلا عن الأقمار الصناعية، وكم ابتلع البحر منهم ممن صار قبره في قعر المحيط، بل الخليج. كما آثروا الاستقرار في الكويت رغم خلوها من الماء والغطاء الأخضر!
فجر الخميس الماضي رحل أحد عيال بطنها عن دنيانا الفانية، وهو عميد أسرة كريمة من عيال بطنها أخرجت علماء كان أولهم الشيخ محمد بن فارس إمام الحرم النبوي الشريف في زمانه، وكان من أبرزهم شيخ الكويت عبدالوهاب العبدالله وعبدالوهاب العبدالرحمن رحمهم الله جميعا، حتى ميزهم أهل الكويت بـ«الفارس المطاوعة» (2) عن بقية الأسر الكويتية الكريمة المشتركة معهم في الاسم نفسه.
وهي أسرة من أوسط الأسر الكويتية، التي لم أسمع عن أحد رجالاتها أو احدى نسائها كلمة ناقصة، رغم مغريات الحياة المادية على اختلاف أشكالها في حياتنا. ولا يحب أبناؤها كثرة الأضواء، فلم تستقطبهم لا المجالس الوزارية ولا البرلمانية رغم امتلاكهم كل المؤهلات لها.
عميد هذه الأسرة الكريمة هو ضيف زاويتنا اليوم، ومن الطبيعي جداً أن يكون أسوة حسنة هو الآخر، حيث انعكست فيه كل هذه الصفات الحسنة التي ذكرتها عن العائلة آنفاً.
العم محمد عبدالله عبدالعزيز الفارس عصامي من مواليد 1915م، بنى نفسه بنفسه ولم يشتغل في الوظائف الحكومية قط، بل ابتدأ كاتبا عند محمد الحمود الشايع، ومصطلح كاتب عند أهل الكويت يطلق على المحاسب ومدير الأعمال المؤتمن على الحلال والتجارة وإدارة الأعمال، ومن أسباب النجاح والبركة أمانته وحكمته الإدارية. ثم ما لبث أن استقل بمتجر خاص بالمواد الغذائية، كما بدأ أعماله بما بدأ به كثير من الكويتيين غيره، ونعني ركوب البحر.
كان صاحب اطلاع ديني وثقافي عام، حافظا الكثير من ملح الشعر والأدب والأمثال، ومع ذلك تراه مستمعاً جيدا، مقلاً في الكلام قد انصف أذنيه من لسانه، محبا لمن يخالطه، يفتقده ويسأل عنه رغم فارق السن، ويخبره بأخبار والده، وكذلك أخبار جدّه ان كان ممن يعرفه من أهل جبلة وشرق والمرقاب.
كان رحمه الله محبا للشباب، يعقد عليهم الآمال، ويعطيهم الثقة.
لا يمكن، بل من المستحيل أن تسمع منه كلمة عن أحد، فلا يخطئ على الآخرين حاضرين أو غائبين، بل حتى بعض القلة القليلة التي أساءت إليه يوماً، كان لا يذكرهم إلا بكل خير، ولا مبالغة في القول إنه لم يؤذ أحداً قط.
اجتمع حوله أبناؤه وأنسابه وأحبابه الأوفياء، حتى أصبح صديقهم في قيامه وقعوده، وسمره ومجلسه الكريم، اختار لهم أطيب الحديث وكان لهم مرجعا في تاريخ الكويت وأحداثها، بل وأنسابها ومصاهراتها. لم يمنعه في أواخر حياته فقدان البصر عن نور البصيرة، فلم تسمع منه إلا ما يرفع همتك وأنت المبصر السليم في حين انه كان هو الكفيف العليل.
هذه سنّة الحياة.. وهذا قضاء الله وقدره.. وهو ماض فينا شئنا أو أبينا.
اللهم إنا نسأل حسن الخاتمة ومرافقة الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين ـ ونحسبه منهم ـ وحَسُنَ أولئك رفيقا.
• • •
• هامش:
1 ـ رغم كون هذا المصطلح دارجاً بمفهوم معين، ولكن أفهم ـ وبلا تفرقة من جهة، وبلا مزايدة من جهة أخرى- أن «عيال بطنها» هي تلك الأسر التي استقرت في الكويت القديمة وساهمت في بنائها على اختلاف انتماءاتها العرقية أو المذهبية والمطلع المنصف يعرف تمام المعرفة من هي تلك الأسر ـ بلا جلبة ولا ضوضاء.
2 ـ رغم تميز هذه الأسرة الكريمة باسم الفارس المطاوعة، فإن المرحوم محمد وشقيقه الأكبر عبدالمحسن، رحمهما الله، يتميزان أيضا بتسمية أخرى للمطاوعة، حيث ينتميان إلى مجموعة متدينة، سبق أن سردنا أسماءها سابقا في مقال بعنوان «شيخ المطاوعة عبدالمحسن عبدالله الفارس»، وخلاصة وصفها أنها مجموعة من رجالات الكويت الذين كانوا متدينين منذ بدايات شبابهم، تجتمع وتفترق على طاعة الله تعالى، حتى في رحلاتها البرية والبحرية، فلا غيبة ولا نميمة، بل محافظة على صلوات الجماعة وذكر الله تعالى وملح الكلام والادب والشعر واستضافة المشايخ.
وما يعنينا هنا هو أن المرحوم محمد عبدالله الفارس هو آخر هذه المجموعة الطيبة المباركة «المطاوعة» وفاةً.
د. عبدالمحسن الجارالله الخرافي - جريدة القبس - 8/2/2009
__________________
"وَتِـــلـْــكَ الأيّـَــامُ نُـــدَاوِلـــُهَـــا بـَـيـْـنَ الـــنَّـــاسِ"
|