![]() |
السدرة بين أزهار النوير
http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...99a15_main.jpg
السدرة: بين أزهار النوير (1) ذكريات برجس حمود البرجس ما كان لهذه الذكريات ان ترى النور، لولا طلب عدد من الاصدقاء والزملاء، ولولا الحاحهم المستمر على ضرورة ان ادون شيئا منها، واسرد خلال ذلك تجربة عمر امتدت ما يقارب الاربعين عاما في ثلاثة مجالات، وزارة الصحة، ووكالة كونا، والهلال الأحمر الكويتي، بالاضافة الى مجال الحياة العامة سياسيا وثقافيا في اكثر الفترات اهمية من حياة الكويت، واعني بذلك فترة نشوء الكويت الحديثة بنظامها الديموقراطي الدستوري، وما تخللها من حلاوة ومرارة. قد يبدو هذا الاستهلال اضفاء للاهمية على هذه الذكريات وصاحبها، ولكنه في الحقيقة مجرد اشارة الى اهمية ما مرت به حياتنا الجماعية تحت هذه السدرة الوارفة التي سميتها الكويت، اما نصيبي من هذا، فهو هذه المذكرات المتواضعة جدا، والتي بلغ احساسي بتواضعها حد تسميتها ذكريات. هي ليست مذكرات اذن، ولا أدعي اني ادون مذكرات هي من نصيب كبار القادة والشخصيات البطولية، ولانني لست من هؤلاء، ولانني مجرد مواطن في بلد شهد أطوارا من حياته وشارك فيها، ارتضيتُ تسجيل ما حفظته ذاكرتي من احداث ومواقف، وتقديمها الى القارئ الكريم. والى هذا القارئ، أتقدم منذ البداية باعتذاري ان أخطأت هنا أو هناك، أو نسيت كثيرا من الاسماء والاحداث، فما لدي هو ما توارد على ذهني عفو الخاطر والنية الصادقة في قول ما رأيت، وتسجيل ما اعتقد انه جدير بالذكرى. ولا يسعني في ختام هذه الملحوظة سوى تقديم شكري وتقديري لكل من حفزني من الاصدقاء والزملاء، وكل من احسن الظن بقيمة هذه التجربة، وساهم في اعداد هذه الذكريات، لما بذلوه من جهد معي، واخص بالذكر ابنتي العزيزة مها، التي حفظت كثيرا من الوثائق، واعتنت بجمع القصاصات والصحف، وقدمت لي مساعدة لا تقدر بثمن، سواء في مرافقتي خلال سردي لهذه الذكريات، أو في تذكيري بما طواه النسيان وتوالي الايام. برجس حمود البرجس الكويت 1/11/2009 جيل البحر والسفر، هذه العبارة تراودني دائما كلما نظرت حولي، كلما اصغيت، وكلما عدت الى الغوص في داخلي، وحاولت ان افهم ما يتغير من جيل الى جيل في نفسي وفي من حولي على حد سواء. لست فرداً من اول جيل ظهر على سطح هذه الارض بالطبع، ولست فردا من اخر جيل ايضا، وانما انا موجة ارتفعت بين امواج متلاطمة في هذا الوجود منذ كان، موجة تعلو غيرها احيانا وتتقاصر دونها في احيان اخرى. انا من جيل انطبع بطوابع بريئة، يتذكر ما ترك بين العاب طفولته على الاقل، فهل تمتلك الاجيال اللاحقة ما تتركه في عجلتها للفوز بهذا المكسب وذاك المغنم؟ يرتبط السفر والجهد الجسدي بالبحر دائما، ولا يغادرني مشهد ابي العائد من الهند بعد احتجاز طويل استمر عدة اشهر، كان ذلك في عام 1943، في خضم موجات السفن الكويتية المسافرة بين الكويت والهند وسواحل شرقي افريقيا جيئة وذهابا، وقد تكاثرت بسبب انشغال وسائل النقل البحرية بميادين الحرب العالمية الثانية، وتكاثرت معها حوادث تهريب الذهب الى الهند. كان ابي احد العاملين على احدى هذه السفن، لم يكن نوخذة ولا تاجراً، حين اوقفوا سفينته واوقفوا ركابها، بل كان مجرد نوخذة شراع لا شأن له بتهريب الذهب وتجاره. عندما تأخر الوالد تأخر الوالد كثيراً، وفكرت: هو في الهند، ونحن هنا يجب ان نحصل على قوتنا اليومي، بعنا بعض ممتلكاتنا المنزلية لسد حاجاتنا مثلما كانت تفعل بقية العائلات الكويتية، فلماذا لا اعمل؟ كانت عطلة الصيف المدرسية، ولدي ثلاثة اشهر، فقدمت انا الصغير الذي لم يكن عمره يتجاوز الثانية عشرة، طلبا للعمل محصلا في البلدية، مسؤول البلدية آنذاك كان عبدالله العسعوسي، وبعده جاء حمد صالح الحميضي. وخلال ثلاثة اشهر، هي مدة عملي، واجهت صعوبات متعددة بسبب صغر سني حتى ان بعضهم كان يرفض ان يدفع ما عليه من رسوم بحجة انني ما زلت صغيرا على هذا العمل، او انه كان لا يصدق انني المحصل فعلا، اضافة الى انني كنت مسؤولا عن التحصيل في اماكن غير مألوفة بالنسبة لتلميذ مدرسة مثل الكراجات والقصاصيب واماكن بيع الاسماك وسوق واجف والمقاهي والدكاكين، اماكن تضج بأصوات وضحكات واجساد الكبار، فأبدو في وسطها صغيرا ضائعا يحمل هم والد غائب وبيت ينتظر من يخفف عنه ثقل الغياب وهم تحصيل قوته. كان عليّ جمع الرسوم من هذه الاماكن وتسليمها للبلدية لقاء راتب مجز بالنسبة لسني، 100 روبية شهريا بهذا الراتب اشتريت احتياجات المنزل وحسنت اوضاعنا المعيشية. الوالد يبكي حين عاد والدي من الهند بعد أن أفرجوا عن سفينته، ذهبت لاستقباله مع ابن عمي، وهناك، وما أن هبط الى البر آتيا من المياه البعيدة وصياح النوارس، حتى سارعت مسرورا وأخبرته بقصة عملي اثناء غيابه. ربما كنت فخورا بما قمت به، وربما كنت أنتظر ثناء، الا انني فوجئت بذلك المشهد الذي لا أنساه، رأيت الدموع تنهمر من عينيه، والدي يبكي متأثرا ويسألني بلهجة حانية: «لماذا فعلت هذا؟» قلت من كل قلبي: «رغبت ان أساعدك، وأتمنى أن أعمل بدلا منك وأريحك من هذا التعب» قال وهو يلتفت جانبا ثم يتطلع الى السماء متنهدا: «حسنا فعلت، ولكن لا تكررها مرة أخرى، اريدك أن تهتم بالدراسة». غوص وماء كان والدي مكافحا تحمل المسؤولية وعمره ثماني سنوات اثر وفاة والده، وما أن بلغ الثالثة عشر حتى دفعه اعمامه الى الحلول محل ابيه في «بوم» العائلة، عائلة البرجس، البوم الذي توارثته ابا عن جد، وظل يعمل في جلب الماء من شط العرب الى الكويت. كان قصدهم ان يتعلم والدي مهنة البحر، ان يصبح نوخذة. كل افراد عائلتنا بلا استثناء عملوا في الغوص وجلب الماء، وامتلكوا بالاضافة الى سفينة نقل الماء، سفينتي غوص. وانهمك والدي في هذا العمل الى ان ترك مهنة جلب المياه واختار طريق السفر الى الهند مع السفن الكويتية بعد ان نشأت شركة للماء وصارت تتحرك على الخط سفن أفضل. قسوة الحياة كنت أراه متعبا ومرهقا دائما تحت ثقل المسؤوليات وقسوة الحياة آنذاك في زمن الحرب، زمن الامكانات الضئيلة في الكويت حيث امكانات الناس بسيطة ومحدودة. في مثل هذا الزمن جاهد وكافح ليضمن لنا معيشة كريمة مثل حياة بقية العائلات الكويتية، وفي مثل هذا الزمن كنت اتمنى ان اعمل ولو حارسا لأساعده. ولا اذكر انني اغضبته يوما او اغضبت والدتي الى درجة انه ظل يخشى عليّ من هذه العاطفة المرهقة التي أحملها تجاهه وتجاه من حولي بشكل عام حتى آخر أيامه. كان والدي وحيد أبويه. وليس له سوى شقيقة كبرى. وخلال غيابه عن المنزل طيلة اشهر في السفر، كنت أنا من يتحمل المسؤولية، فأنا مثله كنت وحيد الأبوين، وتحملت المسؤولية صغيرا. ..وبكيت أنا قبل يوم من وفاته في عام 1985 في المستشفى الاميري، دخلت لعيادته والطبيب يحاول اقناعه بتناول الطعام، فقال للطبيب انه لا يخشى شيئا، سواء أكل او لم يأكل، وان خشيته الوحيدة عليّ، استغرب الطبيب، وقال له: «ابنك رجل كبير وذو مركز، فلماذا أنت خائف عليه؟» قال والدي: «اخشى عليه لانه عاطفي جدا، لم يغضبني او يغضب والدته منذ صغره». في هذا المشهد الثاني الذي يفصله عن المشهد الاول عند مرسى السفن اثنان وستون عاما، غلبتني دموعي انا هذه المرة، فقبّلت والدي وخرجت، ربما حتى لا تفيض عواطفي وتستثير المزيد من مخاوفه وهو في ايامه الاخيرة. بين النوير والبحر انا من عائلة البرجس، اي من اسم محمل بعدة دلالات. فاذا لفظتها برجيس عنيت بها اسم نجم، واذا لفظتها برجس عنيت بها شجرا شائكا ذا ازهار حمراء، اما اذا ذهبت بها الى برجاس، فقد عنيت ما يرفع على رأس رمح او نحوه في ملاعب الخيل. في هذه الدائرة الدلالية او ما يمكن ان تفضي اليه اذا توسعت، اصداء آتية من ماض بعيد ربما تأخذنا الى الصحراء، الا اننا الآن عائلة تسكن بجوار البحر، وسيكون عليها ان تتصادى مع مقتضياته، مع مدينته الساحلية، اعني الكويت، ومع مدينته الابعد على رابية، اعني الجهراء حيث ولدت في عام 1931 لام جهراوية اسمها طرفة عثمان الموسى، ولاب تسكن عائلته في كويت الثلاثينات المتأرجحة بين ميول تشدها الى ماضيها القبلي وميول تشدها الى حاضر يتحرك نحو الحياة المعاصرة بكل ما فيها من ارتباكات ونزاعات مستجدة. أورثني مكان الميلاد صورة مدينة تشبه حقل نوير وربيعا وبرّا أرتاده طفلا يستمتع في اجوائه كلما رحلت العائلة اليه شتاء، واورثني مكان النشأة واللهو على شاطئ البحر صيفا صورة بيت من ثلاثة اقسام، البيت والحوطة والجاخور في فريج البدر في منطقة جبلة. الصيف والشتاء هذا التردد بين مكانين، بين صيف وشتاء، كان سمة شبه عامة في تلك الايام حيث تملك العائلات بيتا هنا وبيتا هناك في الجهراء، او بيتا في قرى نائية بمقياس ذلك الزمن، مثل الفنطاس او الفنيطيس او الدمنة التي اصبح اسمها السالمية. لهذا لم يغادر الربيع طفولتي، واظنه لم يغادر طفولة الكثيرين منا حتى اليوم، فنحن ما زلنا نرمز لهذا التوق بالخروج الى البر، اي الى الطبيعة التي نتلمس بقاياها. كنت اتردد على الجهراء كثيرا في ايام العطل المدرسية، بل وكنت اهرب احيانا من المدرسة لاعيش اياما ناعم البال مبتهجا ومرتاحا في حدائق ومزارع لم نرها الا في الجهراء. البرسيم والنخيل والرطب. كان كل هذا رائعا، والاروع في تلك الايام البيئة والطقس المختلفان عما هما عليه الآن، فالمطر غزير، والزهور عالية تخفينا وتغمرنا حين نجلس بينها. لم يكن النخيل غابات، وكان بلحه صغيرا جدا بحجم حبات الفستق، والسوق في الجهراء صغير ومحدود لا يتجاوز بضعة دكاكين، ومع ذلك كنا صغارا نجد في كل هذا عالما متكاملا لا ينقصه شيء ونحن نبتهج في سوقه ومزارعه ونصطاد طيوره ونتمدد فوق أعشابه الخضراء. وما زلت أذكر تلك اللحظات التي كنا نسمع فيها من ينادي: صلاة.. صلاة.. صلاة، فنرى الناس يتحركون ويتخذون طريقهم إلى المسجد. في فريج البدر هذه الفترة من أجمل فترات حياتي، وجدت فيها ما لم أكن أجده في الكويت، في بيت أهلي الشبيه بمعسكر، كل شيء فيه ثابت في موعده: الأكل، الخروج، الزيارات، فالدخول، معسكر للصغار فيه نصيب أقل مما للكبار الذين نراهم عن بعد على ساحل البحر، أو في الطرقات حين يكون علينا -احتراما لهم- أن نبتعد ونتوارى. ومع ذلك، هنا في بيتنا في الكويت، كان لنا الجيران والأصدقاء، وكل شيء مألوف. الناس يعرف بعضهم بعضا، تماما كما يعرف الإنسان راحة يده. هؤلاء هم أهل الفريج، فريج البدر المعروف، حيث نشأت، تكتل اجتماعي سيقل نظيره ويتلاشى في ما بعد، تجد فيه هذه الأسماء، عوائل: البدر والصقر والرشيد والتمار وحليمة وبيت وضحة المشاري وبيت المزيد والسمحان وعائلة الحمد والتويجري وفلاح الخرافي والنمش والحميضي والسابج ويوسف العمر وعبدالله الصانع والصبيح والدويش والسعدون واليحيى والعواد، والعبدالجادر. أسماء.. أسماء يتخطى بعضها الزمن الماضي ويعيش بيننا، وأسماء تغلّب على بعضها الزمن فلم تعد تمثل أو تذكر إلا حين تعود بنا الذاكرة الى تلك الأيام، فننقذها من النسيان، أو تنقذنا من النسيان، نحن طامحون دائما إلى أن نكون كلا كبيراً يعيش فيه ما مضى وما سيأتي. كان في الفريج ما يقارب 12 ديوانا، هي حلقة الوصل بين عائلاته، وموضع اجتماع شمل أهله المشغولين بحديث الرزق في أغلب الأحيان، ولا تكاد تسمع فيه حديثا في السياسة أو أخبارا خارج عالم يتكامل ويتسع بمقدار ما تتسع رحلات سفنه ويصل تجاره وبحارته. إذا أردت تحديد مساحة هذا الفريج، فستجده عند ديوانية البدر الحالية عند البحر شمالاً، بين المتحف الوطني ومسجد العثمان، وجنوبا الى حيث يقوم مبنى غرفة التجارة سابقا. مساحة مكتفية بذاتها، بصنائعها ونقعتها وأحاديثها ومصادر مياهها المجلوبة. من المؤكد ان كل هذا ظل قائما بعد ان غادرناه وانتقلنا منه إلى بيت العم يوسف الحميضي مؤقتا في عام 1943. فحتى ذلك الوقت كانت تتغير البيوت ولكن لا تتغير التكتلات الاجتماعية. وهكذا لم نغترب حين اشترينا أرضا وبنينا بيتا في حوطة السديراوي بجوار مسجد النفيسي الحالي وسوق الصالحية، ثم انتقلنا الى الشامية، وعدنا الى شراء بيت في الشويخ الجنوبية وبنينا هناك بيتا. ما زلنا في الإطار نفسه، أو ما زلت أنا الذي يتذكر، لم أغادر فريج البدر ولا بساتين الجهراء ولا حكمة العمة التي تركت أثرا في نفسي، عمتي التي لا تُنسى. سر العمة كانت هذه العمة بركة البيت، امرأة عطوفا الى حد بالغ، حكيمة وعاقلة، ولا اجد كلمة تصفها سوى انها قديسة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، في التزامها ونقائها الديني، كانت محافظة جدا الى درجة انها لم تذهب الى السوق يوما، شهيرة بجمالها واناقة ملبسها، حريصة على النظافة دائما، تنظف الثلاجة بنفسها، وتغسل الصحون بيديها، ولو دخلت ذبابة الى البيت أعلنت حالة الطوارئ بلا مبالغة. وكان لها سرّها ايضا، سر لا تبوح به لاحد، فبين تارة واخرى كان يتردد على بيتنا غرباء يرتدون ملابس توحي بفقر حالهم، نراهم يدخلون حجرة العمة مباشرة، وبعد وقت قصير نراهم يخرجون وهم يرددون آيات الشكر والدعاء لها، ولسنوات طويلة ظلت لدينا عن زيارات هؤلاء فكرة غامضة. لهذه الانسانة مكانة وحب كبيران في نفسي، فقد اولتني حيث نشأت في بيت العائلة اهتماما لاحد له، كانت توجهني وتنصحني جنبا الى جنب مع امي، وكنت الاقرب اليها، لم تغضبني يوما ولا أزعجت والدي، وكانت مستعدة للتضحية بكل شيء من اجلي. لدي شقيقة اصغر مني، ولدي الوالد المتعب، والوالدة التي تلازم اسمها ازهار النوير، الا انني عشت في اجواء عمتي حتى وفاتها في 24 نوفمبر 1965 في اليوم نفسه الذي توفي فيه الشيخ عبد الله السالم. حين دخلنا حجرتها بعد الوفاة، وجدناها مرتبة بدقة، والطيب يفوح من ملابسها، واذكر حكمتها التي دأبت على ترديدها على مسامعي منذ الصغر، «اكثر من الأصدقاء لان الاعداء اكثر». كانت تستخدم الحكم والامثال في تربيتي وتعليمي، حجرتها وحكمتها في مشهد واحد معا، وقبل كل شيء اثرها الكبير في تشكيلي نفسيا، في توجيهي منذ سن السابعة نحو حب العمل الانساني والتعاطف مع الفقير والمريض، هذه العاطفة ورثتها عن امي، الا انني تأثرت بعمتي، واظن ان اتجاهي نحو العمل في الهلال الأحمر جاء بتأثير هذا التشكيل الوجداني الذي ترسخ في نفسي. فما هو سر العمة الذي حرصت على كتمانه، وسر تردد الغرباء على حجرتها من دون بقية حجرات البيت؟ آنذاك، وحين كانت تحدث هذه الزيارات بين الحين والآخر، لم اكن لا انا ولا اي فرد من افراد العائلة نعرف شيئا عن هؤلاء، لم تكن العمة تتحدث عنهم ابداً، ولكننا فهمنا ضمنا انهم فقراء تتصدق عليهم العمة الطيبة، وتساعدهم في امور معاشهم، لم تتحدث مرة عن هذه الصدقات، ولا نطقت بأسماء هؤلاء الفقراء.. كانت تؤمن ان الصدقة يجب ان تبقى سراً في القلب. وحين دخلت العائلة الى حجرتها بعد وفاتها، لم تجد فيها أي اوراق أو سجلات بأسماء الزوار الغرباء، الذين كانت تساعدهم، وانقطع هؤلاء من جانبهم عن زيارة بيتنا بعد رحيل العمة، وآسفنا كثيرا لاننا لم نستطع مواصلة تقديم المساعدة الى هؤلاء الفقراء، فنحن لم نعرفهم ابدا. حكمة الاكثار من الاصدقاء، والصدقة المكتومة هما اكثر المبادئ التي تعلمتها من هذه العمة النقية، عمقا في الروح، وكم وددت لو كان في استطاعتي بعد رحيلها اصدار كتاب عنها تعبيرا عن حبي ووفائي لها. http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...incategory.jpg برجس حمود البرجس |
السدرة بين أزهار النوير (2)
في هذه الحلقة الثانية من السدرة، يتابع برجس البرجس رواية ما يتذكره من ذكرياته. وقد روى في الحلقة الاولى الولادة، والنشأة بين الكويت والجهراء والعمل مبكراً لاعالة العائلة، والانتقال من فريج البدر حتى الاستقرار في الشويخ. لا أذكر في أي سنة دخلت المدرسة، وكانت مدرسة أهلية، ولكن لا بد أن عمري كان سبع سنوات تقريباً حسب العادة التي ظلت متبعة في تلك الأيام، وستظل كذلك في مدارسنا لسنوات طويلـة. في تلك المدرسة قضيت سنة واحدة عند الشيخ أحمد الخميس الذي خاله هو الشيخ عبدالله الخلف الدحيان، ومعلمه واستاذه في الوقت نفسه. عمل هذا الشيخ مع عبد الملك الصالح في مدرسة الأيتام التي أنشأها شـملان بن علي آل سيف في كشك الصقر، جبلـة. ما أذكره من هـذه المدرسة الأولى، أننا كنا نتلقى، أنا والكثير من الزملاء والأصدقاء من فريج البـدر مثـل أولاد الرشـيد والبـدر، دروساً دينيـة وشيئاً بسيطاً من الحساب، ولاشيء آخر. ولا أذكر بالضبط كم كنا ندفع رسوما، ربما روبيتان أو ثلاث شهرياً. في المعارف بعد تلك السنة قالوا لي عليك أن تذهب الى مدارس المعارف، أي التعليم النظامي، ولكنك لا تستطيع الالتحاق بالتعليم النظامي الا اذا ذهبت لرؤية الشيخ يوسف بن عيسى القناعي. تذهب وتقول له أنا فلان ابن فلان فيسأل ويعرف. كان الشيخ يوسف هو المشرف على التعليم النظـامي منذ أن نشأ، أي منذ أن أرسى هذا الشيخ أول مدرسة نظامية في الكويت في عام 1912، بعـد افتتاحه أول مدرسة أهلية في عام 1907. وفي مدرسته النظامية الأولى، أي المباركية، تلقى أبناء الكويت العلوم والتربية على أساس نظامي، ومضى الشيخ في نظـره بعيداً، فأراد ادخال اللغة الأجنبية في المناهـج الدراسيـة، لولا أن عارضه كثيـرون. اذن كان على كل طـالب يود الدخول، سواء في المباركية أو الأحمديـة أو الشرقية، أن يذهب الى الشيخ يوسف حتى يعرفوا أنه من أولاد البلد وأنـه راغب بالدراسة. فذهبت اليه بنفسي في تلك السن، وسأل عن اسمي واسم عائلتي، ثم أعطاني ورقة وقـال خذها الى ناظر المدرسة المباركية، وكان يومها الأستاذ أحمد شهاب الدين، وابنـه عدنان هو من تـولى رئاسة معهد الكويت للابحاث العلمية. ذهبت بورقتي الى ناظر المباركية وأنا لا أعرف شيئا عما يدور حولي، فقال لي أنت من سكان جبلة، فقلت نعم، فقال اذهب الى الأحمدية. وهي المدرسة ذاتها التي درس فيها والدي بعد انشائها في عام 1921 في جبلة والتي تم جمع مبالغ مالية للمساهمة فيها بين 10 آلاف روبية و15 ألف روبية كان منهم الأمير وتجار الكويت وعين الشيخ يوسف بن عيسى ناظراً لها. وسميت هذه المدرسة النظامية الثانية في تاريخ الكويت بعد المباركية باسم الشيخ أحمد الجابر الصباح. ..وفي الصالحية وفي الأحمدية دخلت، ودرست اولى روضة يسمونها «تمهيدي»، ومنها انتقلت إلى الصف الأول. إلا أن بقائي لم يطل هناك كثيراً، فقد انتقلنا من بيت العائلة ولكثرة العدد والشبيه بمعسكر بأقسامه الثلاثة، إلى بيت آخر في الصالحية، وصارت المدرسة القبلية، المدرسة الثالثة التي أنشأها مجلس المعارف في أحد البيوت التي تملكها عائلة العصفور بعد الإقبال الشديد على التعليم، أقرب إلي من الأحمدية، فكان لابد من الانتقال إليها. كل هذا حدث، الانتقال من مدرسة إلى أخرى، ومن مرحلة دراسية إلى أخرى، والحرب العالمية الثانية تدق أصداؤها نوافذ الكبار، ويصل منها النزر اليسير عبر مذياع أو فيلم أو ذاكرة كبار السن الذين شهدوا حروبا قريبة تشبهها. وكان من الطبيعي أن نلمس آثارها حتى على مناهجنا المدرسية وعلى معيشتنا. مساعدة من دون مقابل كان التقشف سمة عامة فرضت نفسها على المدرسة، فلا كتب إلا في النادر من الأحيان. الحصول على كتب تعليم الانكليزية كان الأصعب، وأذكر أستاذاً مصرياً كان اسمه سعيد هادي يجتهد ليحصل لنا من دائرة المعارف على كتب نقرأها. ولم تكن هناك طباعة كتب في الكويت، كل ما لدينا إما من بغداد أو من مكان آخر، وكلها توزع علينا مجاناً، مثلما كانت الدراسة مجانية. ولم يشعر أي طالب بالضغوط، فقد كان الزملاء والأساتذة يهبون لمساعدة الطالب الفقير ويسألون عن أسرته، وقد ساعد الاستاذ صالح شهاب كثيرين في المدرسة القبلية ومد يده حتى إلى أسرهم. هذا الرجل ظلم كثيراً في تقديري ولم يعط حقه ولا تم تقدير حسناته. كان الأكثر نشاطاً في مضمار الحركة الكشفية والرياضية، وهو الذي تولى مسؤولية التربية البدنية وأنشأ فريقا لكرة القدم والطائرة والسلة، بل وجاء برياضيين هنود من شركة نفط الكويت التي بدأت بالعمل في عام 1946 لتدريبنا. وحتى بعد أن خرجنا من المدرسة القبلية كان يساعد من يود أن يعمل في شركة النفط. كان في فريجنا أكبر ملعب في الكويت يسمى شبان الوطن، واسع تقام فيه المهرجانات السنوية وتشارك فيها كل المدارس. أساتذة علموني في هذه المدرسة، وهي آخـر عهدي بالتعليم النظـامي إذ أنني غـادرتها بعـد أن أنهيت الصف السادس، كان من أساتذتنا، بالاضافـة إلى صالح شهاب، خـالد عبـد اللطيـف المسلم وبدر سيد رجب وابراهيـم عبد الملك ويوسف المشاري وعبد الرحمن الدعيج والمـلا عثمـان مشهور ومحمد ابراهيم الفـوزان وإبراهيم المقهـوي وسـعود الخـرجي وعبد العزيز جعفر، وكلهم من أهل الكويت. أما نـاظر المدرسة المربي الفاضل وصاحب الخط الجميـل فكان عبد الملك الصالح. ولدي شهادة في الصف الثالث الابتدائي بخط يـده تظهر كم كان خطه جميلا. لقد كان كاتباً في الأصل عند المرزوق في الهند، وجاء وعمل في التعليم وأصبح ناظر القبلية. وكان ابنـه ناظراً للأحمديـة ووكيلا لوزارة الارشـاد ووزيراً للتربيـة. ومن أبنائه الذين عملوا في القبلية إبراهيم. كان لدينا من المربين محمد زكريا الأنصاري وراشد السيف وجابر أفندي، وهو أستاذ كان قاسياً جداً يضرب بعنف، وجاء بعده الأستاذ إبراهيم عيد. وهؤلاء بدأ مجيئهم إلى الكويت في عام 1936، وتكاثروا في مجال التربية والتعليم، ثم عرفنا بعد ذلك الأساتذة المصريين مع مجيء بعثة تعليمية من مصر، وعرفت من مصادر رسمية في ما بعد أن الحكومة المصرية قبل الثورة كانت تدفع نصف رواتبهم. حادثة لافتة في هـذا الجو وقعت حادثـة لافتـة للنظر. جرت العادة أن يأتي من البحـرين مفتش انكليزي اسمه بيل غريف مكلف بالتفتيـش عـلى المـدارس والمدرسـين ومناهج التعليم، وعندما علم رئيس البعثة المصرية حمدي بيك بأنه قادم للتفتيش على البعثة المصرية أبلغ الشيخ عبد الله الجـابر رئيس دائرة المعـارف آنذاك، وقال انه سيسحب البعثـة المصرية إذا تدخـل بيل غريف، وهـو لا يرضى أن يفتش بعثته أي مسؤول انكليزي. ولكن الشيخ عبد الله الجابر طلب منه أن يقبل لمرة واحدة فقط، وبعدها لن يرجع بيل غريف. وبالفعل لم يعد بعـد سنـة، وانقطـع منذ ذلك الوقـت. ووقعت حادثة أخرى في المسار التعليمي، كانت مشكلة بين البعثة التعليمية المصرية ودائرة المعارف هذه المرة. أرسل رئيس البعثة الذي لا أذكر اسمه شكوى من الكويت، فتأثرت الكويت لأنه لم يكن هناك سبب للشكوى، وتقرر في عام 1951 أو 1952 أن يرأس البعثة التعليمية فلسطيني. وذهب نصف اليوسف وعبد الحميد الصانع إلى الشام ولبنان بحثا عن رئيس للبعثة. وتم ترشيح اثنين من الجامعة الأميركية في بيروت، د. نقولا زيادة ود. قسطنطين زريق، فارتأى د. زيادة أن يكون رئيس البعثة مسلماً، ورشح أقرب شخص لديه، فكان الأستاذ درويش المقدادي الذي يحمل الجنسية الفلسطينية. وأصبح هذا رئيس البعثة التعليمية في الكويت أو مدير المعارف حسب التسمية الوظيفية، وظل في وظيفته هذه إلى أن تسلمها عبد العزيز حسين. البيت المعسكر تحدثت عن بيت البرجس الشبيه بمعسكر، وعن ضيقي بحياة الشتاء في الكويت وانتظاري اليوم الذي أنطلق فيه إلى الجهراء، وعلي أن أتحدث الآن عن رؤيتي لسجن حقيقي لأول مرة، ورؤيتي لسجناء في غرف متعددة. كنت في العاشرة تقريباً حين اعتاد والدي أخذي معه في زيارة لسجناء لم أكن أعرف عنهم شيئاً، فيسلم عليهم ويجلس معهم قليلا ثم نخرج. ولا اذكر الا أننا كنا ننزل الدرج حين نذهب اليهم، أي كانوا في سرداب. كان هذا في عام 1939 أو 1940، لانهم أطلقوا سراحهم في عام 1944، أي بعد خمس سنوات. .. أول مرة في السجن كان هؤلاء السجناء هم، سليمان خالد العدساني وسيد علي سيد سليمان الرفاعي ومشعان الخضير الخالد وعبداللطيف الثنيان الغانم ويوسف مرزوق المرزوق وصالح العثمان. أي بعض أعضاء أول مجلس تشريعي منتخب تشكل في الكويت في 29 يونيو 1938 في عهد الشيخ أحمد الجابر الصباح. انتخبهم 320 شخصا من بين 20 مرشحاً اجتمعوا في ديوان الصقر، وترأس مجلسهم الشيخ عبدالله السالم الصباح. وبدأ المجلس يعقد اجتماعاته بالقرب من كشك الصقر، أي بالقرب منا، وكنا نراهم في ساحة الصفاة. وحدثت ما سميناها الضربة، أي حل المجلس، بعد ستة أشهر وضع خلالها المجلس القانون الأساس لنظام الحكم في فترة قصيرة. وأخذنا أهلنا أنا وأولاد عمي الى الجهراء ليبعدونا عن هذا الجو لأنه حدث قتل كما علمنا. وبعد اسبوعين تقريبا رجعنا من الجهراء، وقالوا لنا انتهت العملية الآن وسجنا الجماعة. لم أشاهد أحداث الشنق في الصفاة ولكنني سمعت عنها، وسمعت أن السجناء تعرضوا للتعذيب في البداية، الا أنه بدا لي أن وضعهم أفضل. .. واندلعت الحرب ترافقت أيام تعليمي الابتدائي كما قلت مع أيام الحرب، ومثلما كان هناك تقشف في أحوالنا المدرسية سيطر التقشف على أحوالنا المعيشية، فأكلنا خبز الشعير بدل خبز القمح، خبز شائك يجرح البلعوم عاشت عليه الكويت كلها تقريباً. وحتى الملابس لم يكن سهلا الحصول عليها، فكانت تأتينا ملابس مستعملة من الجيش البريطاني. ومع تزايد صعوبة الحصول على المـواد الغذائية صار التموين بالبطاقة، تشتري المواد المدعومة من الحكومة حسب عـدد أفراد العائلة. وفي هـذا الجو اتصلنا بالعالم عن طريقين: طريق الأخبـار التي تصل عبر الراديـو، والقليل من أهل الكويت من امتلك راديـو خاصاً به، ومن امتلك كان يستمع الى الأخبار ثم يذيعها بين الناس ليتناقلوها. أما الطريق الثاني فكان شاشة السينما التي جاءت بها الينا ضرورات الدعاية الحربيـة البريطانيـة. كانوا يقيمون شاشة العرض السينمائي في ساحة الصفاة، ويجلس أهل الكويت على الأرض ويستمعون ويشاهدون تشرشل خطيباً، أو يشاهدون صور الجيوش البريطانية وهي تتحرك، ويصلهم صوت مذيع معلق باللغة العربية اسمه عزيز العزاوي يبدأ كلامه بعبارة «لكم التحية من لندن» ثم تعرض الشاشة مشاهد من ساحات المعارك. بالطبع لم يكن هنـاك شيء عن نشاط ألمانيا وحلفائها، سوى طلعة تشرشل رافعاً يديه وجيشـه في أغلب الأحيان. ولا يصلنـا شيء أكثر من ذلك، أي أن التفاصيل ظلت غائبة؛ تحولنا إلى عيون تشاهد الشاشة وآذان تسمع تعليقـات مذيع لندن ذاك، لا نملك كتبا للقراءة ولا صحفاً.. لا شيء من هذا. السفن الشراعية ومع ذلك تميزت الكويت بشيء واحد وهو أنها بدأت تكثر من بناء السفن الشراعية، لسببين، الأول انتهاء مهنة الغوص التي تضاءلت تضاؤلا ملموساً بعد ظهور اللؤلؤ الصناعي الياباني المزروع واجتياحه للأسواق، ومنافسته للؤلؤ الطبيعي من حيث الجودة والسعر، وبهذا قضي على مهنة وصناعة الغوص في الخليج العربي كله، فنشطت حركة السفر إلى الهند وسواحل أفريقيا، والسبب الثاني، انشغال السفن التي تنقل المواد الغذائية في ميادين القتال. وكانت السفن الشراعية الكويتية تبنى بأيد كويتية ويعمل عليها أبناء الكويت، وترحل بالتمور إلى الهند، وتأتي بالأرز والخشب والسكر إلى العراق والسعودية. وصنعت السفن بأعداد كبيرة في منطقة جبلة وشرق لحساب عائلات تجارية ثرية مثل الصقر والثنيان والمرزوق والعثمان. أما نصيب العاملين على هذه السفن فكان يتفاوت، فمنهم من كانوا يفقدون مع سفنهم إذا غرقت، ومنهم من كان يتم إنقاذهم. حياة البحر المسألة المهمة في كل هذا الذي لا ينطبق عليه إلا وصف حياة البحر والدموع، إذا تذكرنا من كانوا ينتظرون على الشاطئ عودة البحارة الغائبين، ثم تأتي سفنهم لتخبر عن فقدانهم في البحر، أو تأتي سفن تخبر عن غرق سفينة بكل ما فيها، هو اعتزاز العامل الكويتي بنفسه وكرامته. لم يكن البحار يذهب بنفسه إلى المجدمي ويطلب السفر معه، بل كان يظل في بيته، ويأتي النوخذة بنفسه إلى بيته ويدق الباب على البحار ويسأله إن كان يحب السفر معه، فيرد عليه البحار«حاضر.. إن شاء الله». لم يكن البحار يذهب ليطلب حتى لو مات جوعاً. فقدنا الكثيرين في تلك الأيام، كنا نسمع أخبار غرق السفينـة الفلانيـة ومعهـا من كان على ظهرها، وغرق فلان من الناس، أو قد يـأتي خبـر عـن غرق سفينـة ولكن بحارتها تم إنقـاذهم. هذا جـانب من جـوانـب حياة البحر، أما الجانب الآخر الذي تعرفت عليه فكان مصير العاملين في الغوص. كنت أحب الجلوس والاستماع إلى أحاديث الكبار وقصصهم عن الغوص. وأكثر هذه الأحاديث كان يدور حول الديون. تبدأ القصة بسلفة يعطيها صاحب السفينة للغواص، 20 روبية مثلا، ويذهب على ظهر سفينة الغوص مع حظه بين يديه. فإذا حصل على لؤلؤة وبيعت أو حصل على شيء آخر يسقط عنه الدين، ويحصل على القليل مما تبقى من ثمن اللؤلؤة، حصته بعد خصم الدين ورسم صاحب السفينة. أما إذا لم يحصل على شيء، فسيظل مدينا، ويأخذه صاحب السفينة في السنة التالية ويمكن أن يعطيه سلفة أخرى تضاف الى الأولى. كان هناك من يعجز عن سداد ديونه المتراكمة، ولا يواتيه الحظ بصيد ثمين يعوض جهده ويسدد دينه، وعندها يمكن أن يأخذ صاحب السفينة بيته لقاء الدين. كان هذا الظلم يحدث أحياناً. يطالبه صاحب السفينة بالسداد وهو لا حيلة له إذ لم يحصل على شيء من أعماق البحر، قد يتراوح الدين ما بين 30 أو 40 أو 50 روبية لا يستطيع دفعها، ولأنه لا يملك سوى بيته، يطالبه بعض النواخذة بالخروج من بيته وتسجيله باسمه. وهكذا تنتقل ملكية البيت إلى صاحب السفينة. بعضهم كان يطلب رهن بيته حتى يتمكن من السفر وتحصيل قوته، فيستغل مالكو زمام الغوص حاجته اشنع استغلال. لقد رأيت، وانا صغير السن، مشهد عودة البحارة من الهند، وقد جلبوا معهم هدايا متواضعة لأسرهم في صندوق خشبي كبير. ورأيت كيف تأتي بهم القوارب مع صناديقهم إلى الشاطئ، فيطلب البحار من ابنه أن يأتي بحمال يحمل الصندوق الثقيل. إنه يقوم بكل الأعمال على ظهر السفينة من تحميل وتنظيف وكل ما تستلزمه وظيفة البحار من أعمال، لكنه يملك نفسا أبية تمنعه أن يكون كذلك على البر. يترك لحمال أن يعود بأشيائه إلى البيت، ويعود إلى البوم ليحمل التمر والخشب متقطع الأنفاس قبل أن يرتاح أو يرى بيتاً أو زوجة. تلك الأجـواء لمستهـا في قصيدة عنـوانهـا : «عسر الدهر كابح زنودي بكمبار» قيلت اثناء كساد الغوص عام 1929. |
السدرة بين أزهار النوير (3)
في الحلقة الثالثة من «السدرة» يحكي برجس البرجس قصة كفاحه في التعليم بعدما ترك المدرسة واعتمد التثقيف الذاتي، كما يروي قصة سفرته الاولى الى بغداد ولقائه الاول مع الرجل الذي سيصبح لاحقا أحد اصدقاء العمر، وهو صالح العجيري الذي كان ذاهبا الى العاصمة العراقية كي يطبع روزنامته، حيث لم تكن المطبعة قد دخلت الكويت بعد. مع عام 1946، أي مع نهاية الحرب، بدأت تتغير أشياء كثيرة، ربما أبرزها بداية عمل شركة نفط الكويت KOC، ووصولي الى المحطة الأخيرة في المدرسة القبلية. في هذه السنة بدأ تصدير النفط، مع أنه كان مكتشفاً منذ الثلاثينات في منطقة بحرة وراء كاظمة، وبعد ذلك في برقان، ولكن العمل في هذه الحقول توقف بسبب الحرب. كانت الحياة قاسية على الجميع، لذا اضطررت الى ترك الدراسة ومباشرة حياة العمل في شركة النفط، حياة العمل التي ظلت متواصلة منذ ذلك الوقت، وظل قلبي على الدراسة في الوقت نفسه، جامعا بين التقلب في الوظائف وبين حرصي على تلقي دروس خصوصية. في البداية، استطعت، بالقليل من المال الذي أوفره بين فترة وأخرى، الاستعانة بمدرس لغة انكليزية، ثم وسعت الدائرة الى تلقي دروس خصوصية في الرياضيات والتاريخ واللغة والأدب العربي والكيمياء والطبيعيات، بعد انتقالي الى العمل في وزارة الصحة، على يد مدرسين هنود وفلسطينيين أدفع لهم من جيبي الخاص. تثقيف ذاتي منذ تركي المدرسة القبلية لم أدخل امتحانا، وسيطر التعليم الذاتي على مسار حياتي وثقافتي. وربما كان عدم حصولي على شهادة جامعية في بداية حياتي العملية هو المحفز الأكبر لي لتأكيد قدراتي، فجاهدت لأحصل على أكبر قدر من العلم؛ كثفت القراءة، بالاضافة الى الدروس الخصوصية وسط حياتي العملية. في البداية، تلخص عملي في تسجيل بيانات البضائع الخاصة بشركة النفط التي تنزلها البواخر؛ تسجيل علاماتها التجارية وأعدادها قبل أن يتم نقلها الى الأحمدي. تقف البواخر على مبعدة من الشاطئ مقابل دسمان من ناحية البحر، وتنزل بضائعها في ناقلات صغيرة تسحب الى ميناء الشويخ، وهناك تنزلها الرافعات. على رصيف التفريغ هذا، عملت لمدة تقارب الشهرين، ثم نقلوني للعمل في محطة تجميع البنزين في الشويخ. هناك حيث تجيء دائما الباخرة «تسيلا» قادمة من عبادان الى الكويت محملة بالبنزين، فنستقبلها وهي تفرغه في الخزانات، ومن ثم تنقله الشاحنات المخصصة لنقل البترول الى الأحمدي أيضاً. ويبدأ عملي، وعمل زملاء معي من بينهم علي المتروك، بعد أن تصل الباخرة الى الميناء وتقوم بتفريغ شحنتها في الخزانات، فنعتلي الخزانات ليلا ونقوم بقياس العداد والهواء البارد يهب علينا. أما رائحة البنزين والهواء المتصاعد من قلب الخزانات حين نفتح أغطيتها فكان يورثنا الدوار. ولا نستطيع شيئا بالطبع، هذا هو عملنا. كنا نسعى وراء لقمة العيش. الراتب الشهري كان راتبي في البداية ككاتب يسجل بيانات البضائع 157 روبية ونصف الروبية، والأهم هو نصف الروبية هذا. كم كانت عزيزة هذه الروبيات بعد شهر من الوقوف يومياً على رصيف الميناء والتحديق بعلامات البضائع وعدها، والحرص على أن يكون التسجيل دقيقاً والعدد صحيحاً. بالنسبة لي كان الراتـب جيداً، وكذلك رواتب وأوضاع العاملين في الشركة، وقد توزعوا على وظائف مختلفة بين حرفيين وموظفين منهم الصغير ومنهم الكبير. وعمل معنا أولاد عائلات غنية. والحقيقة أن أعداداً لا بأس بها من أهل الكويت عملوا في الشركة في هجرة شبه جماعية من أعمالهم التقليدية نحو حياة أكثر حداثة حملت وعوداً بالتغيير في أكثر من جانب من جوانب الحياة، فكان منهم العمال والنواخذة. وأذكر من هؤلاء عبدالرحمن العتيقي، وكان مسؤولا عن تعيين الموظفين، وسعود الفوزان وبدر السالم. مَنْ استفاد؟ والحقيقة أن شركة النفط أخذت كل أهل البحر تقريباً خلال السنوات 1948 و1949، أعني الذين كانت مهنتهم الغوص والسفر، واعطوهم أعمالا في البواخر، فمن لم يكن نوخذة اشتغل عاملا، ولهذا كانت غالبية اليد العاملة من الكويتيين. ولكن لابد من القول انهم لم ينصفوا اليد العاملة الكويتيـة آنذاك، فكانت الرواتب متدنية. ولم يستفد من العمل في شركة النفط استفادة ملحوظة سوى أفراد معينين، أناس لهم أسلوب خاص حصلوا على مراكز واستفادوا مالياً، أما بقية العاملين فلم يكن من نصيبهم سوى رواتبهم. ومع ذلك كانت الوعود مثمرة في بعض النواحي، فبدأ نوع من الرخاء يتسرب الى الحياة في الكويت شيئاً فشيئاً بعد سنوات التقشف والحرمان التي فرضتها ظروف الحرب، وفرضها انتهاء زمن الغوص على اللؤلؤ الذي كسرته مزارع اللؤلؤ اليابانية، وتضاؤل فرص تشغيل سفن التجارة البحرية. بـدأ الأكل يتحسن مـع توافـد المـواد الغـذائية وتنفرج الأسارير في ضوء الدخل المضمون على قلته في يد البعض. وتحسنت أيضاً لغتي الانجليزية خلال عملي مع تزايد حضور المتحدثين بهذه اللغة. بيوت الأحمدي والظاهرة الأكثر لفتاً للنظر كان حضور الانكليز المتزايد مع توسع أعمال الشركة، لكنهم لم يختلطوا بالجو الاجتماعي الكويتي بعامة، وصنعوا لهم جوا خاصا تجمعوا تحت مظلته في الأحمدي، فكان لهم نادي حبارى الخاص بهم، ولهم بيوتهم الشبيهة ببيوت المنتجعات الريفية ذات الطابق الأرضي الواحد بحدائقها الأمامية الصغيرة، ولهم ملاعبهم الخضراء التي مارسوا فيها هواياتهم المفضلة، الغولف والسباق والاسترخاء في الأماكن الخلوية. ومع ذلك حملت طبيعة الحياة التي بدأت تمثل أمام أعيننا مع حركة تصدير البترول وهجرتنا إلى الأعمال الجديدة منافذ ومداخل لنا إلى العالم المعاصر. قبـل ذلك كان العـالم يصلنا عبر راديـو أو حكايات بحـارة ونواخـذة وتجار، وتـدور أخباره بيننا كما تدور الاشاعات، أمـا الآن فها هو يقترب منـا ويأتي إلينا بناقلاته وأشخاصه وصـوره الحيـة. حياة تتغير بدأت الحياة تتغير، بدأت تظهر سيارات في الشوارع، وتظهر شركات مقاولات تعمل مع شركة النفط، وتستخدم عمالا كويتيين وغير كويتيين، وحظي أصحاب هذه الشركات بأوضاع مالية جيدة. ولكن عادة السير على الأقدام لم تغادرنا في بعض الأحيان، وحتى بعد أن غادرتنا ظلت أحداثها الطريفة تعود إلى الذاكرة. كان عملنا في محطة البنزين في الشويخ مناوبة، فيبدأ دوامك مثلا في الواحدة ظهراً وحتى الحاديـة عشر ليلا. وكثيراً ما كنا نعـود إلى الكويت سيراً عـلى أقدامنا، فنجد كل البوابـات مغلقة. كانت هـذه البوابات نوافـذ السور الكبير المحيط بالكويـت، والذي ظل قائماً منـذ بنائه في عام 1920 حتى عام 1957، فالكويت حالها حال المدن القديمـة تغلق أبوابها مساء لتحمي أهلها وتصونهم. هـذه البوابـات هي البريعصي والشامية والجهراء والمقصب وبنيـد القار وشرق. والساعـة الحادية عشر هي موعد الإغلاق، وتكون سيارات الشركة قد أنهت أعمالها ودخلت من بوابة الجهراء قبل هذا الموعد، ويندر أن يستجيب الحارس لنداء المشاة المتأخرين من أمثالنا فيفتح البوابة. ويزيد الأمر سوء أن عشيشا، أي أكواخاً سكنية بدائية، كانت تنتشر في منطقة المحطة، ويقيم بدو مع كلابهم، مما كان يحول رحلة العودة إلى نزهة محفوفة بالخطر، وكم من مرة فوجئنا بالكلاب تركض وراءنا وأمامنا البوابات مغلقة! عبر المسلخ إلى البيت في هذه الأوقات العصيبة كنت وزميلي المرحوم إبراهيم المضف نقدم رجلا ونؤخر أخرى، فأقول له أن يتقدمني، وإذا لم يحدث شيء مفاجئ، كنت أتقدم. وحين يعيرنا حارس البوابة أذنا صماء، نضطر إلى الهرولة إلى المقصب أي المسلخ على شاطئ البحر، ونهبط ونخوض والماء يغطي نصف الجسم، ثم نعتلي صخور الشاطئ متسللين. لولا هذه الطريقة ما كنا نستطيع الوصول الى بيوتنا. ما بعد النفط من الواضح أن طبيعة الحياة، الحياة التي بدأنا نطلق عليها تسمية مابعد النفط، تختلف عما قبلها. ليس لأن التغير بدأ يلم بالموجودات من حولنا فقط، بل لأن هذه التغيرات بدأت تلم بنفوسنا أيضا وان بدت طفيفة في البداية. كل مايتغير حولك يؤثر فيك والعكس صحيح. أنت جزء من كلّ حتى، وان كنت لاتعي هذا، والكل أوسع من فريج الصغر وبساتين الجهراء وهذه المسافة بين محطة البنزين في الشويخ وبوابة الجهراء، انه يمتد الى عوالم تظل دائما وراء الأفق حتى وان اقترب بعضها وتكشف. كل ما يتغير من حولك هو نافذة ومدخل الى عالم آخر. صحيح ان البحـر واسع بما يكفي لتخيل شواطيء ومدن صاخبة وأجناس بشرية مختلفة، وصحيح ان الطرق البرية تأكيد لوجود بساتين ومدن أخرى، الا أنك ان لم تخط خطواتك الأولى، سـواء على الطرق البحرية أو البرية، ستظل حبيس تخيلاتك، أو ما يصوره الوهم لك. وستظل حبيس ماضيك تقيس المسافات بمسطرتـه، وتتعرف على الجديد من نوافذه. ولم أكن من هذا الصنف. كنت تواقـا للتجربة والمعرفـة والعلم بما لم أعـلم. اول سفر وهكذا ما أن سنحت لي أول فرصة في عام 1951 للسفر في عطلة الأعياد حتى انطلقت في أول رحلة لي خارج الكويت، الرحيل الى البصرة، بصرة النخيل والأشجار والشوارع التي لم نألف مثيلا لها في الكويت. بصرة المياه والأنهار والخضرة، وكلها مما يمتلك جمالا كان آنذاك تجربة جديدة، أو مشهدا أود أن أقرأ كل حرف فيه. كان عـدد من تجار الكويـت يقيم في البصرة اثناء الحـرب العالميـة الثانيـة، فهي مركز تجـاري، والكويت مركز لصناعة السفن الشراعيـة، وللتجار هناك بساتين نخيل كثيرة تنتج التمور، وتصدر هـذه التمور الى الهند بوساطة السفن الكويتية. من هؤلاء التجار المقيمين، في البصرة عبدالله الصقر وجاسم الصقر لرعاية مصالحهم وأملاكهم ومحمد الغانم وآخرون، ولديهم مكاتب، وقد شكلوا طبقة لم نختلط بها وان كنا نراهـا من بعيـد وهي مشغولة بشؤونهـا ومسؤولياتهـا. بالاضافة الى هذا كانت للكويتيين بالبصرة علاقات وثيقة عبر الارتباطات العائلية، مثلما كانت لهم علاقات وثيقة بأهالي الزبير على مبعدة 20 كيلو مترا جنوب البصرة. ومع ندرة وجود عائلات كويتية في الزبير الا أن علاقات المصاهرة مع سكان هذه البلدة الذين ترجع أصولهم الى نجد كانت متواصلة. طريق السكة طريقنا إلى البصرة كان يسمى طريق السكة، وفي كل عام بعد موسم الأمطار ومجيء الربيع، يذهب إليه مشرفون مع عمال لإصلاحه، وكان جدي عثمان الموسى أحد هؤلاء المشرفين، وكذلك بوعبدالرزاق العبدالجليل. على هذا الطريق انطلقت إلى البصرة بالسيارة مع أصدقائي، ومنهم محمد البدر بن حمد الناصر البدر، فنزلنا معا فندق سميراميس. كان الطعام شهيا ومنوعاً، وقدموا لنا في مطعم العصري التشريب كإفطار، والقوزي مع التمن على الغداء، وكل هذه مأكولات نفيسة. وهناك عرفنا الساندويشات التي كانوا يسمونها «لفة». في نظرنا كانت البصرة جميلة جداً، وبخاصة ذلك الجزء الشمالي منها على ضفاف شط العرب المسمى العشار، والذي يعد مركزها التجاري بشارعه الطويل الممتد بضعة كيلومترات على طول الشط. في ذلك الزمن ازدهرت هذه المنطقة بالأشجار والشوارع والحركة التجارية والمكتبات وصالات السينما والمقاهي، وهو ما لم يكن متوافرا في الكويت. وأذكر أن سينما الوطني هناك كانت تعرض آنذاك فيلم عنترة وعبلة، وكان مبنى الفندق الذي نزلناه ممتازاً، وفي غرفه مرش استحمام صادفناه لأول مرة. أما طريقة تكييف الهواء فكانت مما نصادفه لأول مرة أيضا. تغطى النوافذ من الخارج بإطار شبكي مصنوع من جريد النخيل محشو بنبات شوكي أظنه العرفج، ويصب عليه الماء بين فترة وأخرى، فيتخلله هواء الصيف الساخن وينساب إلى الغرف باردا ورطباً. في عام 1952 عدت إلى البصرة ثانية، ولكن مع فريق كرة السلة في النادي الأهلي، وهو نواة نادي الكويت الحالي، وقد تأسس في أوائل الخمسينات ليكون أول ناد رياضي كويتي قام لمنافسة الفرق الأجنبية. من أعضاء الفريق كان معي فهد الساير وعبدالمحسن الفرحان وخالد الحمد وخضير مشعان وفهد الصرعاوي وعبدالله مقهوي. ودخل فريقنا بلاعبيه هؤلاء مباراة ضد نادي الميناء البصراوي لكننا خسرناها. الرحلة الثالثة رحلتي الأولى خارج عالمي بدأت بمشهد فندق سميراميس وغرفه ومرشاته وتشريب المطعم العصري، وانتهت الثانية بخسارة مباراة، إلا أن رحلتي الثالثة بدأت بمصادفات مختلفة واتصلت بمدى أبعد مما ذهبت إليه في البداية. كانت الرحلة هذه المرة إلى العاصمة بغداد، وفي عطلة الأعياد أيضاً، ومعي ابن عمي عبدالله ومحمد نصف السليمان النصف وداود العتيقي. كانت وسيلتنا قطارا يبدأ رحلته من محطة المعقل شمالي البصرة مساء، ويجر وراءه طيلة الليل عددا من القاطرات بمقاعدها الخشبية العارية، ببطء حينا وبتسارع في أحيان أخرى. وفي القطار حشد من الناس الريفيين على الأغلب الذاهبين إلى قراهم المتناثرة على امتـداد الطريق، فما ان يتوقف في محطـة حتـى يهبط أناس ويصعـد إليه أناس آخرون، ويهرع الباعة إلى نوافـذ القاطـرات ليعرضوا بضاعتهم عـلى المسافرين، الخبز واللبن والقيمـر. العجيري والروزنامة في هذا القطار التقينا مصادفة بصالح العجيري، وكان ذاهباً لطباعة روزنامته في بغداد حيث لم نكن عرفنا المطابع بعد، فاستفدنا من خبرته بهذا الطريق الذي يبدو أنه كان يتردد عليه كثيراً، وبخاصة من خبرته بأنواع الأطعمة التي يعرضها الباعة. حين وصلنا السماوة مع تباشير الصباح الأولى ألقى إلينا بنصيحته الأولى: «عليكم بالقيمر»! أي بالقشدة الشهيرة التي ينتجها الريفيون هناك من حليب الجواميس والأبقار. وبالفعل كانت نصيحته في محلها، فالقيمر مع الخبز الساخن فطور فاخر لا ينسى طعمه. وكانت النصيحة الثانية الذهاب إلى فندق تروكاديرو، والنوم على سطحه طلباً للبرودة والهواء الطلق! وظل العجيري دليلنا في شوارع وأماكن بغداد التي يعرفها، بينما كنا نهبط عليها لأول مرة. مع زهور حسين في أول ليلة لنا ذهبنا، وبناء على نصيحته أيضاً، إلى ملهى صيفي لرؤية مطربة مشهورة اسمها زهور حسين. واتخذنا مجلسنا في المقاعد العليا المشرفة على قاعة الملهى المكتظة برواد من مختلف المشارب والأزياء، ريفيون تميزهم الكوفية والعقال الضخم والشوارب الكثة، وسكان مدن من الموظفين والطلبة يرتدون الملابس الغربية، البنطلون والقميص، وعمال من المناطق الشعبية مفتولو العضلات تميل على رؤوسهم الفيصلية. كل هؤلاء كانوا يجلسون فرادى أو جماعات حول طاولات تتوسطها زجاجات العرق العراقي الشهير باسم أبو كلبشة وأمامهم المسرح الذي سيشهد ظهور المطربة. هرج ومرج كان الجو هادئا في البداية، ولكن مع مضي الوقت بدأ السكر يظهر على وجوه وتصرفات الشاربين، وما ان ظهرت زهور حسين وبدأت بالغناء حتى وقف عدد من لابسي العقال الضخم وقد استخفه الطرب، وبدأ كل يرمي عقاله على المسرح تحت قدمي المطربة وهم يترنحون، تعبيرا عن إعجابهم. بعد نصف ساعة بدأت معركة وسط هذا الحشد وتطايرت الزجاجات والشتائم والصرخات. وساد هرج ومرج لم نستطع معه الخروج وقد فوجئنا بانقلاب الموقف. ولكن من حسن حظنا أن بجوار مجلسنا راقب المشهد معنا شاب وسيم يتمتع بحراسة ثلاثة مسلحين، فلاحظ ارتباكنا، ومن ملامحنا ولباسنا أدرك أننا لسنا من العراق، فقال لنا تعـالوا اخرجوا بصحبتنا. وسألنا عن هـذا الشـاب فقيل لنا انه أحد أبناء شمر. وعرض علينا مع مرافقيـه أن يصطحبنا إلى فندقنـا، إلا أننا لم نقبل، واتخـذنا طريقنا بسيارة أجرة. كانت هذه هي المرة الأولى والأخـيرة التي نغشى فيها أماكن مثل هـذه يختلط فيها الغناء الجميل بالشراب ومشاجرات السكارى. .. في بيروت في العام نفسه كانت رحلتي الرابعة الى العالم الخارجي، الى بيروت هذه المرة عبر دمشق، هناك ذهبت الى الجبل مباشرة، وفي فندق عبدالله مجاعص في بحمدون أقمنا لمدة ثماني ليال مع فطور وغداء وعشاء، وتحتنا مباشرة على منحدر ملهى طانيوس. التقيت هناك بصديقي عبدالعزيز العتيبي الدائم التردد على بيروت بسبب حالة والده الصحية. وأصبح العتيبي دليلنا أيضا الى ساحات بيروت، الى ساحة البرج وساحة رياض الصلح، والشوارع الجانبية ومقاهيها، وشارع البحر والصخرة العالية الراسخة وسط الماء بتجويفها العجيب الذي جعلها أشبه بساقي عملاق بدين ضاع نصفه الأعلى وغاصت ساقاه حتى الركبتين في الماء. تلك هي صخرة الروشة كما تسمى، أو صخرة المنتحرين المفضلة للرحيل الى العالم الآخر، كما أصبحت في المشهور من القول. كان الوقت صيفاً، ومع ذلك فالجو في الجبل كان يشيع البرودة المنعشة، وينتشر الضباب مساء فيغلف المنحدرات ويرف حولك وتحتك كأنه خيوط دخان تتموج في الرياح الخفيفة. كل هذا كان أمراً باعثاً على الارتياح، سواء كانت الرحلة الى البصرة أو بغداد أو بيروت، وبخاصة حين لا تكون وحدك. فلكل مكان طابعه الخاص، لكنني كثيراً ما شعرت بالغربة حين يتصادف أن أسافر وحدي وأواجه الوجوه والأماكن كمن يصادف كتاباً يقرأه من دون مرشد أو دليل. |
السدرةبين الأسرّة البيضاء (4)
في هذا الجو الخمسيني تفتحت طرقٌ على الصعيد العام والخاص، أي على صعيد الدولة والمجتمع وعلى صعيد الأفراد، في كويت جديدة بدأت تلوح آفاقها، كما قلت، مع بدايـة تصدير النفط، أضف إلى ذلك ما بـدأ يحـدث على الصعيد العربي حـولنا فيلقي بظلاله، إن خيراً أو شراً، على امتداد الخريطة العربية. وبدا أن منطقتنا، وبلدنا معها، ترحل إلى عصـر آخر، ونجد كأفـراد وجماعات أن علينا أن نتحرك أيضاً ونغادر نوافذنا وأبوابنا التقليدية إلى ساحات جديدة. قبل الدستور في 29 يناير 1950 توفي الشيخ أحمد الجابر، وكان ابن عمه الشيخ عبدالله السالم في الهند، فتولى إدارة شؤون البلاد الشيخ عبدالله المبارك الصباح حتى عودته من الهند. آنذاك لم تكن توجد قواعد محددة لاختيار الحاكم، ولا وجود لدستور يمكن الرجوع إليه. فكان الاختيار يتم بناء على توافق آراء أفراد الأسرة الحاكمة. الشيخ عبدالله السالم كان الأكبر سنا وقد تجاوز الخمسين عاماً فحاز على موافقة أفراد الأسرة. وحين وصله خبر اختياره جاء بالباخرة إلى الكويت. وفي يوم التنصيب حدث ما يمكن أن يعتبر أول مبادرة على الروح الجديدة في كويت الخمسينات. كويت جديدة كان من المتبع أن يحضر يوم التنصيب المعتمد البريطاني في الخليج ومقره في مدينة بوشهر، فرتب الشيخ عبدالله السالم على ما أذكر أمراً جيداً في اعتقادي، وقد أكون مخطئاً، وهو أن يتأخر متعمداً عن الوصول إلى قصر نايف، حيث مكان الاحتفال، حتى لايصل إلى مكان الاحتفال قبل وصول المعتمد البريطاني فيبدو وكأنه هو من يستقبله. وهكذا أجبر المعتمد البريطاني على أن يكون هو من يستقبله وليس العكس. قد يكون هذا الأمر مقصوداً أو غير مقصود، إلا أنه كان مبادرة لطيفة دلت على احترام وتقدير للنفس وللكويت. وكانت هذه المبـادرة فاتحة التغيير في عهد عبدالله السالم الذي شمل أحوالا متعددة. فمثلا كان يرفـع على سيارات أسرة الصباح، وهي بـلا أرقام، علم أحمر عليـه كلمة الكويت لتمييزها. هـذه السيارات المتميـزة كانـت تعيق المرور في غالب الأحيان، فاتخـذ الشـيخ عبدالله السالم أول خطوة بأن جعل لسيارات الشيوخ أرقاماً شأنها في ذلك شأن بقية سيارات خلق الله ومن دون أعلام. قوانين وتنظيم وجاءت الخطوة الثانية؛ وضع القوانين وحاول تنظيم الحياة في الكويت ونقلها من عهد القبيلة الى عهد المدنية الحديثة، وأصدر مجلة اسمها «الكويت» لنشر القرارات والاعلانات الرسمية، وهي المجلة التي أصبح اسمها «الكويت اليوم»، وبذلك وضع حداً لعهد متشدد بلا قوانين، كان فيه الشخص العابث أو الخارج على المألوف يتعرض للضرب من دون محاكمة، وكان فيه عبدالله المبارك أشبه ما يكون بوزير داخلية مسؤول يساعده عبد الله الأحمد الأبن الأكبر للشيخ أحمد الجابر، رئيسا لدائرة الأمن العام، الشهير بقسوته وصرامته في تطبيق القوانين الشرعية الاسلامية، وباستقامته وتدينه أيضاً، فكان العمل له والسمعة لعبد الله المبارك. .. في الصحة وفي هذا الجو جاء قراري الانتقال من شـركة النفط الى الوظيفـة الحكـوميـة في عام 1950. تقدمت بعدة طلبات، الى المحاكم حيث كانوا بحاجة الى كتاب محاضر، والى دائرة المعارف التي توسعت وصارت تفتح فرصا لتوظيف كتاب المحاضر أيضاً. ولكنني وجدت طريقي الى دائرة الصحة بفضل مساعدة اثنين طلبا مني الانتقال الى هذه الدائرة، هما صالح شهاب والشيخ عبد الله النوري. هذه الدائرة نشأت في عام 1936، وتولى رئاستها منذ تأسيسها وحتى استقلال الكويت في عام 1962 كل من الشيخ عبد الله السالم الصباح (1936-1952) فالشيخ فهد السالم الصباح (1952-1959) وأخيراً الشيخ صباح السالم الصباح (1959-1961). وكان مقرها في مبنى مجلس التخطيط الحالي ومقر المستودعات الطبية أيضاً. وكان مجلس ادارة الدائرة آنذاك يتكون من مـدير الصحة نصـف يوسف النصف وعبدالحميد الصانع ومحمد عبد الرحمن البحر وعبد العزيز عبد الله الحميضي وأحمـد عبدالله الفهد. ويشغل وظيفة المحاسب عبد المحسن الزبن، يساعده يوسف العبد الرزاق، أما أمين الصندوق فكان جاسم ابراهيم المضف. المقابلة وبـالفعـل استدعاني المـديـر لاجراء مقابلة معي، وأحالني بعـد اللقـاء الى سكرتيره محمد الزعتـري ليمتحن لغتي الانكليزية، فأعطاني كتاباً من 500 صفحة تقريباً لأقرأه، فقلت له، لو كنت أعرف ثلاث صفحات من هذا الكتاب لمـا تقدمت للعمل هنا، وقلـت انني مازلت أواصـل الدراسة. بالطبع لم أنجح في الامتحان المطلوب، فرفع تقريرا عني يقول إنني لست بالمستوى المطلوب لهذه الوظيفة. فأحالوني الى المستودعات الطبية المسؤول عنها الملا يوسف الحجي ومساعده ابراهيم جاسم المضف لأعمل بوظيفة مساعد مختص باستيراد الأدوية للدائرة. بعد فترة قصيرة تقارب الشهر، طلب مني الملا الحجي الاتصال بالدكتور اوننغ، التابع للمعتمد البريطاني، وهو دكتور يتميز بهدوء الطبع والتواضع وكان مسؤولا عن المحجر الصحي. فذهبت اليه بعد اتصال مسبق في مسكنه القائم بالقرب من دائرة الصحة مقابل بيت صباح الناصر. كان معه خلال اللقاء شخص غير مؤهل اسمه السيد ميرزا يبلغ من العمر 68 عاماً. ناولني الدكتور اوننغ كتابا باللغة الانكليزية ليمتحنني، قائلا: «اقـرأ» في يوم واحد قرأت قراءة جيدة، الا أنني كنت مضطرباً أخشى أن يطلب مني ترجمة ما قرأت، مع علمي أنه لا يفقه من العربية شيئاً. ولكن يبدو أنه أعجب بقراءتي ظنا منه أنني فهمت ما قرأت، واقترح أن يقوم السيد ميرزا بتدريبي على التطعيم، فوافقت. وقام هذا بتدريبي لمدة يوم واحد، وفي اليوم الثاني صرت أتقن التطعيم. عندئذ طلب مني أن أستلم مركز المحجر الصحي في المطار القديم في ضاحية عبد الله السالم. كان المركز عبارة عن خيام مؤقتة أقيمت في انتظار الانتهاء من بناء مبنى جديد للمركز. وهناك تلخص عملي في التأكد من وجود شهادات تطعيم لدى المسافرين، وتطعيم من لم تتوفر معه شهادة. المستشفى الاميري قضيت في هذه الوظيفة مايقارب العام براتب مقداره 250 روبية، جيئة وذهابا بين بيتي والمركز، اما سيراً على الأقدام أو بوساطة دراجة أو بسيارة الاسعاف أحيانا اذا مرت بي مصادفة، قبل أن يطلب مني الانتقال الى المستشفى الأميري. وجاء هذا الطلب لأحل محل سعدون صالح المطوع المسؤول عن مخازن المواد الغذائية بعد أن نوى ترك عمله. كانت الحكومة هي التي توفر الأدوية وتصرف للمستشفى الحكومي الوحيد آنذاك الواقع شرق الكويت مقابل ساحل البحر، والذي افتتح في أكتوبر 1949 تحت رعاية الشيخ أحمد الجابر الصباح، وكان يتكون من دور واحد يحتوي على 45 سريراً، وفيه غرفة عمليات ومختبر وصيدلية، ويعمل فيه 13 طبيبا وطبيبة تساعدهما ممرضتان. .. والمستوصف «السوري» قبل هذا كـان لدينا مستشفى الارسالية الأميركية منذ ما قبل الحـرب العالمية الأولى، وهـو مـن أدخل الطب الحديـث عندنا والطب الوقائي عبر حملات التطعيم. أما بالنسبة للمستوصفات، فلم يكن لدينا منها شيء باستثناء مستوصف حكومي متواضع يعالج الحالات العادية ولايجـري عمليات، كان الناس يطلقون عليه تسمية المستوصف السوري نسبـة الى الدكتـور يحيى الحديدي الذي قـدم اليه من سوريا في عام 1940، والدكتور صلاح الدين أبو الدهب الذي جاء بعده. منذ انشاء المستشفى الأميري تولى ادارتـه نصف يوسف النصـف، وكـان لا يـزال هو المـدير حين وصلت في عـام 1952 أميناً للمستودعات الغذائية براتب 250 روبية أضعها بين يدي والدي، ففي تلك الأيام لم تكن لـدي التزامات من أي نوع. وبدأت هنا أستشعر لأول مرة ربما طبيعـة الحيـاة بين الأسرّة البيضاء، طبيعة النفوس البشريـة بما تحمله من تفان وإخلاص أحياناً، ومـا تحمله من طموحات شخصية وصغائر على حساب هذا العمل الإنسـاني في أحيان أخـرى. قبل مجيئي، كانوا استقدموا طبيباً انكليزياً يدعى إريك بيري، رئيسا للأطباء منذ إنشاء المستشفى، بالإضافة إلى أطباء عرب، مثل نايف حسن من لبنان وسامي بشارة وعادل نسيبة وأحمد سلامة. وعرف المستشفى مع بداية عملي فيه أول طبيب كويتي مؤهل في الكويت ومنطقة الخليج بعامة، تخرج وبدأ بممارسة عمله، هو د. أحمد الخطيب. خلافات لا أعـرف ماذا كانت عليـه الأوضاع قبل وصولي، إلا أنني بـدأت ألمس حدوث مشكلات على أكثر من صعيد، بين الأطباء أنفسهم وبينهم وبـين رئيسهم بيري، وبين أعضاء مجلس الإدارة ورئيس دائرة الصحـة الشيخ فهـد السالم الصباح الـذي تسلم رئاستها في هـذا العـام وعقد أول اجتماع له مع أعضاء مجلس الإدارة، وفي الاجتماع الثاني حدثت الخلافات. لم يكن رئيس الدائرة كما بـدا ينوي الإبقاء على هذا المجلس ولا على مديره، فاستقال أعضاء المجلس والمدير نصف يوسف النصف. .. واستقالة ومن مكاني ذاك في المستودعات الغذائية عرفت أن الاستقالات كان سببها اختلاف وجهات النظر اختلافا جوهريا، فالشيخ فهد السالم الصباح يريد تنفيذ آرائه وأفكاره وفرضها بلا نقاش، بينما اعتاد أعضاء المجلس، وبخاصة مع تراكم تجارب مشاركة الكويتيين في اتخاذ القرارات في الشأن العام منذ العشرينات مرورا بالثلاثينات ووصولا إلى الخمسينات، عدم الموافقة على التفرد، والأخذ بمبدأ النقاش وممارسة الحقوق الديموقراطية والإطلاع على الأمور ظواهرها وبواطنها. وكان هذا جزءا من اتجاه عام بدأ يتخذ طريقه إلى حياة الكويتيين، واصبح الوقوف بوجهه نوعا من التعويق واحتجاز فاعليات التطور. بعد أن استقال النصف، عينوا مكانه عبد الحميد الصانع بطلب من الشيخ فهد السالم، وكان الصانع على علاقة جيدة بالنصف، وكلاهما خطوطه مفتوحة مع الشيخ عبد الله السالم الذي شملهما بعطفه وثقته. ولم يلبث الصانع أن اصطدم بالشيخ فهد وترك دائرة الصحة، فقام بتعيين مدير جديد هو علي الداوود الحمود الذي ظل في هذا المنصب من عام 1952 إلى عام 1959. وصار الحمود، الذي يتمتع بمعرفة مسبقة وعلاقات من جهة العائلة بالشيخ فهد، هو المسؤول، واحتاجوا إلى مساعد مدير، فجاؤا بعبد المحسن المخيزيم، والد من يتولى الآن بيت التمويل الحالي، ولم يكن هناك انسجام بين الداوود والمخيزيم. {موضة} الحذاء أهم العاملين في المستشفى الأميري آنذاك في عامي 1951 و1952: د. بيري رئيس الأطباء، الحاكم الفعلي للمستشفى، ومرسخ نظام الإدارة الإنكليزي ببيروقراطيتـه وروتينـه القاتل، واستطاع هـذا الطبيب، نظراً للجهـل بالإدارة آنذاك، مد نفوذه الى دائرة الصحة بعامة. د. جون والتر نائب رئيس الأطباء، الاخصائي بالأمراض الباطنية من الدرجة الأولى، والحاد الطباع والسريع الانفعال، وأيضاً الميال الى الغطرسـة والبعد عن التواضع. كلا هذين الطبيبين كان ذا عقلية استعمارية مستمدة من رواسب استعمار بريطانيا للهند، جمعت بين الخشونة والعنجهية. والغريب أنهما كانا يضربان الأطباء بل وحتى المرضى أحيانا. وقد رأيت د. بيري يضرب طبيبا هندياً متخصصا بطب العيون هو د. مستري من جوا (المستعمرة البرتغالية في الهند قبل تحريرها) بالحذاء. كان هناك أيضاً مساعد لرئيس الأطباء هو د. جون فوبس اختصاصي التخدير الجاد في عمله رغم أنه لم يكن حاصلا على شهادة الزمالة في التخدير، ود. ماكريدي، ود. آلبن اخصائي العيون، والطبيبة كلارك المسؤولة عن قسم الولادة، ورئيسة الممرضات ملوي التي كنا نلقبها بلقب أم أحمـد، وتحل محلها أحياناً خلال غيابها زوجـة د. بيري. وتسلم قسم الأسنـان د. كاي. وتسلمت الآنسة سميث قسم التصوير بالأشعة. وهكذا تشكلت مجموعة انكليزية. يضاف الى هؤلاء أطباء وعاملون عرب من جنسيات مختلفة، مثل د. نايف حسن مسؤول قسم الأطفال، ود. أحمد سلامة مسؤول قسم الأمراض الصدرية، ود. يوسف عيتاني. والمشرف على الصيدلية الصيدلي المؤهل يوسف أبو ضبة، والمشرف على المختبر هوفاكونيان. أما أمين المستشفى فكان كاظم قسطنطين يساعده محمد سليمان النصف، ويشرف على سجلات المرضى علي عبدالله الزيد. وعمل طبيبان عموميان في المستوصف هما، د. سامي بشارة ود. عادل نسيبة. في هاتين السنتين تكونت شركات المقاولات الأجنبية الخمس التي بنت مستشفى العظام الحالي المسمى في حينها ملحق المستشفى الأميري، واتجهت النية الى أن يكون خاصا بالانكليز فقط، الا أن هذه النية لم تتحقق. كان لدى شركة نفط الكويت مستشفى في المقوع، يستقبل المرضى الأوروبيين حسب اتفاق بين د. بيري وادارته، على أن يحول المرضى الآسيويون والأفارقة الى المستشفيات الحكومية! في هـذه الفترة شهدت أهم مـا مر علي خلال عملي آنذاك حين أرسلت شركة نفط الكويت الينا شاحنة محملة بالمواد الغذائية المعلبة، وبعد البحث تبين أن الشركة أرسلتها أولا الى الشيخ عبدالله السالم، فقال: «لاأريدها.. ارسلوها الى المستشفى الأميري لنعـرف هـل هـي صالحة أم لا». كان د. بيري رئيس الأطباء يقـوم أسبوعيا كل يـوم ثلاثاء بالتفتيش عـلى المستشفى، بما في ذلك المطبخ والمخازن، فسأل عن المعلبات، وأصدر تعليمات بأن لايستخدم أي شيء منها بعد أن تبين أن هذه البضاعة تالفة كلها الى درجة أن العلب كانت منفوخة. وظلت هـذه الأغذيـة التالفـة التي تخص شركـة النفط عندنا في المخـازن طيلة مـا يقارب أربع سنوات، حتـى عام 1954، ثم تم رميها والتخلص منها، وانتهت القصة. في هذه الفترة أيضـا استقدموا محاسبا فلسطينيا مـع عبـد المحسن الزبن اسمـه عبد الله السعدي بوساطة الشيخ فهد السالم، وكان الشاعر الفلسطيني كمال ناصر يعمل سكرتيرا خاصا لديـه في عام 1953، قبل أن يترك ويذهب الى ممارسة نشاطه السياسي في لبنان حيث قتل بعد سنوات اثـنـاء عملية عسكرية اسرائيلية استهدفت معـه أيضا كمال عـدوان ومحمد يوسف النجار. الطب الوقائي وسارت الأمور على هذا المنوال؛ لأشخاص معينين مكانة متميزة في المستشفى، مثل د. نايف حسن الذي لم يكن يرد له طلب بناء على تعليمات منذ أيام ادارة نصف يوسف النصف، وكذلك د. أحمد سلامة المسؤول عن علاج مرضى السل في الجناح الرابع في المستشفى الأميري، وهو من فتح مستشفى الأمراض الصدرية مع مساعد له لبناني اسمه كرنيك أغوصيبيان. أما د. بيري، فلم يكن يحظى باستلطاف الشيخ فهد، فاتخذ قرارا في عام 1955 باستقدام طبيب صحة عامة من مصر اسمه سعيد عبده صاحب زاوية في الصحافة المصرية عنوانها «خدعوك فقالوا..»، وكلفه بانشاء قسم الطب الوقائي ورعاية الأمومة والطفولة. وبدأ بالفعل تأسيس الطب الوقائي، مع أنه كان لدينا طبيب طب وقائي من لبنان اسمه زاهي حداد، ومعه شخص آخر مختص بالأمراض الجلدية، ولدينا عوني نمر وعادل نسيبة. .. والاسنان بدأ د. سعيد عبده بالتوسع، ولم يكن يأتي بطبيب أو طبيبـة الا من مصر، مما أثار حفيظـة واستياء د. بيري الذي أحنقه أن يؤخـذ منه الطب الوقائي، وحدثت احتكاكات بين الطبيبين، المصري والانكليزي. وازداد ابتعاد الشيخ فهد السالم عن د. بيري حين استقـدم من العراق صديقـه د. يوسـف ميرزا، وأوصى بمنحـه كل الصلاحيات، وجعله يحل محل د. كاي المختص بالأسنان. وهكذا تشكلت ثلاث قوى، واشتد التنافس بـين د. بيري ود. سعيد حين بدأ هـذا الأخيـر يتوسـع ويقيم مستوصفات لتنظيم الأسـرة والـولادة، واستقدم قابلات من مصر يذهـبن الى البيوت. ومن خلال وظيفتي في المستشفى الأميري، وفي مستشفى العظام (الملحق) الذي تم تعييني أمينا عاما له أيضا في عام 1953 بعد افتتاحه مباشرة، شعرت بما كان يدور من تنافس واحتكاكات متزايدة. ومن منطلق عاطفي أو قومي كنت الى جانب د. سعيد عبده رغم اختلافي معه في الأسلوب. كانت مشاعري معه، فذهبت اليه والتقيت به، وقلت له: «هناك تنظيم ضدك وضد نشاطاتك في الطب الوقائي، وأود أن تأخذ حذرك» فضحك ضحكة قوية وقال: «أتريد أن تعلّمني كيف أتصرف مع هذه المجموعة، واصغر أبنائي أكبر منك؟!» وهنا اعتذرت وخرجت. لم تنجح محاولتي، واستمر د. عبده على نهجـه واصطفافه الى جانب الأطباء المصريين، فيما احتفظ د. بيري بميوله وتعاطفه مـع الأطباء الأجانب والفلسطينيين خشية أن يتأثر الشارع العام بالمد الثوري والـقـومي الذي كانت تطلقـه ثورة يوليو، وايضا لخشيتـه من تزايد نفوذ الشيخ فهد السالم. ودارت الأيـام، واختلف د.سعيد عبده مع الشيخ فهد السالم واستقال ورحل، وشغل منصبه د. كمال برعي. وفي طريقه الى مطار النزهة، لم يكن هناك أحد في وداعه سوى د. ايرك بيري. وفي عام 1962 حين استقـال د. بيري واتخذ طريقه الى المطـار كنت أنـا من ذهـب يودعـه، وقلت له: «اودعك بالنيابـة عن د. سعيد عبده.. مع السلامة!» |
السدرة(5)
بين الأسرّة البيضاء في هذا الجو الخمسيني تفتحت طرقٌ على الصعيد العام والخاص، أي على صعيد الدولة والمجتمع وعلى صعيد الأفراد، في كويت جديدة بدأت تلوح آفاقها، كما قلت، مع بدايـة تصدير النفط، أضف إلى ذلك ما بـدأ يحـدث على الصعيد العربي حـولنا فيلقي بظلاله، إن خيراً أو شراً، على امتداد الخريطة العربية. وبدا أن منطقتنا، وبلدنا معها، ترحل إلى عصـر آخر، ونجد كأفـراد وجماعات أن علينا أن نتحرك أيضاً ونغادر نوافذنا وأبوابنا التقليدية إلى ساحات جديدة. على صعيد الطب الوقائي والطب العلاجي، تم نقل القسمين إلى دائرة الصحة، ونقلوا د. بيري من المستشفى الأميري إلى دائرة الصحة، وتسلم رئيس الأطباء القسم العلاجي، ونقل د. برعي ليكون مسؤولا عن الطب الوقائي، وظل في هذا المنصب فترة لا بأس بها. وسط هذه التنقلات كنت أمارس عملي في المستشفيين، الأميري وملحقه الذي قمت بفرشه وتجهيزه بالكامل مع د. ماكريدي، ونقلت إليه عدداً من العيادات والأقسام. ولا أنسى تلك المطرة الشهيرة في عام 1954 حين حوصر في المستشفى ثمانية مرضى كانوا فيه بحاجة إلى الأكل، ولم تكن سيارة تستطيع الوصول إليه. فحملت الخبز والأكل على رأسي وخضت المياه التي وصلت إلى الركبتين بالقرب من الحجى ون (G1) ووصلت إلى المستشفى. كان د. ماكريدي موجودا، وسره عملي. لقد كان إنسانا اجتماعيا وطيباً. محاولة تكتيكية واستمر هطول المطر خمسة عشر يوما متصلة، مما اضطر الحكومة إلى توزيع بعض العائلات على بيوت ذوي الدخل المحدود قبل الانتهاء من بنائها. كانت أمطاراً فاقت أمطار السنة المعروفة باسم الهدامة، إذ بلغ عدد المتضررين 18 ألف نسمة وتهدم أكثر من 500 بيت. كما لا أنسى حدثا مهماً مر بي في ذاك العام نفسه هو قيامي بمحاولة تكتيكية لإفشال عقد مؤتمر طبي كان يعقد في الكويت دائما، احتجاجاً على تسميته بـ «مؤتمر الخليج الفارسي» بدلا من مؤتمر الخليج العربي. اعتاد المشاركة في هذا المؤتمر أطباء من دائرة الصحة وشركة نفط الكويت وأطباء من شركة النفط الإيرانية في عبادان، ومن شركة بابكو البحرينية. حين تقرر عقد هذا المؤتمر كان الشيخ فهد السالم خارج الكويت، وكان علي الداوود مدير عام دائرة الصحة في حينها، أما د. بيري فكان من أشد المتحمسين لهذا المؤتمر. وفي الليلة التي سبقت الإنعقاد اتصلت بعلي الداوود ونقلت له احتجاجي على التسمية، وقلت له إنها تناقض قرار أمير البلاد الشيخ عبدالله السالم بأن تطلق على المؤتمر تسمية «مؤتمر الخليج العربي». قال علي الداوود: «وما الحل؟» قلت: «تظـاهر بالمرض حتى لا تضطر إلى افتتـاح المـؤتمر، وأنـا اذهب إلى د.بيري وأقول له إنك مريـض». واتصلت في الليلة نفسها بجريدة «الفجر» وكتبت خبرا عن المؤتمر تضمن احتجاجا على تسميته لأنها تناقض القرار الأميري. وفي الساعة السادسة صباح اليوم التالي كنت في المستشفى الأميري وأخبرت د. بيري بمرض علي الداوود، وأضفت: «اعتقـد أن سبب تغيبـه الحقيقي عن المؤتمـر هو اسمه الذي يعتبر ضد قرار الشيخ عبـد الله السـالم». فاستشاط د. بيري غضباً. إلا أن غضبه لم ينفعه، فقد انعقد المؤتمر إلا أنه فشل، وكان آخر مؤتمر يعقد تحت تسمية «مؤتمر الخليج الفارسي». صراع الأطباء في هذه الفترة أصبح لدينا مستشفى المصح الصدري، المتخصص بالقلب الآن بجوار ثانوية الشويخ، مقر جامعة الكويت حالياً. وعمل في المصح الصدري د.أحمد سلامة ود. شعبان، وكرنيك اغصوبيان مسؤولا عن قسم السل النسائي. واتضحت ملامح صراع بين فريقين من الأطباء، بين الفلسطينيين والمصريين، ليضاف هذا إلى الصراع مع جبهة د.بيري. اذكر أن مجرد مجيء طبيب عربي جديد من أي مكان كان يثير استياء د.بيري، وبخاصة إذا لم يكن عن طريقه، كما حدث حين استقدم الشيخ فهد السالم د.أحمد مطاوع أول طبيب عربي يحمل شهادة في الجراحة مع شهادة زمالة. في عـام 1959 حـل الشيـخ صباح السالم الصباح محـل الشيخ فهد بعد تنحيه عن منصبـه، واستعان الشيخ صباح بعبد الرحمن العتيقي الذي عمل معـه في دائرة الشرطة، فاستبدل به علي الداوود بعـد استقالته. وكان عبد المحسن المتروك مساعداً للعتيقي الذي ظل في منصبه حتى عام 1960. وسيطر عبد الرحمن العتيقي على الوضع تقريباً، وصارت علاقته بدكتور بيري ممتازة وطيبة. كان دبلوماسياً والسلطة كلها للانجليز. أما الشيخ صباح فكان عطوفا يتميز بالطيبة. واذكر موقفا حدث لي معه ذات يوم حين زارني في مكتبي. منشورات في مكتبي كانوا يقومـون ببناء أقسام جديدة مسقوفـة في المستشفى الأميـري، فنقلنا مكاتبنـا الى بيت البسام المجاور للمستشفى في الزاويـة الشرقيـة الشمالية. في هذا المكان دخل الشيخ صباح مكتبي مصادفة وعلى غير توقع، فنهضت وحييته ودعوته للجلوس الى مكتبي. جلس وبدأ يبادلني الحديث الا أنه خلال ذلك فتح أحد ادراج المكتب، فوجد فيه منشورات توعية وتأييد للتحركات الشعبية في البحرين. فسألني: «ما هذا؟» قلت: «لا أعرف.. هذه منشورات أحضرها أحدهم» فابتسم الشيخ وهو يتصفح المنشورات، ثم قال ببساطة: «لا.. أنا اعرف الموضوع.. لاحاجة للف والدوران.. أنا أتفهم موضوع هذه المنشورات» كنت في الحقيقة أقوم بتوزيع هذه المنشورات. خرج الشيـخ، ورافقه الى مدير المستشفـى د. سامي بشارة. وفي طريقنـا صادفنـا د. عبد الرزاق العدواني، فمازحـه الشيخ وهو يشير الي: «ضـع همـك في علمـك وتخصصك، ايـاك وسـماع كلام برجس البرجس، والا قادك الى داهية». لم يكن يعني ما يقـول حرفياً، ولكنه كان قـد شغل منصب رئيس دائـرة الشرطـة، ولا بد أنـه كان لا يزال أسير حـذره في منصبـه ذاك حتى بعد أن أصبح رئيساً لدائـرة يتحرك فيها أطباء وممرضون لاشرطة ولا مخبرون. أناس لهم مشاكل من نوع مختلف، أو هم سبب مشاكل من هذا النـوع. لقد طغت النزاعـات والمنافسات بالفعـل على المسائل الطبيـة بعامـة، سواء كان طباً وقائياً أو علاجياً، فسار التقدم فيها ببطء وعبر المنازعات والتداخل بين الوقائي والعلاجي. مثلا استقدموا في قسم الولادة د. علي التنير ود. عبـد المنعم أبـو ذكرى ود. أحمد نعيم ود. حسان حتحـوت ود. عبد اللطيـف علكـة العـراقي المختص بأمراض النساء والولادة، ثم استقدموا آخر اسمه د. ليـج مسؤولا عن المختبر، ولكن لم تكن هناك امكانات للتشخيص، وترسل الحالات الصعبة الى لندن للفحص والتشخيص والحصول على نتائج على حساب الحكومة وبوساطتها. العـيـنـات كانت الولادة تتم في مستشفى الأميري آنذاك، وكذلك كان فيه قسم الأطفال، ولم تنتقل الى مستشفى الصباح بعد افتتاحه الا في 20 يونيو 1962. اختفى الضباب في لندن في عام 1955 اقترح عليّ د. بيري الذهاب الى لندن للاطلاع على تجربة المستشفيات هناك، في دورة مركزة لمدة ثلاثة شهور رتبها المعهد البريطاني. وبالفعل ذهبت في شهر يونيو. كان الوضع في لندن آنذاك مختلفا عما هو عليه الآن. للمستشفيات نظام خاص مختلف، بمجلس ادارة وسكرتير. ويتكون مجلس الادارة من رئيس الشؤون المالية ورئيس الصيانة ورئيس التغذية ورئيسة الممرضات، وعضوين او ثلاثة من الخارج. هذا هو النظام الانكليزي. ويجري تحريكه عن طريق مجلس الادارة هذا الذي يقرر الميزانية والترقيات وصرف المواد الغذائية والأدوية. في ذلك الوقت كان للمستشفيات ميزانيات مستقلة. يضاف الى هذا، تنتظم المستشفيات على شكل مجموعات، تضم كل مجموعة ثلاثة أو أربعة مستشفيات أحدها رئيسي والبقية تتبعه. مثلا هناك مجموعة «ذا ميدل سكس» ومجموعة «ذا مين هوسبيتال» ومجموعة « سانت هيليا». هذه مستشفيات رئيسية تتبعها مستشفيات أخرى، مستشفى للأطفال على سبيل المثال أو غيره. ولكن لا يوجد فيها أساتذة، فهؤلاء يكونون في «مستشفى التعليم». المطاعم هناك منظمة ونظيفة، وعندما تنتهي من تناول الطعام ليس من المقبول أن تقدم «بقشيشا»، فماذا تفعل؟ تضع ستة بنسات تحت الطبق. لايجوز أن تمد يدك وتعطي العامل مباشرة، فهذا الأمر لايعتبر لطيفا ابدا. هناك شيء آخر؛ اذا أحضروا أدوات المائدة فعليك أن تقول شكرا أو أي شيء من هذا القبيل، والا نظروا اليك نظرتهم الى انسان غير متحضر. الوضع مختلف الآن، فاذا لم تناول العامل بقشيشا فسينظر اليك نظرته الى شخص غير حضاري! بل أصبحوا يضعون ثمن الخدمة مقدما على الفاتورة. ويتساءل من يزور لندن الآن، أين تلك الكثرة الكاثرة من الناس، 90%، التي كنت تشاهدها تقرأ الصحف في القطارات والحافلات؟. مررت برحلتي الى لندن في بيروت، ونمت فيها ليلة في فندق كارلتون، وفي اليوم التالي سافرت الى نيقوسيا ثم روما، ومن هناك الى لندن واستغرقت الرحلة 12 ساعة. وحين وصلت كان مطار لندن يشهد افتتاح ممر جديد. سيارة اسعاف كان هناك وكيل للكويت هو بوليجليز، وسبقتني اليه برقية أرسلها د. بيري تطلب منه استقبالي، فجـاء الى المطـار بسيارة اسعاف ظناً منـه أنني مريض قـادم من الكويت. كنت أول كويتي يرسل الى لندن للتدرب على نظـام المستشفيات، فأخـذني الى وكالـة الكويت، اذ لم تكن لدينا سفارة في ذلك الوقت، ومن هناك أرسلني بالسيارة مع سائق الى سكن داخلي يقـع في كولنجهام جاردن رقم 28. وفي هذا السكن لم أجد غرفـة فأنزلوني في غرفة المكانس حتى اليـوم الثاني. من وجد لي مسكنا بتكليف من بوليجليز صديقي محمد خلف كان مسؤولا عن مكتب الشؤون العسكرية، وهـو من أخـذني الى المعهد البريطاني لأبدأ التدرب، وحـدد لي المعهد مستشفى تابعـاً لمجموعة هوكني في منطقـة شعبيـة في شرق لندن. وفي طريقي اليه كنـت أستقل القطار يوميـاً من محطة جنوب كنستون الى محطـة ليفربول، ثم أستقـل حافلة الى المستشفى. المكتب الصحي المكتب الصحي في لندن كان مسؤولا عنه د. بيلي بالاضافة الى صفته كمسؤول ثقافي، ثم أصبح المسؤول فؤاد سمعان، وبعد ذلك أرسلت الكويت كويتيا هو رشدان المرشد ليكون مسؤولا عن المكتب الصحي، وتسلمه بعده حسن درويش، ثم العدساني. أما العمل وقتها فمرتجل يعتمد على اجتهاد الشخص نفسه. وتنقل المكتب بين ثلاث مناطق لندنية، الى ان استقر في مكان السفارة في شارع ديفونشاير. هنـاك سكنت لمـدة يومين أو ثلاثـة، ثم بحثت عن مسكن آخر في ساوث كينغستون في آنسلو جـاردن، ووجدت غرفة ايجارها 8 جنيهات أسبوعياً. غرفة عادية. وكانت دورة الميـاه مشتركة بـين سكان الطابـق كله. لغتي الانكليزية متوسطة بحيث أستطيع بها تـدبير أموري، وشعرت في لندن أنني رأيت عالماً آخر. حتى ملابسي كانت صيفية والجو في لندن شتائي والأمطـار غزيرة. الآن أصبح المطـر أقل، بل واختفى الضباب واختفت معه صفة مدينـة الضباب. وطيلـة ثلاثـة أشهر قضيتها هناك، كانت الحياة بالنسبة لي غريبة شعرت معها بالحنين الى الكويـت. في المستشفى لم يكن هناك أحد يعلمني اثناء عملي، ولم أعط أي انتباه، وتركت في الأقسام لأتعلم وحدي. لم يكن لدي خلال تلك الأيام ما يكفي من المال، فكنت آكل وجبة واحدة في اليوم وأشرب الكثير من الحليب. ولكن حظي كان جيداً اذ التقيت بعدد من الأصدقاء، ففي لندن آنذاك كان طلبة كويتيون يدرسون الطب مثل عبد الرزاق العدواني وعبد الرزاق العبد الرزاق، ويدرسون الأدب الانكليزي مثل سليمان المطوع. والتقيت هناك أيضاً بمعجب الدوسري ويوسف الشايجي وقاسم الياقوت السفير في باكستان وروما. كان لدينا طلبة في مانشستر وليفربول ومناطق أخرى، وكلهم مبتعثون. بعد عودتي الى الكويت، عدت الى العمل في المستشفى الأميري وملحقه في الصليبخات، وحاولت ادخال بعض الاجراءات الادارية البسيطة على مستشفياتنا، مثل تنظيم المخازن والاعتمـاد على الصيانـة والشؤون الماليـة، أما بقيـة اقتراحاتي، مثل ايجاد مجلس ادارة يتكون من رئيس الشؤون المالية ورئيس قسم الصيانة ورئيس قسم الامـدادات الغذائية ومدير المستشفى كسكرتير، فلم يوافقوا عليها. وحتى د. بيري الذي اقترح علي التدرب على تنظيم المستشفيات عارض، وكذلك أعضاء مجلس الادارة لأنهم لم يستوعبوا الأمر واعتبروا هذا النظام تدخلا في شؤون دائرة الصحة. كل شيء كان بحاجـة الى تنظيـم، فحتى شهادات الميـلاد لم تكن موجـودة، التسجيل غير منظم؛ تعطى شهادة من المستشفى أن فلانـاً أو فلانـة ولد أو بنت ويضعون الاسـم، ويعطون شهادة. لم يفكر أحد بقضايا الجنسيات وتبعات الميلاد. وكان المرضى يدخلـون ويطلبون العلاج. المهم أن يعرفوا أن فلانة كويتية فقـط، والكل مسموح له أن يأخذ دوره، سـواء كـان كويتيـاً أو غير كويتـي. |
السدرة بين الأسرّة البيضاء (6)
في هذا الجو الخمسيني تفتحت طرقٌ على الصعيد العام والخاص، أي على صعيد الدولة والمجتمع وعلى صعيد الأفراد، في كويت جديدة بدأت تلوح آفاقها، كما قلت، مع بدايـة تصدير النفط، أضف إلى ذلك ما بـدأ يحـدث على الصعيد العربي حـولنا فيلقي بظلاله، إن خيراً أو شراً، على امتداد الخريطة العربية. وبدا أن منطقتنا، وبلدنا معها، ترحل إلى عصـر آخر، ونجد كأفـراد وجماعات أن علينا أن نتحرك أيضاً ونغادر نوافذنا وأبوابنا التقليدية إلى ساحات جديدة. في عام 1957 قررت المملكة العربية السعودية وضـع رسوم على قوافل الحجاج، إلا انها استثنت الكويت من دفع الرسوم قبل موسم الحج بمدة قصيرة، فبدأت الحملات بالاستعداد لأداء هذه الفريضة الدينية، وأمر الشيخ فهد السالم بإرسال بعثة طبية ترافق الحملات وتضم أطباء وممرضات ومضمدين وإداريين، وكلف عبدالله العسعوسي بالمهمة، إلا أن العسعوسي رحمه الله اعتذر: «انا رجل مسن، ولا أستطيع القيـام بهـذه المهمة، فهلا كلفت أحـداً بمساعدتي من دائـرة الصحـة؟» فسأله الشيخ: «قل من تريد؟» قال العسعوسي: «أريد برجس البرجس». واستدعاني الشيخ، ودار بيننا هذا الحوار: «أريدك أن تذهب مع العسعوسي إلى الحج» «ليست لدي نية بالحج، ثم.. أنا وحيد أهلي» «هل ترفض أداء فريضة الحج؟.. يجب أن تذهب» لم استطع الرفض بالطبع، فقلت: «إن شاء الله» بعـدها اتصـل بي عبد الله العسعوسي فذهبت إليه، واتفقنا، وسارت إجراءات إعداد الحملـة في مسارهـا الطبيعي، وتم تعيين أطباء وممرضين ومضمدين، وما يلزم مـن أدوية وما إلى ذلك. كانت هذه ثاني حملة حج تشرف عليها دائرة الصحة، وعملت فيها مساعداً للعسعوسي يعاونني أخ عزيز يدعى عبد الله السعيد رحمه الله. استغرقـت رحلتنا إلى مكـة سبعـة أيام، على الطريق نفسه الذي سارت عليه أول حملة كويتيـة. إنفلونزا الصيف في مكة وصلنا متأخرين، واستقبلونا بترحاب، فاعتمرنا، ثم ذهبنا إلى منى. وهناك أصيب أفراد حملتنا بالانفلونزا مع أننا كنا في شهر يوليو. لم يكن لدينا علاج سوى الثلج لخفض درجة حرارة المصابين، فمن أين لنا بالثلج؟ ذهبـت أنـا وعبد الله السعيد لشراء قوالـب ثلج كبيرة، وحملناها في سيارة نقل، وتحت رأس كل مصاب وضعنا قطعة من قالـب الثلج كوسادة. واستطعنا بهذه الطريقة تخفيـض درجة حرارته. الانفلونزا الصيفية لم تكن هي الأعجوبة الوحيدة التي صادفتنا، فخلال السعي بين الصفا والمروة، وقد ذهبنا مع الذاهبين للسعي، صادفنا أعجوبة أخرى لم تكن لتخطر على بال أي واحد منا؛ شاهدنا سيارات تسعى متهادية بين الصفا والمروة، وسط حشد الحجاج الساعين من جانبهم جيئة وذهابا كما تقضي بذلك الشعائر. وحول السيارات حرس يحيطون بها ويتقدمونها يحملون العصي ويبعدون الناس عن السيارات بالضرب والصراخ. وعرفنا أن هذه السيارات خاصة بالعائلة الحاكمة تحمل من تحمل لتريحه ربما من عناء السعي مثلما تسعى بقية الناس وتتزاحم تحت الشمس اللاهبة. أمام هـذا المشهـد، لم أجـد بداً من ترك السـعـي في ظـل هذا الوضع غير الطبيعي، وقلت للاطباء: «يكفي أنكم اعتمرتم، فلنذهب في حال سبيلنا، إذ لا يجوز أن نتعرض للضرب بالعصي».. وبيني وبين نفسي أخذت المسؤولية على عاتقي أمام ربي. متاعب العودة بعدها تحركت الحملة إلى المدينة، ثم بدأت الاستعدادات للعودة إلى الكويت. العودة التي استغرقت ستة أيام، ولكن كان مقدراً لنا أن يكون ما لاقيناه من متاعب بسيطة حتى الآن لا شيء مقارنة بما سيصادفنا في طريق العودة والظلمة الحالكة ليلا من حولنا، وليس من متحرك إلا أضواء السيارات. ضاعت بعض سياراتنا على طريق من الصعب تبين معالمه، وضعنا نحن أيضاً ونحن نحاول البحث عن السيارات الضائعة بلا جدوى. ولأننا في صحراء، فكرت منذ اللحظة الأولى بذلك العنصر الثمين الذي يساوي فقدانه الموت، ويساوي العثور عليه الحياة، أعني الماء. علينا أن نجمع ق.رَب الماء ونغلق عليها في السيارات حتى لا نفقدها. كنا نضع الماء في «ق.رَب» من قماش تحمل على ظهور السيارات فيصبح ماؤها باردا حتى في المناطق الحارة. ولكن علينا الآن أن نحافظ عليها بأي ثمن. في وسط كل هذا الدوران من مكان إلى آخر، ابتسم لنا الحظ فوجدنا بدوياً من أهل الصحراء يتطلع إلينا بفضول من فوق كثيب رمل، فسألناه إن كان رأى سيارات حملتنا الضائعة، فقال ببساطة، نعم.. هي وراء تلك التلة، وأشار باصبعه نحو مرتفع قريب. وبالفعل وجدنا بقية حملتنا الضائعة هناك وراء المرتفع، متوقفة بين الرمال لا يعرف ركابها هل يمضون يمينا أم شمالا، جنوبا أم شرقاً. من لا يألف الصحراء لا يستطيع أن يحدد اتجاه سيره، فما بالك إذا كان الوقت ليلا، ولست من الذين يجيدون الاهتداء بالنجوم أو معالم الكثبان والتلال التي يعرفها البدوي كما يعرف راحة يده. حـين وصلنـا إلى أصحابنا، أكرمت البـدوي وأعطيتـه مائة ريـال، وظـل الرجل معنـا حتى الصباح. ومع بـزوغ أول ضوء واصلنا الرحيل بالاتجاه الذي اشار اليه البدوي قبـل أن يغـادرنا إلى أهله. طرق وعرة كانت الطرق كلها تزداد وعورة، ولا شيء غير الرمال تحيط بك أينما التفت، وفي بعض الأماكن صادفنا أشجاراً تدعى «الصريم». وبعدها وصلنا منطقة تدعى «رماح» شديدة الحرارة كأنها قطعة من جهنم في فصل الصيف، واضطررنا بسبب حاجتنا إلى الماء إلى سحبه من بئر عميقة جداً. كان أهل المنطقة وأجدادنا الذاهبون إلى الحج في رحلة شاقة تستغرق ثلاثة أشهر على ظهور الجمال، يستخرجون الماء بدلو مربوط بحبل يجره جمل يسير مسافـة طويلة، وعندما يأخذون الماء يقومون بتصفيته من الشوائب باستخدام الغترة. وفعلنا الأمر نفسه، مع فرق أننا استخدمنا سياراتنا ذات الدفع الرباعي لسحب الدلو من بئر لا تستطيع سماع طرطشـة المـاء فيـه بسبب غوره العميق. ونحن نسير في «رماح» هذه، انحرفت السيارة التي تنقل الماء وبتنا تائهين لا نعرف الوجهة الصحيحة، فهرولت وراءها، وسقط إثنان من العمال تحت عجلاتها، فأصيب أحدهما في ظهره والآخر في بطنه. وخلق هذا الحادث مشكلة جديدة لم تكن في الحسبان. اقترحت على عبد الله العسعوسي أن يواصل طريقه مـع الحملة إلى الكويت، على أن أبقى أنـا مع بقية الأطبـاء للعنايـة بالجريحين، ومن هناك يطلبون من المملكة العربيـة السعوديـة إرسال طـائرة لإنقاذ المصاب بدلا من أن تتوقف الحمـلة وينفد الطعـام. في الخيمة وتهيأنا للإقامة، نصبنا خيمة ورششنا الأرض بالماء، وشغّلنا مروحة تعمل بوساطة مولد كهرباء، وكل ذلك لنخفف من حرارة المريض ونجري له عملية. وصار علي تدبير الطعام والماء لتمضية بقية وقت الانتظار، فكتبت رسالة الى أمير الرياض نطلب فيها دماً للمصاب، بالاضافة الى الماء والطعام. وأرسلتها اليه مع سيارة نقل الماء، ولم تلبث أن عادت السيارة بالماء والطعام من دون الدم للمصاب لأن فصائل الدم لم تكن متوافرة في تلك الأيام. وهكذا جلسنا في انتظار وصول الحملة الى الكويت لتنقل أخبارنا كما اتفقنا الى الشيخ فهد السالم، وليتصل من جانبه بأمير الرياض ليرسل الينا طائرة. ولم يطل انتظارنا، وصلت طائرة من نوع داكوتا ذات محركين، وهبط منها أحد رجالات البدو الذي قادنا الى الحملة في «رماح» وأرشدنا الى الطريق. فطلبت منهم، وهم ينقلون العامل المصاب الى الطائرة، أن يأخذوا معهم أكبر عدد ممكن من الموجودين معنا لعدم توافر طعام وماء يكفي الجميع بقية رحلتنا الى الكويت. واقلعت الطائرة وعلى متنها، بالاضافة الى المصاب، الممرضات وأحد الأطباء، وبقي معي اطباء الحملة وعبدالله السعيد. تم كل شيء عند السادسة مساء، وبقي علينا أن ننطلق من جانبنا على طريقنا الصحراوي. قلت لمن تبقى من أفراد الحملة: «لنمض» فاعترضوا: «كيف؟.. وليس معنا دليل!».. كان دليلنا شخص يدعى نصار ذهب بالطائرة مع عبدالله العسعوسي. حينئذ اقترحـت عليهم أن نذهب الى أمير «رمـاح»، وانتحيت جانباً بأحد السائقين واتفقت معه على أن يجيب بكلمـة «نعم» حين أسأله أمام الأطباء «هل تعرف الطريق؟». ومضينا الى أمير «رماح»، وسألناه عن كيفية عبور طريق صحراء الدهناء الرملية وتلالها الثلاثـة، فوصف لنا الطريق قائـلا: «سيروا والطريق الى يمينكم الى أول تل، وهناك تجمعوا، ثم الى الثاني، وواصلوا السير حتى التل الثالث فتكونون في منطقة «أم عقلة». التفت الى الأطباء وقلت: «لنذهب» فاعترضوا للمرة الثانية قائلين: «لا.. لا نريد الذهاب.. نخشى الضياع والموت» كان معنـا من مصر الأطباء د. مصطفى عبدالتواب، ود. أحمد الجيار، والدكتور أحمد لطفي، ومـن لبنان د. توفيق الترك، ومن فلسطين د. نور الغصين طبيب الأسنان. فناديت السائق الذي اتفقت معه وسألته وهم يسمعون: «هل تعرف الطريق؟»، قال فوراً: «نعم أعرفـه، وسافرت عليـه عـدة مـرات.. إنـه طريق سهل». في «أم عقلة» وانطلقنا وأنا في المقدمة. وصلنا إلى أول تل، وتوقفت لأتأكد من أن كل السيارات معنا، ثم واصلنا المسير إلى التل الثاني، وهناك تجمعنا مرة أخرى، وما أن وصلنا إلى التل الثالث حتى كانت «أم عقلة» أمامنا. وتفقدت السيارات فـإذا بها تنقص واحـدة. ونظـرت حولي فـإذا بسائق السيارة المفقـودة يتجه بها مصادفة إلى الدهناء، فأسرعت ولحقت به بسيارة صالون مـع سائقها، ونبهناه قبـل أن يصل إلى منطقـة الرمـال الخطـرة، وأرجعناه إلى الجادة الصحيحـة، واتجهنـا إلى «أم عقلـة». هنـا في هـذه المنطقة أصيبت إحـدى سياراتنـا وشاحنة بعطب، ومـع ذلك واصلنا طريقنا فوصلنا إلى«أم عقلة»، ووجدنا خزان ماء لم يكن ماء عذباً بل أشبه بالماء الصليبي الذي لا يصلح إلا لري المزروعات، ومع ذلك كـان الخزان نعمة من نعم الله علينا، فاغتسلنا قبل أن نمضي لرؤيـة أمير المنطقـة. وهناك وجدناه نائماً في بيـت من الطين، فأيقظناه وطلبنا منـه أن يسمح لنا بترك السيارتين المعطوبتين ريثما نرسـل من يـأتي بهما، وافـق وقـال: «أوقفوهما هنا». وهـذا ما فعلنـاه. ثم واصلنا الرحيل إلى منطقة «جربة»، ولم يكن قد تبقى معنا من الطعام إلا أقله، وأسعفنا صاحب مقهى هناك مبني من سعف النخيل. سألناه: ـ ماذا لديـك؟ ـ فـول وشاي وماء. ـ هات كل ما عندك من الفول والخبز والماء. أخذنا كل ما عنده بثمنه بالطبع، وسلمنا على أمير «جرية»، وسرنا في طريقنا إلى منطقة حدودية قريبة من الكويت تدعى «الصقعبي». هنا ثار خلاف بيننا وبين الموظف السعودي، وغضب د. مصطفى، رحمه الله، لأننا كنا بغنى عن أي مشكلة بعد المشاق التي تكبدناها، فكيف ونحن على مشارف الوصول إلى بلدنا. قلت لمن معي: انتظروني هنا. وعدت إلى «جربة»، ولم نكن قد ابتعدنا عنها كثيراً، واخبرت أميرها بقصة الموظف الذي اختلق مشكلة من لاشيء، فطلب اثنين من رجاله، ولحقا بي، وحين وصلنا قبضا على الموظف السعودي، وقالا لنا مودعين: ادخلوا. دخلنا عابرين الحدود، ووصلنا بعد صلاة العشاء بقليل إلى «الصليبية». كان أول ما فعلناه أننا ذهبنا لرؤية العامل المصاب الذي جاءت به الطائرة إلى المستشفى الأميري، وفي اليوم التالي علمنا أنه انتقل إلى رحمة الله. |
السدرة بين الأسرة البيضاء (7)
مـع عام 1962، أي عـام استقلال الكويت، بدأ يتضح التغيير الملموس عـلى عدة أصعدة، ذلك التغير الذي قلت إنه كان طابع الحياة في الخمسينات، ليس في دائرة الصحة فقـط وانما في الدوائر كافة. كان الشارع الكويتي مشحوناً بقضايا وطنية وقومية وبرغبة عارمة في تحقيق المشاركة الشعبيـة في ادارة الدوائر. صحيح أن هذا التغير الملموس بدأ مع تشكيل المجلس التأسيسي الذي أعـد مشروع الدستور، الا أنـه سبقه وضع قوانين للوظائف العامة، وكان أول تشريع ينظم الخـدمة المدنية قد وضع في عـام 1955، وعرف بنظام الموظفين والتقاعد، ثم تغير مسماه في عام 1960 وصار «ديوان الموظفين»، وهي التسمية نفسها التي تغـيـرت في عام 1996 وصار اسمه «ديوان الخدمـة المدنية». ولهذا كان في هذه التشريعات التي وضعت قبل صدور الدستـور اجحاف بحق الكويتيين، لأن من وضع هـذه القوانـين السابقـة على الدستور اصحاب خبرات ومؤهـلات جاؤا من الخارج، من القـاهرة ولبـنان، بين عامي 1954 و1955، فوضعوا قوانـين تنصفهم وتم تطبيقها. وزارة الصحة كنت ما زلت أمينا لمستشفى الصباح حين تغيرت تسمية دائرة الصحة الى وزارة الصحة بعد الاستقلال وتسلمها عبد العزيز الصقر، فاستدعاني وطلب مني تسلم منصب مدير مكتبه. فتحفظت قليلا. لم أهضم فكرة الانتقال من وظيفة أمين عام الى مدير لمكتب وزير، وشعرت بثقل هكذا مسؤولية. الا انني قبلت المنصب بعد اصرار من الأخ الصديق يوسف ابراهيم الغانم الذي قال لي مشدداً على كل كلمة: «يحتاجـك عبد العزيز الصقر، هـو بحـاجـة الى من يكون الى جانبـه الآن، ويجب عليـك قبـول هـذا المنصب». بداية جديدة هذه كانت البداية الجديدة لمسيرة تميزت بالتأكيد عن مسيرة الخمسينات في عدة جوانب، أكثرها أهمية أننا بدأنا برغبة الانجاز، أن ننجز شيئا لهذا القطاع الذي أعاقت تطويره صراعات الخمسينات ومنافسات الكتل المتعددة الجنسيات، والتعصب لمناهـج هذا النظام الطبـي أو ذاك وبالطبع تذكرت في منصبي الجديد كل الأفكار التي تعرضت للإجهاض في مجـال إعـادة تنظيـم إدارة المستشفيـات. الفكرة الأولى التي بدأنا تحقيقها هي إنشاء سجل عام للمستشفيات والمستوصفات، حيث يحفظ لكل مريض ملف في هذا السجل. ولم يكن الأمر سهلا، أن تبدأ من ما يشبه الصفر، واستغرق منا إنجاز هذا السجل جهداً جباراً ووقتاً طويلا. نبدأ عملنا في الثامنة صباحاً ونستمر حتى العاشرة ليلا، ونستريح لمدة ساعة فقط. وخلال ذلك يظل عبد العزيز الصقر حاضراً معنا دائماً، يجيء إلى العمل مستخدما سيارته الخاصة؛ فهو لم يطلب من الوزارة سيارة له. حادثة مشهودة استمر عملي مديراً لمكتب الوزير عاما كاملا، أنجزت خلاله سجلات المرضى العامة، وادخلنا تطويرات متعددة على إدارة مستشفيات، الأميري والصباح والصليبخات، إلى أن غادر د. إريك بيري رئيس الأطباء الذي كان يسيطر على كل شيء في شؤون المستشفيات بعد حادثة مشهودة تستحق أن تروى. طلب د. بيري ذات يوم لقاء الوزير، وجاء إلى اللقاء حسب الموعد بلباس رياضي كأنه ذاهب إلى ملعب كرة، فأوقفته ولم أسمح له بالدخول للقاء الوزير بهذه الملابس، رغم أنه كان رئيسي سابقاً في عصر ما قبل الاستقلال. قلت له: «لو كنـت في بريطانيـا، هل ستذهب للقاء وزيـرك بهـذه الملابـس؟ يجب احـترام مقـام الوزيـر». غضب د. بيري، أو صدم بالأحرى، وهو الـذي اعـتاد أن يعامل حتى زمـلاءه الأطباء بخشونة وعنجهية المستعمر القـديم، حاكم الامبراطوريـة التي لا تغيب عنها الشمس، وسارع إلى تقـديم استقالته. ربما إحساساً منه أنها لن تقبـل، وسيعود إلى منصبه مرتـدياً ملابس الملاعب الرياضية في حضرة أي كان، وربما إحساساً منه أن الزمن تغيـر، وأن دوام الحال من المحال، مـع أن هذا الأخير احتمال ضعيف في ضوء تجربتي مع أمثال هـؤلاء الذين كانوا يضعون نصب أعينهم خدمة ملكتهم لا خدمة الشعوب التي حـلوا بين ظهرانيها بقوة مدافع بوارجهم الحربية. أطلعت الوزير الصقر على الاستقالة، فسألني: «ما رأيك؟» قلت: «نقبلها فوراً» لم تكن لـدي ضغينـة تجاه الطبيب البريطاني، ولكن كان لا بد للكويت أن تتجدد بعـد أن تـولى أمورها أبناؤها بالكامل، وآن لهـم الآن أن يشمروا عن ساعد الجـد. كان د. بيري على علاقـة جيدة بالأمير عبدالله السالم قديمة، ويعـرف الوزير هذا الأمر، الا أنه بعد تفكير وتأمل، قال للأمير إنه سيوافق على الاستقالة. واعتبرت قبول استقالة د. بيري احد انجازات عبد العزيز الصقر. لم يكن اتخاذ مثل هذا القرار الذي خلص وزارة الصحة من تركة ثقيلة الا حلقة في سلسلة من ممارسات الوزير الصقر جديرة بالذكر، وبخاصة أنها تندر هذه الأيام في وزارات الدولة. واذكر له موقفا آخر يثير الاعجاب. كنا في المكتب ذات ظهيرة، فاتصل شخص من احد المستوصفات يشكو شخصا ذا نفوذ يهم بالاعتداء على أحد موظفي المستوصف. فغضب الوزير، واتصل فورا بالشيخ سعد رحمه الله وأخبره بالموضوع، وطلب اتخاذ اجراء سريع، وارسال سيارة شرطة للقبض على هذا المتنفذ، وسمعته يقول خلال الاتصال: «اذا لم تفعلوا هذا فأقترح أن ترسلوا أحدا لاستلام وزارة الصحة» فقاموا بالاجراءات اللازمة، وتم التحقيق مع هذا الشخص. كان بو حمد دقيقا، وبحجم منصبه تماما. مبادئ وتنظيم يمكن وصف عملنا في أول وزارة بعد الاستقلال بصفتين؛ ارساء مبادئ وتنظيم وتطوير الخدمات الصحية وتأسيس ما يمكن أن أسميه قواعد لخلق كوادر كويتية قادرة على تولي المسؤولية. على سبيل المثال، وفي ضوء مسألة العلاج في الخارج التي أصبحت في السنوات الأخيرة مجال صراعات وتدخلات وواسطات، نظمنا هذه الخدمة على أساس مبدئي وعلمي. فعندما يوصي طبيب بارسال مريض للعلاج في الخارج، تتشكل لجنة طبيـة وتقرر ما اذا كان بحاجة الى علاج في الخارج أم لا. فاذا أقر الطلب، يعتمده وكيل وزارة الصحة مباشرة. ومن أجل أن تكون هذه الخدمـة فعالة افتتحنا مكاتب صحية في الخارج. والمهم أن أي وساطة لم تكن تقبل على الاطلاق في مكتب عبد العزيز الصقر. مقـابل بذل كل جهد ممكن لخدمة ذوي الحاجات المستعصية والجادة، وهو جهد كان الوزير يتابعه شخصيا في أحيان كثيرة حين يحتاج الأمر الى اجراء استثنائي. حدث مثل هذا حين جاءت امرأة تشكو من مرض كلوي، وكانت حالتها حسب التشخيص خطرة جدا ولا علاج لها في الكويت، ولابد من ارسالها الى لندن بسرعة. فأجرينا اتصالات سريعة للحصول على طائرة من الخطوط الجوية البريطانية، وتم علاج المرأة في لندن، ومازالت حية حتى الآن، ومازلت ألتقي بزوجها أحيانا وبيننا سلام، ولا ينسى موقف عبد العزيز الصقر وموقفي من علاج زوجه. مع الأطباء في ما يخصني كنت الموظف الكويتي الوحيد المرتبط بالأطباء ارتباطاً قويا، وعلاقاتي بهم وثيقة جداً بسبب أنهم كانوا مثقفين ومتعلمين، ومن مصلحتي أن أسمع منهم وأتعلم منهم. وفعلا استفدت من أطباء من أمثال د. مصطفى عبد التواب ود. أحمد لطفي ود. أحمد مطاوع ود. علي عطاونة ود. يوسف العمر. وكنت أقف مع الأطباء في مواجهة متاعبهم حتى العائلية، مثلما حدث حين وقفت أنا وابنتي مها مع د. عبد التواب حين مرّ بمتاعب من هذا النوع. هذا على صعيد ارساء المبادئ، أما على صعيد التأسيس، فقد شهد عام وجودي مديرا لمكتب الوزير منجزات مهمة، على رأسها تأسيس معهد التمريض وبنك الدم وقسم النظائر المشعة في مستشفى الصباح. معهد التمريض كان الوزير الصقر يريد خلق كوادر كويتية، فقرر انشاء معهد للتمريض. آنذاك اشتهر معهدان في هذا المجال، الأول المعهد العالي للتمريض في هايدلبرغ الألمانية، والثاني المعهد العالي للتمريض في الاسكندرية في مصر. وفكرنا بامكانية الطلب من مديرة المعهد الأخير، سعاد حسين، تأسيس معهد لنا للتمريض في الكويت. وسافرت لهذا الغرض الى مصر وقدمت لها العرض، فوافقت، وجاءت الى الكويت. وساعدتها من جانبي على انشاء المعهد مع وضع شرط أن تكون الملتحقـة به حاصلة على شهادة متوسطـة عـلى الأقل. ونشرنـا اعلاناً، وحصلنا عـلى سبع فتيات كويتيـات، بالاضافـة الى أربع فتيات غير كويتيات، وحملني أهلهن المسؤولية عنهن، فطمـأنتهم بأن الأمـور ستكون على ما يرام، وسنوفر لهن المواصلات من البيت الى المعهـد وبالعكس. وبالفعل خصصنا لهن مواصلات مناسبة ومرافقة اسمها «وضحة الحمـرة» ما زالـت على قيد الحياة. كانت الدراسة لمدة أربع سنوات بالنسبة للممرضة، أما بالنسبة لمساعدة الممرضة فالدراسة تستغرق سنتين. وطلبنا اعفاء المتقدمات من شرط الشهادة المتوسطة، وان كانت عربية فمن الفتيات اليتيمات. وخصصت لكل طالبة مكافأة بمبلغ 40 ديناراً شهرياً. وبفضل السيدة الفاضلة سعاد السيد رجب زوجة د. نائل النقيب، بدأنا التعاون مع وزارة التربية. بنك الدم المنجز الثاني كان تأسيس بنك الدم. وهو مشروع رافقته عراقيل وصراعات لم نصادفها في غيره من مشروعات، فرغم الطابع الانساني الحساس لمثل هذا الخدمة، لم تكن تخلو من تدخلات أصحاب النفوذ والباحثين عن الأرباح المالية على حساب أرواح البشر. وكان علينا أن نصطدم في هذا المجال بكل ما يصادفه المرء في الأسواق من غش وتلاعب. كان الـدم يصلنا من بيـروت. واكتشف د. علي أنسي، رئيس المختـبر، عدم صلاحيـة الدم الذي يصلنـا من هنـاك. وبدأنا. فكنت أجتمـع مع ستـة أطبـاء يوميـاً في المختبر، ومسؤول التثقيف الصحي يومذاك فريـد أبو غزالـة، ثم ننطلق لتوعية الناس بالأهميـة الإنسانية للتبرع بالدم. كان المتبرع يحصل على مكافأة مقـدارها 10 دنـانير وكـوب من العصير يسترد به قواه بعد تبرعـه. وبدأ النـاس يتـوافـدون للتبـرع. لكن مشروع بنك الدم في الحقيقة كان موجوداً على الورق منذ أيام الشيخ صباح السالم الصباح، حين كان يرأس دائرة الصحة. ولم ينفذ المشروع بسبب بعض المتنفذين أو المنتفعين من لبنان الذين وقفـوا في وجه إنشاء بنـك دم محلي يحرمهم من المتاجرة بدم غير صالح كما اكتشفنا. هؤلاء هم الذين عـادوا إلى العرقلة فأبلغوا الأمير في ذلك الوقت أنني لست طبيباً، وأنني أتدخل في شأن لاعلاقة لي بـه، فاقنع المرضى بأخذ الدم الذي أوفـره لدائرة الصحة. وبتأثير هذه التدخلات واللغط الذي أثاره هؤلاء قـال لي محمد درويش العرادة ان الشيخ يطلبني ليتكلم معي حول موضوع الدم، فذهبت إليه ومعي تقرير د. علي أنسي حول الدم المستورد، وقلت لـه أنا شخص في منصب مسؤول، وأنا أقـدم خدمة للمرضى بمساعدة أطباء مختصين، ولا أتدخل في شؤون المرضى، بل أوفر ما هو صالح للمريض حسب رأي الطبيب، ويمكنك أن تسأل الأطباء في الـوزارة عـن ماهية الدم المستـورد من بيروت، إن كان مغشوشـاً أو صالحاً. قال الشيخ سأفكر بالموضوع. وواصلنا عملنا، وأكملنا ما بدأنـاه إلى أن أصبح لدينا اكتفاء ذاتي وأنشأنا بنـك الدم. وكانوا يجلبون الدم من الولايات المتحدة الأمريكية ومصر في عهـد زينب السبكي مديرة بنك الدم في القاهرة. النظائر المشعة وفي هذا السياق، سياق اهتمامي بطلبات الفنيين والمختصين، وإرساء أسس متينة واستكمال تحديث الخدمات الطبية، عملت على تأسيس قسم النظائر المشعة في مستشفى الصباح. وضرورة وجود طبيب في هذا الاختصاص كان مطلباً من قبل الفنيين، فسافرت إلى لندن وبصحبتي طبيب اسمه ديفيد بيلي، عين لاحقاً ملحقا ثقافيا في لندن، بحثا عن طبيب متخصص بالنظائر المشعة أو مختص بالأمراض السرطانية والنظائر المشعة معاً. فعثرنا على طبيب بولندي الأصل مقيم في انجلترا منذ الحرب العالمية الثانية، وكان هذا الطبيب هو زيليسكي، أول طبيب في الكويت بهذا الإختصاص. جاء إلى الكويت وأنشأ قسم النظائر المشعة. وبعد سنتين تولى منصبه د. يوسف عمر من مصر الذي توفي أخيرا في عام 2008، فاستلم القسم وصار اسمه مركز علاج الأمراض السرطانية. آنذاك كان مركز حسين مكي الجمعة في سرداب في مستشفى الصباح، قبل أن ينشأ مركز بهذا الاسم. الأيتام واللقطاء منذ الخمسينات، كان لدينـا في المستشفـى الأميـري جنـاح مخصـص لـلأيـتام واللقطاء، وحين زاد العدد نقلنا الجناح كلـه إلي بيت سلطـان السالم على مقربـة من المستشفى في منطقـة شرق. وكنت مهتماً بالرعـايـة الإنسانية لهذا الجنـاح، ولكن حين فتـح الباب ما بـين العامين 1955 و1958 أمام بعض الأسر لتبني الأيتام واللقطـاء شعرت أن في العملية ظلماً لأن الدولة هي الأحـق برعـايتهم. وأذكر أنه مع تشكيل دوائر الدولة، وصارت لدينا دائرة للشؤون الاجتماعية ترأسها الشيخ صباح الأحمد، وكان مديرها الأستاذ حمد الرجيب، وهو إنسان فاضل ومتواضع، ذهبت إلى الرجيب بصفة شخصية وعبرت له عن رغبتي في نقل الأيتام من المستشفى الأميري لتجنيبهم الإصابة بالأمراض، ووافقني الرأي، وتعاونت معي في البداية الأخت نورية الحميضي، وأعطى الرجيب الموضوع اهتماماً، فنقل الأطفال إلى اشراف دائرة الشؤون في عام 1958، واختير بيت الشيخ سالم العلي ليكون مأوى لهم في العديلية. مأوى الأيتام وواصلت التردد على هذا المأوى وتفقد أحوالهم، وحين تألفت لجنة الأيتام بعد تحول دائرة الشؤون إلى وزارة، أصبحت عضواً في هذه اللجنة، وقدمت أفكاراً عن أفضل السبل لمساعدتهم والنظر في مستقبلهم، وأهم هذه الأفكار أن تتم تسميتهم ويمنحوا شهادات ميلاد. كان لوزير الشؤون آنذاك عبدالعزيز محمود بوشهري دور فاعل في هذا الاطار، وقد بقيت في اللجنة إلى الوقت الذي اتفق فيه على منحهم أسماء وشهادات ميلاد. من جانب آخر، طرحت أنه حتى مع وجود فكرة التبني، فيجب على الوزارة أن تظل مسؤولة عنهم، وتظل على صلة بالعائلات التي تبنت هؤلاء الأطفال، وزيارتهم وتفقد أحوالهم، لنبقى على علم بظروف حياتهم، ويظل ضميرنا مرتاحاً، فهؤلاء في النهاية أبناؤنا. هذه الفكرة الأخيرة طبقتها عملياً وأفتخر بها، فقد وفرت الحماية للأطفال من الأمراض، ومن الآثار التي تلحق بهم حين تتخلى العائلات عنهم، وما عملت له وتمنيته دائماً هو الاشراف الاجتماعي ومتابعة أوضاعهم الصحية والاجتماعية والتعليمية. إلى الجزائر في عهد وزارة عبد العزيز الصقر أيضاً، حدثت قصة بعثتنا الطبية إلى الجزائر التي كنت مسؤولا عنها بصفتي مديرا لمكتبه في عام 1962. استقلت الجزائر، وبدأ الجزائريون يدخلون إلى المدن، الجزائر وسيدي بلعباس وعين تموشن.. إلخ، بعد حرب التحرير الطاحنة طيلة سنوات الخمسينات، وظهرت الحاجة إلى مد يد العون الإنساني لمجتمع عزله الاستعمارالفرنسي طويلا وعاث فيه فساداً وتخريباً، وها هو يقف الآن على مشارف بناء حياته الجديدة. وطلب الوزير إرسال مساعدات إلى الجزائر تتضمن أدوية وأطباء وممرضين. فتشكلت البعثة وفيها معي د. محمد أبوستة ود. توفيق الترك ود. فؤاد ظريفة ورئيس مضمدي العمليات في المستشفى الأميري طاهر عبد الرحمن وعبد الله علي الصانع وممرضتان. سافرت، وأنا على رأسها، بوساطة طيران عبر البلاد التي كان وكيلها الشيخ دعيج السلمان الصباح. كانت طائرة ذات أربعة محركات تحمل كامل معداتنا ظلت تشق الهواء طيلة أربع ساعات إلى القاهرة. حين وصلنا استقبلنا المرحوم عبد العزيز حسين سفير الكويت آنذاك في مصر بحفاوة، وعبر لنا عن سعادته البالغة بهذه المبادرة. استرحنا ريثما يعيدون تزويد الطائرة بالوقود، ثم انطلقنا. حين وصلنا إلى تونس أخبرونا أن ليس لدينا تصريح بالهبوط في مطار تونس، أي أن علينا أن نقلع عائدين. طلبت منهم الاتصال بالهلال الأحمر الجزائري، وقلت لهم: «سأبقى معكم في انتظار الجواب، على أن يذهب أفراد البعثة إلى فندق للاستراحة، وإذا ثبت أن ليس هناك اتفاق على قدومنا، فافعلوا ماتشاؤون». ذهب أفراد البعثة للاستراحة في فنـدق غـراند في شارع بـورقيبة، وبقيت عندهم لكي أشعرهم بالإطمئنـان. لم يمض إلا وقت قصيـر حتى جاء ممثـل الهلال الأحمر الجزائـري وتحدث مع التونسيين. كان لهذه المؤسسة الجزائرية رهبـة في ذلك الوقـت والكـل يهابهـا ويخشاها. صحيح أن الجزائر حصلت على استقلالها، إلا أن الحكومة المؤقتة برئاسة يوسف بن خدة لم تكن قد وصلت بعد. ومنحنا التونسيون تصريحا بكفالة الهلال الأحمر الجزائري، فالتحقت بأفراد البعثة في الفندق حيث أقمنا ليلتين ننتظرالطيران الفرنسي لنقل الأطباء والمعدات لأنه الطيران الوحيد المسموح له بدخول الجزائر. وتم ترتيب أمر الرحلة. في اليوم الثـاني صادف أن وصلت الحكومـة الجزائرية المؤقتة في طريقها إلى طرابلس الغـرب لحضور المؤتمر الوطني، وكان بين أعضائها أحمد بن بيلا فأردنا الذهـاب والسلام عليهم، أنـا وأفراد البعثـة الطبية. التقينا بـأعضاء الحكومـة في قـاعـة، فألقى بن خـدة كلمة ترحيب بالبعثة وشكر للكويت موقفها، وشكرته من جانبي، وعبرت له عن مشاعر الكويت تجـاه الجزائر، وأذكر أنني قلـت له : «اسمح لي سيدي الرئيس بقول كلمة واحدة لك، أرجو أن تبقيها في خلدك دائماً؛ لن توجد دولة عربية مستقلة ما دامت إسرائيل موجودة». فسألني بن خدة: «مـاذا تقصد؟» قلت : «نحن سعـداء باسـتقـلال الجـزائـر، ولكنني لا أعتبره موجوداً ما دامت إسرائيل موجودة». قال : «بارك الله فيك». |
السدرة بين الأسرّة البيضاء (8)
لقد ربطت بـين موضوع استقلال الجزائر ووجـود إسرائيل، لأن هـذه الأخيرة تشكل قـوة في المنطقـة، وأعطاها تفكك الحكومات العربية حرية الحركة، ولا يستطيع أحـد الوقوف بوجهها. تحدثت بهـذا قبل عـام 1967، قبل النكسة، وكان في ذهني دائماً أن هـذه الدولـة تتحكم بالمنطقة، وفكرت أن الدول العربية تقف ساكنة، وأن إسرائيل سوف تعمل ضد استقلال الجزائر. عدنا إلى الفندق ورتبت مع البعثة رحلة الطيران الفرنسي من تونس إلى وهران. ثم سافرت إلى بروكسل بناء على تعليمات من وزارة الصحة تقضي بزيارة مكتب منظمة الصحة العالمية، لأن لدى المنظمة، بعد استقلال الكونغو، هيئة طبية من أطباء وممرضين يمكن الاستفادة منها في الكويت. واجتمعت بمسؤولي المكتب، وتم الاتفاق، ووعدوا بالاتصال بنا في الكويت. ووفق التعليمات أيضاً، واصلت سفري إلى لندن ورتبت هناك مع د. بيلي الملحق الثقافي أمر التعاقد مع مختص النظائر المشعة الذي تحدثت عنه واستقدامه إلى الكويت. إلى وهران خلال وجودي في لندن اتصل بي الوزير عبد العزيز الصقر وطلب مني الذهاب إلى وهران، لأن البعثة الطبية هناك بدأت تواجه مشكلة. فسافرت إلى باريس وهممت بركوب الطائرة إلى وهران بعد حجز مسبق من باريس إلى وهران، إلا أن الموظفين في مطار أورلي أوقفوني بحجة انني لا أحمل تأشيرة دخول إلى الجزائر! قلت لهم إن الجزائر مستقلة، فلم يبد عليهم أن فكرة استقلال الجزائر وصلتهم بعد. لم يوافقوا على صعودي إلى الطائرة من دون تأشيرة. وحاولت أن اشرح لهم انني ضمن بعثة طبية هناك تقـدم خدمات إنسانية، ولكن شروحي لاقت آذاناً صماء، واقتادتني شرطة المطار إلى غرفـة توقيـف، وأغلقـوا عليّ بابها، فلم أعرف ماذا أفعل. لا سفير لدينا في باريس، ولا أعـرف بمن أتصل، ولم يبق إذن إلا الانتظـار. بعـد ساعـة جاء شخص وقال لي: «ليس لديك تأشيرة، ومع ذلك سنتركك تذهب إلى وهران» شكرته، وقلت له أنهم أخذوا جواز سفري، فقال: «تعال معي» وأخـذني إلى سيارة شبه عسكريـة، صعـدت شاعـراً بالخوف لأنني لا أعـرف إلى أين يأخـذني، ولا أحـد يعرف أين أنا. ولم أشعـر بالارتيـاح إلا حين أوصلني إلى سلم الطائرة، فنزلت، وقال لي: «تفضل» لم أسأله شيئاً، أردت الخلاص فقط من هذه الورطة. وزاد اطمئناني وفارقني خوفي حين وجدت في الطائرة ركاباً. وما أن جلست في مقعدي حتى سارعت إلى طلب مضيفة الطائرة، وأخبرتها انني لم أتسلم جواز سفري ولا حقائبي، فطمأنتني: «لا تقلق..كل شيء موجود على متن الطائرة» هبطنا في مرسيليا، ومكثنا لمدة ساعة، ثم أقلعت الطائرة الى وهران، وهناك استقبلتني البعثة وانضممت اليها. أول زيارة كانت هذه أول زيارة لي الى الجزائر، وسكنت مقابل المستشفى المركزي. في تلك الأيام كانت منظمة الجيش الفرنسي السرية لا تزال تعمل في الجزائر ووهران وعين تموشن، ولهذا أرسلوا معنا مرافقاً من قيادة الجيش الثوري في جولاتنا لرؤية المقاهي على البحر والمرسى الكبير بأنفاقه التي تعبر تحتها البواخر. جلسنا في أحد المقاهي وتناولنا قهوة. كان المشهد جميلا تشعر معه أنك في اوروبا. وفجأة دوى انفجار رهيب، وسألت عن ماهية الانفجار فقيل لي: لا يوجد شيء، هذا من أعمال المنظمة السرية. وعدت مع الأطباء الى البيت. وبعد ذلك صدر قرار أن تنتقل البعثة الطبية الى أم سعيدة، فركبنا سيارة يرافقنا شخص من الجيش الجزائري، ومررنا بعين تموشن، وحين وصلنا الى بوعباس أوقفنا حاجز درك من سود فارعي الطول سألونا عن وجهتنا. فقلنا لهم اننا متوجهون الى أم سعيدة. وتحدث معهم د. توفيق الترك بالفرنسية وأفهمهم أننا بعثة طبية انسانية، فتركونا نمر. وصلنا أم سعيدة، فاذا هي في منطقة صغيرة مهملة في أحد الوديان. واتفقنا مع أحد المسؤولين هناك على قيام البعثة بتقديم المساعدات لأهالي أم سعيدة، وقفلنا راجعين الى بوعباس، وهناك أوقفنا الدرك أنفسهم وسألونا للمرة الثانية عن وجهتنا، فقلنا هـذه المرة الى وهران. نهاية المهمة في وهران ودعت البعثة لأنني أنهيت مهمتي، ولكن قبل أن اغادر جوا الى الكويت عن طريق باريس فلندن، أخذوني في جولة استطلاعية لرؤية أماكن شهدت تعذيب الثوار وقتلهم على يد الفرقة الأجنبية Q.A.S. في أحد هذه الأماكن، وهو جبل مرتفع لا تزال الحبال موجودة بين صخوره، قالوا لي انهم كانوا يأتون بالثائر الى هذا المكان ويهددون بإلقاء أولاده من فوق الجبل اذا لم يعترف. واذا كان الثائر امرأة، يقيدونها في صندوق مكهرب فيه أسلاك موصولة بكل أعضاء الجسد، وما هي الا صعقة أو صعقتان وتموت المرأة. كانت ذاكرة هذه الأمكنة التي تحتفظ بقصص تعذيب وحشي من هذا النوع تبعث في النفس الخوف الشديد. لم أستطع مواصلة الجولة، وطلبت العودة الى البيت. وفي طريق العودة أوقفتنا سيارة مسلحة عن بعد، فتحدث مرافقي مع جنودها باللغة الفرنسية وهو منبطح على الأرض، الى أن أقنعهم بحقيقة هويتنا ومهمتنا. وواصلنا طريق العودة. وخلال مرورنا على طول الساحل، شاهدنا الكثير من السيارات الخالية التي هجرها أصحابها، وعلمنا أن هؤلاء من أعضاء المنظمة السرية الذين ارتكبوا فظائع القتل والتعذيب، وسارعوا الى الهرب الى فرنسا بعد استقلال الجزائر خوفا من انتقام الجزائريين منهم. مشكلة جديدة بعد عودتي الى الكويت بشهرين حدثت مشكلة أخرى في الجزائر، أرادوا نقل البعثة من أم سعيدة إلى عين تموشن التي تبعد ساعة عن وهران. وطلب مني الذهاب وحل هذه المشكلة. وصلت إلى وهران، ثم إلى عين تموشن للتفاوض مع المسؤولين هناك والسماح للبعثة الطبية بالعمل في هذه المنطقة. وحول طاولة التفاوض، أخرج المسؤولون مسدساتهم ووضعوها على الطاولة ترحيبا بنا بدل الأقلام والأوراق. لم يكونوا موظفي هيئة صحية بل ضباطا في الثورة. واتفقنا معهم، وعدت إلى الكويت. هذه الزيارات المكوكية كانت في الأشهر الأولى من انتصار الثورة، ووسط غبار لم ينجل. بعد، وتسارع في التنظيم وضبط الأمـور بعـد رحيل الفرنسيين. إلا أن زيـارتي التي حدثـت في عام 1964 كانت فـي جو أكثر هدوءاً وتنظيمـاً، كانـت لحضـور حفـل ذكـرى استقـلال الجزائـر. ذكرى الاستقلال دُعي إلى الحفل رئيس مجلس الأمة آنذاك عبدالعزيز الصقر والشيخ صباح الأحمد الجابر وزير الخارجية، بالإضافة إلى عضوي مجلس الأمة جاسم القطامي ومحمد الرشيد، وحضرت ممثلا لوزارة الصحة. ونزلنا في فيلا تابعة للحكومة. ذهبت للاطمئنان على البعثة الطبية في عين تموشن، ثم أخذونا منذ اليوم الأول لوصولنا لحضور الاحتفال الأول لقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء، وكان الرئيس أحمد بن بيلا حاضراً، ويقف خلفه هواري بومدين. فملت على جاسم القطامي الذي كنت واقفاً بجواره وقلت له: «أنظر في عيني بومدين.. كأنه يريد أن يخلع بن بيلا ليجلس مكانه!». فاستبعد القطامي الفكرة: «لا.. غير ممكن». بعد انتهاء الاحتفال ذهبنا إلى مقبرة الشهداء تحت سماء غائمة وممطرة، فقرأنا الفاتحة، ثم أخذونا إلى حي من أحياء مدينة الجزائر شهد معارك ضارية في أيام الثورة مع المستعمرين الفرنسيين. كان هذا الحي ملجأ للثوار يتميز بأزقة ضيقة جداً، وكانت النسوة يطلقن زغاريد، كما أخبروني، حين يدخل الفرنسيون الحي لتنبيه كل البيوت إلى أن الفرنسيين دخلوا، وعندها كان الثوار يحاصرون الداخلين ويقتلونهم. حرب 67 لم تكن مساهمتنا الطبية في الجزائر فريدة من نوعها، بل ظل هذا النهج ثابتا لدينا، وهو ما اعتبرناه دائما واجباً من منطلق إنساني ومن منطلق انتمائنا العربي أيضاً. فمع اندلاع حرب عام 1967 أنشأنا غرفة عمليات في مستوصف الشويخ، وبدأنا بجمع التبرعات وتشجيع الناس على التبرع بالدم لإرساله إلى سوريا ومصر والأردن. وخلال حرب اكتوبر 1973 حين أرسلت الكويت قوات للمشاركة في القتال، أقمنا غرفة عمليات استعدادا لأي طارئ يستوجب تقديم المساعدات. وتم إرسال أطباء إلى سوريا، لأن مصر لم تكن بحاجة إلى أطباء. وظلت علاقاتي بالجزائر خاصة بالخدمات الطبية. وعرفت بعد ذلك شخصيات جـزائريـة مثل جميلة بوحريد حين زارت الكويت، وعرفت رئيس الـوزراء الشـاذلي بن جديد في السنوات اللاحقة. تنافس غير شريف قلت أنني لم أبق في منصب مدير مكتب الوزير الا سنة واحدة، ونقلت بعـدها الى وظيفة مدير اداري في وزارة الصحة. جزء من الأسباب، وهي متشابكة ومتعددة، يرجع الى جو المنافسات غير الشريفة التي عملت على اجهاض محاولات التطوير التي تواصلت منذ عام 1962 وحتى عام 1967، فالكل كان يسعى الى الوظيفة والمنصب والكل يريد أن يكون مسؤولا ويحصل على ترقية من دون أن يمتلك كفاءة تؤهله لشغل المنصب الذي يبحث عنه. أما السبب المباشر، فلم يكن له علاقة بأمور وزارة الصحة، وهنا المفارقة، بل بسبب موضوع سياسي ذي علاقة بمجريات انتخابات أول مجلس أمة في عام 1962. في هـذه الانتخابات نجح عبـد العزيز الصقر عن منطقـة جبـلـة، وسقط عبداللطيف ثنيان الغانم في منطقـة كيفان. وتسلم الصقر رئاسة مجلس الأمـة. ولأن الغانم يعرف أنني أقـرب شخص الى عبدالعزيز الصقر، اقتنع أنني سبب سقوطـه في الانتخابات. صحيح أنني عملت معه لانجاحه، ولكن لم تكن لي يد في سقوط الغانم. ومـع ذلك ما أن تـولى وزارة الصحة بعد الانتخابات حتى لمح الى أنه لايريدني في مكتبه. كان يعتقد أنه بهذا يـؤذي الصقر عن طريق ايذائي. لم أكن في أي يوم من الأيام من الطامحين الى تولي المناصب القيادية وسط التدافع والتزاحم والتنافس، بل فضلت حين عرض عليّ منصب معاون مدير دائرة الصحة في عام 1958 رفضت هذا المنصب آنذاك ادراكا مني أنني غير قادر على العمل بالشكل الذي يريده الآخرون، والانصراف الى تعزيز قدراتي الادارية بالالتحاق بدورات تدريبية خاصة في بريطانيا. وحين كنت مديرا لمكتب الوزير عبد العزيز الصقر، اقترح محمد النصف تعييني وكيلا للوزارة في وقت لم يكن فيها وكيل، وما أن علمت بها، ذهبت الى الوزير وقلت له: «هناك شخص أكفأ مني يستحق هذا المنصب هو الملا يوسف الحجي» وتم تعيين الحجي كأول وكيل لوزارة الصحة. ورغم وجود درجة في الميزانية لتعييني وكيلا مساعداً، ذهبت اليه مرة ثانيـة وأخبرته أن سعد الناهض أحق بهـذا المنصب مني. وتمسكت برأيي. وتم تعيينه. على هذه الأرضية، وحين لمست من تلميحات الوزير الجديد عبد اللطيف ثنيان الغانم أنه يغلق الطريق أمامي، وإن درجـة الوكيل المساعـد التي استحقها حجبت عني ذهبت إليه وقلت له: «لايهمني المنصب بل خدمة الوزارة ووطني» ولكن، وهذه هي نقطة الإنقلاب في الموقف، جاءت لحظة درامية في عام 1968 قبل مغادرة عبد اللطيف ثنيان الغانم منصبه في الوزارة بشهر، حين أرسل خطاباً إلى مجلس الوزراء يطلب فيه تعييني وكيلا مساعداً للشؤون الصحية! دهشت بالطبع، ولكن سروري بهذه المبادرة كان أكبر من الدهشة أو علامات الاستفهام، فذهبت إليه أشكره، وهنا نلت تقديراً يتجاوز ما يأمله أي صاحب ترقية عادية؛ كان الرجل رغم تلك الظنون العابرة في خضم الإنتخابات، والتي لاتعلق لها بحسن الأداء والكفاءة في العمل، رجلا يعرف الرجال جيداً، فقال لي بلهجة لاتحمل أي رنة عتاب حتى: «أردت تعيينك لأنني رأيت عملك» وكانت هذه العبارة كافية لكي تمحو كل شائبة من الشوائب في العلاقة بيننا، وتؤكد أن الصحيح يظل صحيحاً حتى وإن غيبته الظنون والهواجس وحتى الإشاعات أحياناً. لاأعرف بالضبط سبب انقلاب موقف الغانم تجاهي، اللهم إلا إذا كانت الخلافات الشخصية بينه وبين عبد العزيز الصقر ظلت في مكانها وزمانها، ولم تتحول إلى محرك يعمل في كل اتجاه ويفقد الإنسان حس التمييز بين المصلحة العامة والخاصة. أو أن نضوج التجربة البرلمانية والظروف التي تلت الإنتخابات قاربت بين الرجلين، فقدما استقالتهما في أول مجلس أمة سوية، وكان سليمان المطوع متحمساً أيضاً لتقديم استقالته حين سقطت الوزارة. تزوير الانتخابات وجاء هـذا على خلفيـة موضوع تزوير الانتخابات. لم أكن طرفاً في الموضوع، ولكنني كنـت شاهـداً، وحضرت الإجتماعات الإحتجاجيـة على التزوير بـين كـل الأطراف الوطنية مثل د. أحمـد الخطيب وجاسم القطامي. وتم إصـدار بيـان رد فيه الحاضرون على التزوير وحددوا الأشخاص الذين شاركوا في التزوير، ومنهم الخبير العشماوي. ومن أعد البيـان ثلاثة، أنا وعبد الله النيبـاري وراشـد الفرحـان. وأذكر أن اجتماعاتنا كانت في ديوانية يوسف إبراهيم الغانم في منطقة الشويخ، وهناك وصلتنا تهديدات من الحكومة بأنها ستقوم بالرد بالقـوة على أي تحركات، ولكنها تراجعـت، وتم تسريـح العشماوي من إدارة الفتـوى والتشريع. ولكن لم يتم حل المجلس، وأكمل دورته البرلمانية حتى عام 1967. في هـذه الظروف كانت بداية صعودي في السلم الوظيفـي، وانهماكي في الحياة السياسية العامـة معاً، من دون أن يطغى جـانب عـلى آخـر، بل كانا يتكاملان في الحقيقـة. وانتقلت بعد ذلك إلى منصب وكيل مساعد للشؤون الإدارية والمالية حتى عام 1973. في هذا العام تقاعـد وكيل الوزارة الملا يوسف الحجي، واستقال سعد الناهض وذهب إلى البنك العقاري، وأصبح منصب الوكيل شاغراً، وبـدأ عـدد من الأشخاص يسعون إلى هذا المنصب. يومها كان الوزير هو عبد الرزاق العدواني، فقلت له أنني الأقـدم بين المتقدمـين والأكفـأ لهذا المنصب والأحق به وظيفياً ولن أتنازل عن حقي. جـوبـه تقدمـي بـاعتراضـات مـن بعض الأطباء الكويتيين بحجة أن من يشغـل هـذا المنصب يجب أن يكون طبيباً! وقلت للوزير العـدواني رداً عـلى هذه الحجـة، إنني درسـت إدارة المستشفيات وتدربـت عليها في انكلترا، وأكملت عـدة دورات في هـذا المجال، وليس هناك شخص أحق منـي بهذا المنصب. أحـد الذين لم يوقعـوا على مذكرة الأطبـاء الإعتـراضيـة كان د. عبد الرحمن العوضي. أمام هذا اللغط الذي اختلطت فيه دوافع غير مهنية بدوافع المطامح الشخصية، أوصلت رسالة إلى ولي العهد رئيس مجلس الوزراء آنذاك الشيخ الراحل جابر الأحمد الصباح، فتحدث مع الوزير وأصدر قراراً بتعييني وكيلا للوزارة. منصبي الأخير في جهاز الدولة حتى عام 1976، وهو عام استقالتي. |
كتاب السدرة بين الأسرّة البيضاء ( 9 )
لقد ربطت بـين موضوع استقلال الجزائر ووجـود إسرائيل، لأن هـذه الأخيرة تشكل قـوة في المنطقـة، وأعطاها تفكك الحكومات العربية حرية الحركة، ولا يستطيع أحـد الوقوف بوجهها. تحدثت بهـذا قبل عـام 1967، قبل النكسة، وكان في ذهني دائماً أن هـذه الدولـة تتحكم بالمنطقة، وفكرت أن الدول العربية تقف ساكنة، وأن إسرائيل سوف تعمل ضد استقلال الجزائر. في أي منصب يشغله الانسان، وبخاصة اذا كان منصباً قيادياً، سيكتشف أنه منخرط، سواء أراد أم لا، في شبكة علاقات مع العالم المحلي والخارجي معاً. هذا درس يتعلمه كل من خدم في مؤسسات الدولة بوضوح أكثر من ذلك الذي يظل بعيدا عن نقط التقاطع. وقد خبرت جيدا معنى هذه النقط في عدة مناسبات، سواء كانت مناسبة الاصطدام بالواقع الاجتماعي الذي نعيش بين ظهرانيه، أو مناسبة الاصطدام بالعالم الخارجي الذي يعيش بين ظهرانينا، أو مناسبة الاصطدام بواقع مقلوب في مجال عملك يدفعك الى أن تعيد ايقافه على قدميه. من المؤكـد أن عمـلا انسانياً مثل عملي في وزارة الصحـة ما كان لـه أن يكون متاخماً لمثل هذه الاصطدامات الا بشكل غير مباشر، الا أن عالمنا كما يبدو تتداخل فيه الأشياء بطرق لا يمكن احتسابها أو توقعها. أضف الى ذلك أن موقعك الوظيفي يحدد مدى هذا الاشتباك. فحين كنت أتولى الشؤون الصحية أو الادارية كوكيل مساعد كان مدى الاشتباك أضيق مما سيكون مع موقعي كوكيل وزارة. فهنا تصبح بطبيعة هذا الموقع على مشارف مسؤوليات أوسع، وتتساقط عليك سهام أكثر. مفاجآت في المهنة فكيف لك أن تتخيل مثلا أن تكون ذاهباً في مهمة تطعيم لحماية الناس من وباء، فتفاجأ بمن يشهر في وجهك مسدسه مهدداً؟ وكيف لك أن تتخيل أن سفراء بعض الدول يحاولون أن يفرضوا عليك ارادتهم ومصالحهم غير عابئين بك وبمصالحك؟ وكيف لك أن تلمس انعدام الكفاءة الادارية وعجز الأطباء في مجال تتعلق به مصائر وحياة الناس ولا تقدم على تصحيح الادارة وحل مشاكل الأطباء؟ هذه مجرد حالات نموذجية كان عليّ أن أختبرها في وقت تتراكم فيه محفـزات التطـوير من حولك وفيك، ولا تنتظر تأجيلا، أو لامبالاة أو اهمالا، مع كل ما توفر لك بعد جهد وصبر من وعي وقدرات على مر السنين. مسدس في الوفرة سأتحدث الآن عن تجربة مواجهة المسدس في الوفرة فجراً ونحن نقوم بعملنا لحماية الناس من وباء يمكن أن يحصد أرواح الالاف. بدأ الأمر مع ظهور حالتي جدري في منطقة صيهد العوازم، وهي منطقة يسكنها خليط من كويتيين ومقيمين في مساكن بدائية كانت تطلق عليها تسمية العشيش. كان هذا في عام 1968. وحدد الأطباء المصدر في مناطق لم يشملها التطعيم ضد مرض الجدري، واقترحوا القيام بحملات تطعيم في المناطق الخارجية، وتقرر أن نذهب فجراً لتطويق هذه المناطق. نتجمع يوميا عند مستشفى العظام، أطباء وممرضين وممرضات، وأنا معهم، ثم ننطلق. وعند بزوغ ضوء الفجر نمسك بكل خارج من منزله ونقوم بتطعيمه. كان الأمر أشبه بعملية صيد، لأن سكان هذه المناطق لم يكن التطعيم بالنسبة لهم أمراً مفهوماً كما أصبح مفهوما الآن، بل كان فعلا مشكوكا في دوافعه، ان لم يكن يعتبر اعتداء على الأفراد وانتهاكاً لخصوصياتهم. ثم انتقلنا الى الوفرة، وهي في تلك الأيام منطقة حدودية نائية ومنعزلة. كان معي خالد الدهيم الذي عمل صيدلانياً قبل أن يصبـح مسؤولا عن المستوصفـات. وطلبت من العاملين معي أن يأخذوا حذرهم في هذه المنطقـة، فهي ليست مثـل الفروانية، وغالبية سكانها يدينـون بالفكـر الوهابي. طوقنا المنطقة وبدأنـا بتطعيـم كل من يظهر. وبينما نحن مشغولون جـاء أحدهم واقتـرب منـا وسألني عن معنـى ما يحدث، فقلت اننـا نقـوم بحملـة تطعيـم، غـير ملـق بالا الى ما اذا كان قد فهم ما نقوم به بالضبـط. وفوجئت به يشهر مسدسه مهدداً ويعلن: «لن أسمح لكم بالتقدم، هذه المنطقة تتبع السعودية ولا شأن لكم بأهلها». وتقـاطر علينا حشـد من الناس من الواضح أنه لـم يكن متفرجاً بل متضامنـاً مع صاحب المسـدس. عقدت الدهشة لساني، ثم تداركت الأمر بتقديم ايضاح بسيط: «نحن جئنا للقيـام بعمل انساني وانقـاذ أهـل المنطقـة من مـرض الجدري.. كل الموضـوع هـو تطعيـم». وأضفت وأنا أراه يشدد قبضته على مسدسه: «اذا أرت قتل أحد، فأنا أنوب عن جماعتي، فاقتلني». توقعت أن يحرجه هذا المنطق البسيط، الا أنه ازداد غضباً كأنه وجد في قولي تحدياً. وهمهمَ الحشد من حوله. {ابعد عن الشر} لمعتْ في ذهني فكرة اللجوء الى أحد مخافر الشرطة الكويتية، الا أنني خشيت من وقوع صدام، فأوقفت حملة التطعيم. حـدث هذا في منطقة الوفرة وليـس المنطقـة المحـايـدة، والذيـن تصـدوا لنا قالـوا إنهم سعوديـون! رجعنا الى الكويـت ومعي خالد الدهيـم، وأبلغت الوزير عبدالعزيز الفليج بمـا حدث، وسألته: «ما هـو الحـل؟ ومـاذا نفعـل؟»، فكان جوابه: «ابعد عن الشر»! قلت: «ولكن إذا استفحل مـرض الجدري في البلـد فسيقضي علينا، ولدينا حالتان حتى الآن، واتصلنا بمنظمـة الصحة العالمية وطلبنا خبيراً، فأرسلوه وشخّص الحالتين عـلى أنهما حالتا جدري!». «ابعـد عن الشـر»! وابتعدنا، أو ابتعد الشر عنا، لأننا لم نستطع دخول الوفرة، ولكننا احتوينا العدوى، فلم تتجاوز الاصابة الحالتين المذكورتين. وأصدر الوزير تعليماته بإنهاء الحملة. مواجهة مع سفير في مناسبة أخرى لم يكن من تصدى لنا ولعملنا في وزارة الصحة من سكان الوفرة أو صيهد العوازم، بل السفير البريطاني في الكويت. ولم يحدث هذا في القرن التاسع عشر أو أوائل القرن العشرين حين كانت الشمس تغيب عن مستعمرات إمبراطوريته، بل في العام ذاته، عام حملة الجدري التي أوقفها تهديد بإشعال معركة بالمسدسات في منطقة نائية، أي في عام كانت فيه بريطانيا تسحب آخر ظلال أساطيلها عن منطقتنا الخليجية تحديداً. من مكاني كوكيل مساعد للشؤون الصحية كنت أشجع وجود مدارس طبية متنوعة في الكويت تأتينا من أي دولة لديها خبرات صحية، بما في ذلك خبرات أطباء روس وتشيك وبولنديين، واشجع وجود تنافس بين القدرات والخبرات المختلفة لأن في كل هذا مصلحة للمرضى. ولم يخطر ببالي أن سعينا للحصول على الأفضل والأحدث في مجال الطب سيثير حساسية أحد في هذا العالم، إلا حين زارني في الوزارة السفير البريطاني ذات يوم ليسألني عن الهدف من إحضار أطباء روس إلى الكويت! كان الأمر سيكون مفهوما لو جاء يسأل عن الهدف من استقدام أساطيل حربية أو سفن فضاء روسية في أجواء الحرب الباردة بين عملاقين يراقب أحدهما حركات الآخر على مدار الساعة والكرة الأرضية، ولكن سؤاله عن هدف استقدام أطباء يرفدون مستشفياتنا بخبراتهم بدا أشبه بمزحة ثقيلة. كان جوابي: «لا يـوجـد أي هدف، فهـؤلاء أطباء بسـطـاء يذهـبـون الى أبعـد الأماكـن لعـلاج المـرضى». استاء السفير من كلامي كما بدا من تعابير وجهه، ومن لهجته الجافة حين استأذن وخرج من دون تعليق. مدارس متنوعة كان أطباء أوروبا الشرقية يبرهنون على قدراتهم، ولم استطع آنذاك استقدام غير البولندي «زيليسكي». وأصبحنا نحضر أطباء من مصر، ولولا هذا التحرك نحو تنويع الطواقم الطبية لأصاب الخلل الخدمات الصحية في الكويت. في هـذا العـام نفسه ذهبت مـع د. عبدالمنعم أبو ذكرى الى القاهرة وجئنا بعشرين طبيباً. ولم يزرني هذه المـرة سفير من أي نـوع كان، بل زارني نائـب كويتي محترم كبير السن متـدين لا علاقة لـه بالحرب البـاردة، بل بنوع آخر من الحـروب ربما هي الحروب الصليبية الغابرة. وسألني النائب: «لمـاذا تأتـون بأطباء مسيحيين أقبـاط؟». قلت بلطف: «الطب مهنة انسانية لا نفرّ.ق بين من يمارسها». قـال: «المسلم أحسن». عندئذ سألته: «اذن قل لي كيف تتعالج في الخارج لدى أطباء كلهم مسيحيون؟». لم يقل شيئاً، وأظنه لم يستطع الاجابة على سؤالي حتى اليوم، لأنـه لم يعـد الى زيارتي. من عـاد الى زيـارتي مرة أخرى كان السفير البريطاني ذاتـه، وهذه المـرة ليسأل عن أمر سبّبَ له قلقاً أيضاً كما كان الحال في المرة الأولى حتى كدت احسبه سفيراً للشؤون الصحية في الكويت. العوضي وزيراً نحن الآن في عام 1975، وقد مضى عليّ في منصبي وقتٌ كاف ليصبح للأفق الذي فتحته في التنظيم والتطوير أصداء في عدة اتجاهات، داخل الوزارة وخارجها. وتسلم الوزارة د. عبدالرحمن العوضي الذي كنت وظيفيا أعلى منه درجة، وأشيع يومها أن صعود العوضي بهذه الطريقة قد خلق شيئا من الحساسية لدي، وأنني قد أنتقل الى وزارة أخرى. ولم يكن لهذه الاشاعة اساس من الصحة. أنا أدرك أن منصب الوزير منصب سياسي، وأنا موظف قيادي في هذه الوزارة وأنظر الى مصلحة بلدي قبل أي شيء آخر. ولم أفكر أبداً في يوم من الأيام أن يكون المركز هدفاً لي. وظل تفكيري منصباً على الطريقة المثلى لتحسين الأوضاع وخدمة المواطنين. كان لدينا نظـام متفق عليه منـذ أيام د. ايريك بيري، أساسه أن المعـدات الطبيـة التي نستخدمها أو نستوردها يجب أن تكون بمواصفات انكليزية. وانسجاماً مع فكرة التنويع والاستفادة من مختلف المعدات المتطورة، ومن واقع مسؤوليتي، أصدرت قراراً الى قسم الامدادات باعتماد المواصفات الدولية. طلب السفير مقابلتي، وجاء الى مكتبي، وقبـل أن يستقر به المقام بادرني بالسؤال: «لماذا تم تغيير المـواصفات المتفق عليها منذ أيـام د. بيري، ولماذا تحولت الى مواصفات دولية؟». لم يكن السؤال غريباً فقط، بل كان تدخلا من قبل سفير دولة جاء الي مباشرة كأني موظف بريطاني خاضع لسلطته، فقررت أن أكون أكثر حزماً. وقلت له: «أود ان أقول لك شيئاً بصفة شخصية، لأنني لا أقبل أن يسألني أحد من خارج بلدي لماذا قررت هذا أو ذاك، ولكن على مستوى شخصي أقول لك: أولا، توجد دول لديها امكانات ومعدات متطورة أكثر من بريطانيا. فاذا كانت المواصفات متوافرة في بريطانيا نأخذها منكم، ولكن أن أتقيد بمواصفات بريطانية.. اعذرني.. لا. ثانياً، لا يجوز أن تناقشني في هذا الشأن، يجب أن تتوجه الى وزارة الخارجية. لست مستعداً للاستماع الى أي شخص من خارج الكويت يأمرني، أو يعترض على قراراتي» انزعج بالطبع، الا أني خففت ثقل الموقف عليه رغم أنه كان على خطأ بيّن وكنت على حق تماماً، فقدمت له الشاي والقهوة. فاكتفى بالشكر تأدبا وغادر. من أراد إحراجي؟! حتى الآن لم يغادرني الشعور بأن زيارة السفير البريطاني كان وراءها أحد ما. لا أريد أن أتهم أحداً، لكنني أدرك الآن، وفي ضوء ما سأرويه من تجارب مررت بها، أنّ من أرسل السفير ليس بعيداً عن موقع القرار. لقد أراد وضعي وهو من أعنيه في موقف محرج، لكنني لم أعر الأمر اهتماماً لأنني أعرف خفايا الموضوع. وواصلت العمل بنظام المواصفات الدولية القائم حتى الآن. نحن نأخذ من المواصفات، سواء كانت سويدية أو دانمركية أو نرويجية أو ألمانية أو فرنسية، ما هو في مصلحة بلدنا. هكذا كان شعوري وتوجهي في منصبي، وكذلك كان الأمر بالنسبة الى الوكلاء الذين سبقوني. وامتد هذا التوجه ليشمل اقامة علاقات مع مدارس طبية مثل المدرسة الفرنسية والسوفيتية عبر الاتصالات المباشرة أو عقد المؤتمرات. وأخص بالذكر المؤتمر الطبي الفرنسي- الكويتي الذي عقد في الكويت في عام 1974، والذي توصلنا فيه إلى عدد من القرارات والتوصيات المفيدة لنا ولهم، وتابعناها بزيارة فرنسا. نحن لم نكن نريد القيام بتظاهرات سياسية فقط بل نسعى إلى تحقيق كل ما تعهدنا به. قـد تكون وراء الاعتـراض عـلى المواصفـات الدوليـة أمـورٌ شخصية، ولكنني شعرت أن العوضي هـو من أرسل السفير. ربما سألـه السفير عن تغيير نظـام المواصفات، فقال له ان المسؤول هـو برجس البرجس، بينما كان من المفترض أن يتصـدى له بوصفه وزيراً. لقد كان يرمي عليّ أموراً كثيرة يـود التخلص منها. وأنـا لدي الكثير ليشغلني بعيداً عن هـذا النـوع من المناكفات. عرقلة التطوير كنت صريحاً منذ بداية تسلمي مهمة وكيل الوزارة في توضيح الصعوبات التي تواجهها وزارة الصحة كما بدأت ألمس تفاصيلها. قبل ذلك كانت محاولات التطوير تتعرض للإجهاض، بدءا من عام 1962 وحتى عام 1967. مثلا حين دعونا إلى ان يكون لكل مستشفى ميزانيته المستقلة، ولكل مركز عضوين من أهالي المنطقة في مجلس إدارة المستشفى، فيستمع إلى شكاوى المواطنين ويلبي احتياجاتهم ويعمل على تطوير الخدمات الصحية، لم يتحقق شيء من هذا وسط التنافس الشخصي، وبحث الكل عن المنصب والوظيفة. هذه المرة، ومن موقعي، كنت مصمماً على عمل شيء جدي، فأوجدت نظاماً يربط وينسق العمل بين المستشفيات والمستوصفات، ويجعلها مكملة لبعضها البعض من أجل زيادة فعالياتها، وجاء هذا بعد جولة على الأرض انطلاقاً من مبدأ نؤمن به جميعاً، وهو أن المشاكل التي يعاني منها المواطنون في ما يتعلق بالصحة وقضايا المجمعات والمراكز والمستشفيات، لا تحل من وراء المكاتب إطلاقاً، وإنما في أماكنها وبالمواجهة الشخصية مباشرة. إذا لم يعايش المسؤول المشاكل لا يمكنـه أن يضع لهـا حلولا جذريـة. لهـذا قـررنا أن ينتقل الجهاز التنفيذي والفنـي في الوزارة كله إلى الوحـدات والمستوصفات ليطلـع عن قـرب على ما يجري فيها. نظام اللامركزية ونتيجة لذلك جاء تطبيق نظـام اللامركزية خطوة سباقـة، فأصدرت تعميماً على مديري الإدارات والمستشفيات بوضعه موضع التنفيذ. ويقضي هـذا النظام بتخـويل مديـري الإدارات، كل في ما يخصه، صلاحية البت في جميع الأمـور التي ترفع إليهم من الأقسام التابعـة لهم، مـع استثناء ما يجب رفعه إلى الوكيل أو الوكيل المساعد المختص، أي مـا تعلق منـه بسياسات الوزارة العامة، وما يتطلب إقـرار مبدأ جديـد لم يسبق إقراره، ومـا يتطلب اتخـاذ قرار أو موافقة من الوزيـر أو الوكيل أو الوكيـل المساعد المختص. وكانت رسالـة جميع العاملين في وزارة الصحـة، مـن فنيين وإداريـين، الإنسانية تقتضي حسن استقبال الجمهور ومعاملته، والعمل على توفير كل ما تتطلبه راحة المرضى ومرافقيهم، وهو ما يعني تلمس رغباتهم والتعرف على مقترحاتهم والعمل على تحقيقها، ما دامـت لا تتعارض مع القانون والأنظمة المرعية. |
السدرة
(10) التفرقة بين الطبيب الكويتي والعربي ظاهرة عجيبة غريبة لقد ربطت بـين موضوع استقلال الجزائر ووجـود إسرائيل، لأن هـذه الأخيرة تشكل قـوة في المنطقـة، وأعطاها تفكك الحكومات العربية حرية الحركة، ولا يستطيع أحـد الوقوف بوجهها. تحدثت بهـذا قبل عـام 1967، قبل النكسة، وكان في ذهني دائماً أن هـذه الدولـة تتحكم بالمنطقة، وفكرت أن الدول العربية تقف ساكنة، وأن إسرائيل سوف تعمل ضد استقلال الجزائر. لاحظت منذ بداية عملي وكيلا أن الوضع في المستشفيات مقلوبٌ ويحتاج إلى تصحيح، وهو ما يعني إحداث انقلاب، هذا ما قررته في ضوء توجيهات ولي العهد الشيخ جابر الأحمد، وتعليمات الوزير عبد الرزاق العدواني، ونتيجة لإيماني بحق ذوي الدخل المحدود والفقراء بالحصول على العلاج المجاني وبمستويات جيدة. وتبين لي، نتيجـة للإحصائيات التي أجرتها الـوزارة، أن أكثر المتـرددين عـلى العيـادات الخاصة هم من ذوي الدخل المحدود والفـقراء، أمـا الأغنياء والموسرون فهم يلجأون في حالة المـرض إلى أطبـاء الوزارة ومستشفياتها! وهـذه ظاهـرة لافتـة للنظـر وتستحق الدراسـة. فماذا كانت نتيجـة؟ تبين بعد الدراسة والاستطلاع الميداني أن الجهاز الإداري الذي يتولى مهمة تنظيم العلاقة بين الأطباء والمرضى غير كفؤ، وأنه يرضخ لعوامل كثيرة بسبب عدم تمتعه بالإمكانات اللازمة للقيام بمهمته، ومعاملته غير اللائقة للمراجعين، وهذا ما جعل المواطنين يحجمون عن الإقبال على أطباء الوزارة لتلقي العلاج. واكتشفنا أيضاً أن الهيئة الطبية لم تعد قادرة على تحمل أعباء العمل بسبب سوء الإدارة والتنظيم وقلة الأعداد. انقلاب صحي وهكذا كان لابد من أن يشمل الإصلاح الجهاز الإداري بإعادة تأهيله عبر دورات تدريبية، وكل متدرب يفشل يتم نقله إلى مجال آخر، وتعزيز الهيئة الطبية بأعداد جديدة لكي يتمكن الطبيب من العناية بعدد محدد من المرضى يومياً. كان هـذا انقلاباً بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكن كانت له تبعاته ومشاكله، الشخصية وغير الشخصيـة أيضاً. وربما كان مـا واجهته من عراقيـل لا يتعلق تحديداً بالصراحـة التي كنت أواجـه بها مشكلات الإدارة فقط، بل بالمنطلقات المبدئية أيضاً، الإيمان بالعـدالة والمساواة في مـا يتعلق بالخدمات الصحية والتطبيب وصرف الأدوية، بلا تفرقة بين منطقة وأخرى، ولا تمييز بين مواطـن وآخـر. كنت أراقب وأتابع بعناية، الندوات الخاصة بعملنا في الوزارة، واسجل ملاحظـاتي، وأقارب الدورات التدريبية للإطباء والإداريين التي حرصت عليها دائماً كوسيلة عملية للنهوض بمستوى عملنا. والاهم من كل هذا انني كنت آخذ بأي ملحوظة أجدهـا جادة ومخلصة، وأعترف بالقصور أينمـا وجدته، كما حـدث في نـدوة الجمعيـة الطبية عن الخدمـات الصحيـة في عام 1974، ولا أتوانى عن تقديم الاقتراحـات التي من شأنها إضـاءة الطريـق أمام الجهات المسؤولـة. كان العمـل وظل متشعباً في كـل اتجـاه، مـا تعلق مـنه بالجهاز الوظيفـي الذي ألتقـي بأفراده وأتباحـث معهـم في مشاكلهم وأحـوالهم، واطالب بإنصاف المظلومين منهـم، وما تعلـق منـه بنقـد الظواهر السلبية مثـل ظاهرة الواسطـة التي اعتبرتها عاملا مساعداً في تشكيك المواطنين في كفاءة العاملين في جهـاز الدولة، وبعضها يريد منا أصحابها أن نكون أداة لكسر القانون. التفرقة بين الأطباء وأخيراً مـا تعلق منها ببعض ما أطلقت عليه الظاهرة العجيبة الغريبة، وهي التفرقة التي لمستها بين الطبيب الكويتي والعربي، التفرقة الدخيلة على تقاليد الكويت العربية الأصيلة المتوارثة عن آبائنا وأجـدادنا في اعترافها بالخير والجميل والمحبـة. وقد أعلنت صراحة بمناسبـة دورة تدريبيـة للأطـباء في أوائل عام 1976، ان الفروقـات الدخيلة في هذا البلد بين الطبيب وأخيه الطبيب يجب أن تـزول لأن لا فرق بينهما إلا بما يقدمه كل منهما من خير ومحبـة وعناية ورعايـة للمرضى. كنت اجتهد لتقديم الحلول واقتراح سبل تضـع حداً للظواهر السلبية، وإنصـاف العاملين على اختلاف جنسياتهم، لأنني أعتبر هذا مـبدأ انسانياً، فما بالك إذا كان التمييز والظلـم وتقـديم المصالح الشخصية على المصلحة العامة يحـدث في مضمار عمل إنساني مثـل العمـل الطبـي؟ أمين عام في أحد الأيام نقل إلي أحد أقارب د. عبد الرحمن العوضي أن الشيخ سعد رحمه الله حذره مني حين تسلم وزارة الصحة وقال له: «خـذ حـذرك مـن بـرجـس البرجس فهـو الأمين العام للجنـة المركزية للحـزب الشيوعـي في الخليج»! وأنا استبعد أن يكون الشيخ سعد قال هذا الكلام. لا أعرف إن كان الشيخ سعد مازحاً أم جاداً، إلا انني أعرف أن صحيفة باكستانية كتبت شيئا من هذا القبيل، فاتصلت بالسفير الباكستاني وأوضحت له أنني أعمل في مجال الصحة ولست سياسياً، وما زلت أستخدم سيارة من طراز قديم! وفي ظني أن أمثال هذه الأقاويل في تلك الأيام كان يشيعها، ويحرص على إيصالها إلى آذان المسؤولين، أشخاص لا يعجبهم أن تصد وساطتهم غير المحقة لتمرير توظيف مقرب أو إرسال أحدهم لعلاج في الخارج، او تقف في وجه متضرر من تشكيل لجنة مناقصات. ولا شيء أسهل من الاتهام تطلقه أشباح لا تعرف لها وجها ولا مكاناً حريصة على شيء واحد فقط هو أن تزيحك عن منصبك وتحتل مكانك. عام الاستقالة وأصل إلى عام 1976، العام الذي تقدمت فيه باستقالتي. كان الانجاز هو الغاية طيلة مدة عملي، واكتسبت روحية السعي لتحقيق المزيد من الانجازات زخماً مع زيادة المتطلبات، ان على صعيد الحاجة الى تحديث الجهاز الاداري أو على صعيد تأسيس مستشفيات جديدة مثل مستشفى الأمراض السارية الوحيد من نوعه في الشرق الأوسط، أو على صعيد التطور الطبي مثل اجراء أول عملية زرع بطارية ذرية لتنظيم عمل القلب في الكويت، وكانت الأولى في منطقة الشرق الأوسط. لم تكن المتاعب التي تنشأ من حولي: تخلف التشريعات عن ملاحقة متطلبات تأمين استقرار نفسي للعاملين، وتذمر الجهاز الوظيفي المتضخم من متطلبات التدريب واعتماد معايير الكفاءة والحاجة، وما جرى مجرى هذا، تعيق عملي أو تدفع بي الى اليأس من اصلاح الأحوال، ولكن متاعب جديدة بدأت تنشأ مع تعيين د. عبدالرحمن العوضي وزيراً مصدرها الوزير ذاته، لا أي جهة أخرى. وهنا احتاج الأمر مني الى وقفة. في هذا العام سافر الوزير العوضي الى جنيف لحضور مؤتمر الصحة العالمي. ونشر أحد الصحافيين في جريدة «الرأي العام» سلسلة مقالات موضوعها وزارة الصحة ووزيرها، وكانت هذه السلسلة هجوما نقديا عنيفاً. فأرسلت بطلب الصحافي كاتب المقالات وقلت له ان ماكتبته غير صحيح، ودافعت عن العوضي. وحين عاد الوزير من السفر فوجئت به يقول لي: «لماذا لم تتخذ موقفاً حازماً في الدفاع عن وزارة الصحة؟». أجبت: «اتخذت موقفاً ودافعت عن الوزارة، ولم تكن بيدي حيلة، لأن صاحب الرأي العام عبدالعزيز المساعيد رجل ذو نفوذ». لم يقنع جوابي العوضي، وأحس أنني تواطأت مع الصحافي، أو هكذا قيل له، الا أنني أدركت من لهجته وعدم رغبته بالاقتناع أن هناك من يعمل في الخفاء للايقاع بيني وبينه لابعادي عن منصب الوكيل. في تلك الأيام كان معظم اصحاب شركات الأدوية ضدي، لأنني كنت أشدد على تشكيل لجنة للمناقصات تقدم عطاءاتها مختومة، وتناقش العطاءات وترسي المناقصة بحضوري في اللجنة، ولا توجد أي فرصة لتسريب أخبار المناقصة والعروض المقدمة. وبعد فترة أصبح العوضي يتدخل ويتصل بالأطباء بنفسه. اعترضت بالطبع وقلت له أن هذا لا يجوز، فأنا المسؤول عن الجهاز الوظيفي في وزارة الصحة، أما أنت فمركزك سياسي. وأغضبه قولي، وحدث سوء تفاهم بيننا. وامتد سوء التفاهم في الأيام اللاحقة وبدأ يشمل جميع جوانب العمل تقريباً، حتى حين رشحت محمد الحساوي لمنصب وكيل مساعد لم يقبل به لأنني من رشحه. وصار التفاهم بيننا يكاد يكون معدوماً. سافر العوضي، وتولى عمله بالانابة وزير العدل عبدالله المفرج، فقدمت له استقالتي في 12/6/1976 وطلبت منه ارسالها الى ولي العهد آنذاك الشيخ جابر الأحمد. قلت في استقالتي الموجهة الى سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء: «لما كنت أعتبر نفسي مجنداً في خدمة المصلحة العامة لبلدي منذ أكثر من 25 عاماً، ولما كنت أمضيت طيلة تلك السنوات أعمل مع زملائي بروح ايجابية خالصة لا تشوبها أي مسائل شخصية، ولما كنت منذ عام ونصف العام قد حاولت بكل طاقتي أن أتعاون مع زميلي في العمل سعادة وزير الصحة الدكتور عبد الرحمن العوضي، ولما كنت قد وصلت الى قناعة نهائية بأن استمرار تعاوني معه لا يمكنني من متابعة الخدمة العامة بروح خالصة من أي دافع سوى دافع خدمة المصلحة العامة. لذلك كله فأرجو من سموكم أن تفتح لي مجالا آخر أخدم فيه بلدي بنفس الروح المخلصة المتفانية، وأن تأمر بنقلي الى موقع آخر من مواقع الخدمة العامة. لدي ايمان مسبق بأن نظرتكم الثاقبة للأمور سوف تفتح أمامي المجال الذي أريده». أرسل الشيخ بطلبي وسألني عن سبب الاستقالة، فقلت: «بدأت تتولد خلافات في الوزارة، ويمكن ان يكون عبد الرحمن العوضي على صواب وأنا على خطأ. واستقالتي تفسح له المجال لقيادة الوزارة لأنه أكثر كفاءة مني». لم يخف على الشيخ جابر الأحمد أن وراء هذه الحجج ما وراءها، فقال: «هذا كلام غير مقنع!». قلت مواصلا اصراري على الاستقالة: «لم آت لأشكو أحداً، بل لاعفائي من المنصب. أريد عملا حراً يريحني». هنا، وبعد أن لمس جديتي، قال الشيخ جابر: «أريدك عندي في المكتب». وعدت معتذراً: «اطال الله عمرك.. رمضان على الأبواب ولا قدرة لي». قال: «خذ شهرين راحة». ولم يتم تعيين وكيل للوزارة لمدة عام كامل، ثم تم تعيين د. نائل النقيب وكيلا. بعد رمضان أرسل ولي العهد يطلبني. فقلت بصراحة: «لا أستطيع العمل في مكتب ولي العهد». هز رأسه وقال لي: «يبدو عليك الارهاق والتعب!». «نعم، والله انني مرهق جداً ومتعب». ومنحني فرصة أخرى للتفكير قائلا: «لك ثلاثة اشهر اجازة.. لترتاح». |
السدرة ( 11)
قوميون واشتراكيون وفلسطينيون قد يبدو ما سـأرويه الآن تحت هذا العنوان انتقالا إلى موضوع آخر، أو زاوية أخرى في هذه المساحة الخمسينية من الزمن. ولكنه في الحقيقة إضافة لمسة لونية إلى اللوحة نفسها؛ إلى حكاية السدرة ذاتها التي أظلتنا صغارا وكباراً، أعني الكويت، على امتداد مسافة زمنية بدأت مع مطلع الخمسينات بالتجدد والتغير، وما زالت بالطبع، على المحور الشخصي والعام. في هذه المسافة كما قلت كان الحراك الاجتماعي آخذاً بالتباعد عما ألفناه، يتشبع بأجواء سياسية واقتصادية وثقافية جديدة قد تبدو غريبة عما نعيشه الآن. لم تكن الحياة العملية، حياة الوظيفة، منفصلة عن الحياة العامة، وفي هذا تواصل بطريقة أو أخرى مع المألوف قبل ذلك في حياتنا بين بر وسفر وبين حياة قوافل وحياة سفن، إلا أن الجديد كان نشوء مؤسسات جديدة، ترسخت الدوائر الحكومية، أي الوزارات بمفهوم اليوم، من جهة، والنوادي والتجمعات الأهلية من جهة أخرى. ووسط كل هذا تموّجت العلاقات وتداخلت في ظلال السدرة وفي ما حولها. الانفتاح على المحيط لعل أهم ما حملته هذه السنوات هو الانفتاح على المحيط العربي انفتاحا غير مسبوق. صحيح أن العلاقة بالمحيط العربي لم تكن مقطوعة منذ نشأة الكويت على هذه البقعة الجغرافية والشاطيء الجميل لبوابتها على العالم، إلا أنها لم تشهد ما بدأت تشهده الآن من نمو لحركات فكرية وتردد لأصداء آتية من عواصم عربية بزخم أشد وتطلعات أبعد. بدأ يتولانا إحساس أننا نستظل بظل أكبر، وتشغلنا قضايا أوسع، هو هذا الظل القومي أو الإحساس به إحساسا ملموساً. سواء عبر تزايد عدد العاملين معنا من البلدان العربية في دوائر الدولة أو في حركة الشارع وأنشطته، أو عبر تلقي مؤثرات ما يحدث من صراعات ومتغيرات في المحيط العربي من حولنا. لم يكـن كـل هذا مجرد أصداء تأتينا عبر الأثير أو عبـر الاحتكاك بالوافدين، بـل كـان أيضاً تعبيراً عن تطلعات بدأت تنمو في داخلنا في تشابـك كامـل بـين الداخـل والخارج. هـذا قانـون طبيعي، فإذا كنا لسنـا وحدنا في هذا العـالم، فنحـن لسنا وحدنا في عـالمنا الأقرب أيضاً. عايشت هذه المرحلة عن قـرب، معايشـة المشاركة وليس المراقبة فقـط، وفيهـا تشكلـت أوائل عـلاقاتي في محيط عملي وفي محيط الحياة العامـة عـلى حـد سواء. تعرفت على الفكر القومي والفكر الاشتراكي، وعرفت عن قـرب شـخصيات، بعضها نسيـت ملامحه وبعضها مازلت أحمل آثاراً من أقوالـه، وأكاد أبصر مواقفه كأنها حـدثت بالأمس بالكلمة والصـورة. كان مجال المعرفة لدينا آنذاك متصلا مكانيا، بين مكاتب العمل ونشاط الأندية الرياضية والثقافية. وهذه الأخيرة كانت أبرز ما ميز مطلع الخمسينات، فقد بدأت هذه النوادي تنشأ وتتفاوت في اهتماماتها. كان لدينا النادي الأهلي، نادي الكويت حالياً، ومديره عبد الرزاق سلطان أمان. وبسبب تميز نشاطي الرياضي في أيام الدراسة، كان طبيعيا أن أشارك في الأنشطة الرياضية منذ وقت مبكر، ومعي الزملاء، خضير المشعان وخالد الحمد وبهجت أبو الخير وعبدالمحسن الفرحان وعبد الله مقهوي. الرئيس الفخري للنادي كان الشيخ عبد الله المبارك، وشملت أنشطة النـادي الشؤون الرياضية والثقافية والسياسيـة. كانت الأنديـة تعبيراً اجتماعياً قبل أن تتخصص وتتحـول الى الرياضة فقط أو الى الثقافة وحدها أو الى نواد مهنية. عنى النادي بالدرجة الأولى التجمـع، فهو منتـدى بالأحـرى. من هنا لم يكن غريباً أن يدعو النادي في عام 1955، والثورة الناصرية في كامل قوتها، د. محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر، فجاء وألقى ثلاث محاضرات في ثانوية الشويخ، محور الأنشطة العامة آنذاك، تحت عنوان «الحياد.. والحياد الايجابي»، وكلها يتعلق بمؤتمر باندونغ في اندونيسيا الذي أطلقَ في عام 1955 فكرة وكتلة دول عدم الانحياز بين المعسكرين، الاشتراكي والرأسمالي، بمعناها الايجابي وليس السلبي. وكان لهذه المحاضرات أثر كبير في تفتيح الأذهان على ما يحدث في عالمنا، واعتبرنا الدعوة والمحاضرات انجازاً. النادي الثقافي بعد ذلك جاءت نشأة النادي الثقافي القومي الذي سيلعب دوراً كبيراً في توعية المواطن الكويتي بقضاياه وقضايا المحيط العربي الذي هو جزء منه وليس قطعة مفصولة عنه. كان ميدان هذا النادي مزيجا من الثقافي السياسي. ولعب د. أحمد الخطيب الذي عمل معي جنباً الى جنب في المستشفى الأميري، دوراً بارزاً فيه، امتداداً لدوره في النادي الأهلي الرياضي قبل ذلك والذي لم يكن بارزاً. هنا في النادي الثقافي القومي كان له الدور الأكبر على صعيد أنشطة النادي وتوجهاته وعلى صعيد الحركة الوطنية الكويتية عموماً. كانت مجموعة القوميين العـرب قبل أن تسمى «حركة القوميين العرب» التي ينتمي اليهـا د. الخطيب أحد مؤسسيها أكثـر فئات المعارضة تنظيماً، وتمارس نشاطها عبر هـذا النادي من مقره في شرق على شاطئ الخليج العربي. يعقد ندوات أسبوعية، ويصدر صحيفتين، احداهما شهرية اسمها «الايمان»، والأخرى أسبوعية اسمها «صـدى الايمان». واذكر مـن الذين عملوا في النادي، محمـد جلال عناية، وغسان كنفاني كمتطـوعين. كنت عضواً في لجنـة النشر في النادي الى جـانب د. أحمـد الخطيب وعبد الـرزاق الزيـد الخالد وعبـد الوهاب عبـد الغفـور. وبعد صدور عددين من «صدى الايمان» أغلقتها دائرة المطبوعـات والنشـر. في النادي الثقافي القومي بدأت علاقتي حقيقة بحركة القوميين العرب والفلسطينيين خصوصا، وبالحركة السياسية عموماً. لم أكن من القياديين في الحركة ولكنني كنت متعاطفاً معها، وأنشط بحدود امكاناتي وبتوجيهات من د. أحمد الخطيب. كنت اكتب أخباراً صغيرة في مجلتي «الطليعة» و«الفجر»، وأذهب الى مطبعة مقهوي حيث تطبع الصحيفتان، وهناك أقوم بكتابة وتقديم مادتي الخبرية. في تلك الأيام شاركت في الكتابة في أجواء مقاومة مشروع الدفاع المشترك الأميركي وحلف بغداد في عام 1955. كانت تردني منشورات توزعها احدى الشخصيات المعروفة في لبنان تناصر حلف بغـداد، وهي شخصية خطيـب محترف التقيت به مرتين في الكويت، ولا يحضرنـي اسمه، الا أنني اتذكر أنـه كان من جماعة السياسي اللبناني صائب سلام ومن خريجي جامعة الأزهر. ونتيجـة اطلاعي على هذه المنشـورات كتبـت رداً أنتقـد فيـه دفاع هذه الشخصية عن حلف بغداد، ونشرتـه في صحيفة «الأحد» لصاحبها رياض طه، فأرسل لي المدافع عن حلف بغداد ما يشبه الانذار بأن أتوقف عن الكتابة ويهددني بالكتابـة عني في صحـف بـيروت، فتوقفت. مع الخطيب والقطامي علاقتي بالخطيب وجاسم القطامي هي التي قربتني من القوميين العرب. أما على صعيد الفكر الاشتراكي فقد جاء تأثيره علي من علاقتي بصيدلي فلسطيني ذي توجه اشتراكي هو كمال أمين، وآخر هو صبحي الخوري. واعتاد الاثنان جلب خطابات خالد بكداش، وكنت استمتع بقراءتها. في كل هذه الأنشطة كنت مشاركاً جانبياً، لا قائداً ولا زعيماً. أحضر الندوات والمحاضرات في النادي الثقافي. واستمع الى أحاديث قيمة وتوعية قومية تشبعت بها من د. الخطيب أيضاً خلال عملنا في المستشفى، وودت أن يتبلور هذا الوعي نحو الأفضل. من جانبي ترجمت هذا الوعي عملياً بتعاطفي مع الفلسطينيين خاصة والعرب عامة. التعليم والفلسطينيون يرجع الحضور الفلسطيني في الكويت في مجال التعليم الى ثلاثينات القرن العشرين، ثم ومع أخبار نكبة عام 1948 التي كانت تصلنا ولو بشكل محدود عبر الراديو، بدأ هذا الحضور يتخذ طابعاً أوسع من مجرد الحضور البشري، ويتجاوزه الى الحضور السياسي حين بدأت أعداد اخواننا الفلسطينيين بالتزايد بعد النكبة مباشرة، تزايدت أعداد الأطباء والمهندسين والمعلمين منهم، بالاضافة الى اليد العاملة. وأذكر أنه مع عام 1954 بدأت تصل إلينا أيد عاملة فلسطينية من الضفة الغربية عن طريق بغداد فالبصرة بواسطة الشاحنات والقطارات، ثم مشياً على الأقدام إلى الكويت. وكنت آنذاك مسؤولا عن التعيينات في المستشفى الأميري، وقمت بالاهتمام بالوافدين عبر الصحراء وإسكانهم في الجيوان G1 وإرسال الطعام إليهم من المستشفى. وعرفت الكويت شخصيات فلسطينية في الخمسينات سيكون لها دور سياسي بارز في السنوات اللاحقة مثل ياسر عرفات، الذي عمل مهندساً في وزارة الأشغال مع أبو جهاد الذي جاء إلى الكويت في عام 1957، ولحق بهما فاروق القدومي (أبو اللطف) الذي عمل في وزارة الصحة، وأبو إياد (صلاح خلف) المدرس الذي بدأ ينظم اجتماعات سرية في عام 1959 لتأسيس منظمة فتح وإعلان وثيقة التأسيس. {صوت العرب} استمرت علاقتي بالقوميين العرب عبر ندوات واجتماعات ونشاطات متواصلة تعقد دائماً داخل الكويت أو خارجها. كان هناك قوميون عرب في البحرين لهم علاقات مع نظرائهم في الكويت، تترجم أحيانا بلجوء بعضهم إلى الكويت كلما تأزمت أمورهم، كما حدث مع جاسم بو حجي الذي أخرجوه من البحرين إثر اندلاع التظاهرات هناك في عام 1956، فجاء إلى الكويت ووجد فيها ملاذاً. كانت قاعدة القوميين العرب الشعبية واسعة، رغم قلة عددهم، فقد كان لديهم تركيز والتزام. قبل قيام الثورة المصرية لم أكن مع القوميين العرب، إلا أن ظهور جمال عبدالناصر وذهاب الملكية غيّر أشياء كثيرة في المحيط العربي، بما في ذلك في الكويت. هنا تعاطفت الكويت كلها مع مصر ولقيت الثورة تأييداً. وكنا نستمع دائماً إلى إذاعة صوت العرب. واذكر أنه بعد عام على الثورة كانت لقيادة مجلس الثورة المصرية اتصالات بالعالم العربي، وأحد المدعوين إلى الكويت للتعريف بالثورة كان أنور السادات، فجاء إلى الكويت وزارنا في المستشفى الأميري، والتقيت به كما التقى به رئيس الأطباء د.ايرك بيري، وكانت المرة الأولى التي التقي به شخصياً. كان وسيما أسمر يتحدث عن الثورة وأهدافها وشخصية جمال عبدالناصر بلهجة متفائلة، والسادات ذاته هو من كتب بعد ذلك كتاباً عنوانه عبارة يخاطب فيها ولده «هذا عمك جمال»! في هذه الفترة نفسها قرأت الكتب التي لها صلة بالمفهوم القومي. مثلا كلفت بقراءة كتاب «الاتحاد» وهو مجموعة مقالات لنقولا زيادة وكامل مروة وقسطنطين زريق الذين كانوا رواد المسيرة القومية، وكنت أتأثر بكتاباتهم. العدوان الثلاثي في هذه الفترة وقعت أحداث كان لها تأثير كبير على حياة العالم العربي من حولنا وعلى حياتنا تبعاً لذلك، وبخاصة مع نمو الشعور القومي، والإحساس العارم تحت تأثير مصر الناصرية أن العرب يواجهون مصيراً مشتركا. وخلق هذا أرضية لتحركات شعبية في أكثر من بلد عربي، ولم تكن الكويت استثناء. عـلى رأس هـذه الأحـداث الكبـرى كان العـدوان الثلاثي العسكـري عـلى مصر، عـدوان التحالف الإسرائيـلي- البريطاني - الفرنسـي في عام 1956. أشعل غضباً عارمـاً على الإنكليز واحـدث انتفاضة في الكويت تمثلـت بالمظاهرات المؤيـدة لمصر والمناوئة للسياسة الإنكليزية. وقـام النادي الثقافي القومي الذي يقوده د. الخطيب بدور بـارز يجب أن أسجل أنه أنعش الحركة الوطنيـة. فنشط في تعبئة المواطنـين والمقيمـين العرب عبر «لجنة الأندية الكويتية» ونداءاتها للقيام بالمظاهرات. وفي وقتها أرسل د. الخطيب رسالة إلى إذاعة صوت العرب يستنكر فيها العدوان الثلاثي ويعلن عن قيام مظاهرات شعبية، فشعرت بالخوف عليه لأنه لم يكن لدينا آنذاك قانون ودستور. تظاهرات فريدة وشهدت أيام تلك التظاهرات حدثاً فريداً من نوعه، ربما في المنطقة العربية كلها، لم يعد يتكرر مع الأسف، وهو ان أوامر صدرت آنذاك لمدير دائرة الشرطة جاسم القطامي بقمع التظاهرات وإخمادها، فرفض تنفيذ هذه الأوامر، وقدم استقالته من وظيفته، وقال واجبه ووظيفته هما خدمة الشعب وليس قمعه أو ضربه، وأن الشعب لم يرتكب جريمة بالتظاهر بل كان يعبر عن مشاعره القومية وتضامنه مع شعب مصر الشقيق. لم تكن الحكومة معتادة على تجمهر وتظاهرات من هذا النوع، فأمثال هذه التجمعات لم تكن موجودة في الكويت. ومع تواصل التظاهرات أرسل الشيخ عبد الله السالم بطلب مديري النوادي، مثل نادي المعلمين والنادي الأهلي والنادي الثقافي. كان رئيس النادي الأهلي يومها المرحوم محمـد الخالد ولم يحضر، فكلفـت بالحضور نيابـة عنه عن النادي الأهلي، وحضر عن نـادي الخريجـين خالد الخـرافي، وعن نـادي المعارف محمد الحربش وعبـد العـزيز حسين. استقبلنا الشيخ عبد الله السالم في مكتبه، وسلمنا عليـه ودار هـذا الحـوار: عبد الله السالم: ماذا تريدون من حركاتكم هذه؟. خالد الخرافي: والله نحن يا طويل العمر لا نستطيع أن نسكت ونقف مكتوفي الأيدي والشقيقة الكبرى مصر تضربها ثلاث دول، فرنسا وبريطانيا واسرائيل.. يجب أن يكون لنا دور. عبد الله السالم: ماذا تريدنا أن نعمل؟ خالد الخرافي: يجب أن يكون لنا دور. عندها نهض الشيخ عن كرسيه وأدار وجهه بمواجهة البحر وقال: لو جاءت منور (أي المدمرة الحربية) ووجهت مدافعها إلى الكويت، ماذا نفعل؟ هذا كلام غير مقبول، خلي العراق يكون له دور، فهو أكبر منا مساحة وإمكانات أكثر بكثير. إنما أنتم إذا أردتم مصلحة الشعب فاتجهوا إلى التجار في السوق واطلبوا منهم أن يحافظوا على اسعار المواد الغذائية، وألا يرفعوا الأسعار. هذه هي الفائدة. ماذا نستطيع أن نفعل لمصر؟ نحن عددنا محدود وإمكاناتنا محدودة، فرجاءً اغلقوا هذا الموضوع. في ثانوية الشويخ الحدث الكبير الثاني الذي كان علامة من علامات سنوات الخمسينات ونهضتها القومية كان التجمع الشعبي الذي أقيم على ملعب ثانوية الشويخ الرياضي بمناسبة الذكرى الأولى لقيام الجمهورية العربية المتحدة في فبراير 1959. وظل هذا التجمع، وما تخلله من خطابات وكلمات وما تلاه من إجراءات، علامة بارزة لا تنسى في تاريخ الكويت المعاصر. شارك النادي الثقافي القومي في هذا التجمع عبر «اتحاد الأندية الكويتية»، وحضرته جماهير غفيرة من المواطنين والوافدين العرب. وفي هذا التجمع ألقى كل من د. أحمد الخطيب وجاسم القطامي خطابين انتقدا فيهما الحكومة، وطالبا بأن تدخل في مفاوضات مع قيادة الجمهورية العربية المتحدة. كان جاسم القطامي يوم ذاك مديراً لشركة السينما بعد استقالته الشهيـرة مـن دائـرة الشرطة، وذهبت إليـه مع خالـد الحمـد في السوق القـديم لأقنعه بإلقاء كلمة بالمناسبـة، فقـال لا أريـد.. أريد ترخيصـاً من الحكومة أولا بإقـامة الاحتفال في ذكرى الوحـدة، ولا أريد أن أتورط. للحصول على ترخيص كان يجب أن نذهب إلى عبد الله المبارك رئيس دائرة الأمن العام في قصره، وذهبت أنا والأخ خالد الحمد ووجدنا عنده هاني القدومي مدير الجوازات، وطلبنا الترخيص بإقامة الاحتفال في اليوم التالي. السؤال الوحيد الذي وجَّهه إلينا هو: «هل يوجد أي شيء؟ هل هناك خرابيط؟» قلنا : «لا شيء.. أردنا فقط إذنا منك» وحصلنا على الترخيص. وبدأت الاستعدادات وتوجيه الدعوات للتجمع في جو كان فيه الشعب متشجعا جداً لحضور هكذا احتفالات، ومتعاطفاً مع مصر وعبد الناصر بخاصة ومع دعوات الوحدة والقومية العربية. بين الحاضرين في ذلك اليوم كان عبد الله الجابر وأحمد سعيد من إذاعة صوت العرب وجمهور غفير. وجاء القطامي وألقى خطابا حماسياً مؤثراً، تأييداً للوحدة العربية ونقداً للحكم العشائري ومطالبة بالديموقراطية ودور الشعب، وجاء في خطابه مطلبٌ ذو دلالة مهمة في وقت لم تكن فيه الكويت قد استقلت بعد، أو فكر فيه أحد بالحكم الديموقراطي والدستور: « آن الآوان لحكم شعبي ديموقراطي يكون فيه للشعب دستوره ووزراؤه». بعد هذا الخطاب والكلمات الأخرى خرج جمهور الاحتفال في تظاهرة كبيرة وحصلت صدامات. وأثارت الخطابات، وخطاب القطامي بالذات، غضب عبد الله المبارك واستدعى القطامي والخطيب. وحدثت ردة فعل قوية لدى الأجهزة الأمنية سحبت نتيجتها جوازات سفر المحسوبين على حركة القوميين العرب. وتم إغلاق جميع النوادي الرياضية والثقافية بناء على إعلان صادر عن دائرة الشؤون الاجتماعية في 8/2/1959. وأمر رئيس الدائرة بتشكيل لجنة خاصة لتصفية موجودات وممتلكات الأندية والهيئات وتحويل جميع حساباتها إلى دائرة الشؤون الاجتماعية. كما ألغيت أيضاً امتيازات جميع الصحف والمجلات الصادرة عن الأندية الثقافية، ومنها جريدة «الفجر» الصادرة عن جمعية الخريجين، و«الشعب»، جريدة أحمد العامر الذي مازال حياً يرزق لكنه لا يختلط بالناس، وهي نفسها الجريدة التي باع امتيازها وأصبح اسمها «الوطن» التي نعرفها حالياً. ولم تتوقف الإجراءات عند هذا الحد، بل مضت دائرة الأمن العام إلى اعتقال منظمي الاحتفال الشعبي، وعلى رأسهم قياديو النادي الثقافي القومي. ووجه حاكم الكويت الشيخ عبد الله السالم بياناً إلى الشعب يشرح فيه الأسباب التي أدت إلى القيام بهذه الإجراءات، ومن هذه الأسباب الإساءة إلى العلاقات بين الكويت وأصدقائها من العرب، وعدم المحافظة على المصلحة العامة. مصادرة الحريات بهذا الأسلوب، إغلاق الأندية وإلغاء امتيازات الصحف المعبرة عن هيئات شعبية، تواصلت حتى إعلان استقلال الكويت في 19 يونيو 1961. ومع الاستقلال عادت جميع الأندية الثقافية وفتحت أبوابها وعادت الصحف إلى الصدور، وصدرت صحف جديدة، وتحول اسم النادي الثقافي القومي إلى «نادي الاستقلال الثقافي». وهو النادي نفسه الذي ستعود دائرة الشؤون الإجتماعية بعد أن أصبحت وزارة إلى إغلاقه وتصفية موجوداته وأمواله في أواخر سبعينات القرن الماضي. |
السدرة (12)
نقلت رسائل الطبقجلي ورفعت الحاج سري وعبدالعزيز شهاب بعد إعدامهم في عام 1961ايضا، كنت حينها في المستشفى الأميري، وقعت محاولة اغتيال الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد. وكان هناك ضباط قوميون في الجيش العراقي ضده من أمثال ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري وعبد العزيز شهاب. وفي شهر مارس أعلن العقيد عبد الوهاب الشواف الثورة على حكم عبد الكريم قاسم من الموصل، فرد على هذه الثورة بالقوة. كان قائد الحركة ناظم الطبقجلي لكنه لم يوفق، وقتل الشواف في مقر قيادته في الموصل، واعتقل الطبقجلي وعبد العزيز شهاب وقدموا للمحاكمة سراً، وليس علناً كما كان يجري الأمر في محكمة نشأت مع قيام ثورة تموز 1958 وسميت محكمة الشعب، وترأسها ابن أخت عبد الكريم قاسم العقيد فاضل المهداوي لمحاكمة مسؤولي النظام الملكي. وحكم على قادة ثورة الشواف الثلاثة وعلى مجموعة كبيرة أخرى بالإعدام. فاتصل بي جاسم القطامي وقال لي: «أريدك.. ضروري جداً». ذهبت إلى بيته، فبادرني بالقول: «لدي ثلاث رسائل كانت مبلولة ووضعتها في الشمس لتجف. هذه الرسائل من ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري وعبد العزيز شهاب، وتحمل وصاياهم قبل إعدامهم إلى أولادهم وإلى الأمة العربية، تحث على اعتناق مبدأ القومية العربية والوحدة العربية». وسألني: «كيف نوصلها إلى الشام؟ هل تستطيع الذهاب بها إلى الشام؟» قلت: «اعطني الرسائل، وسأخبر أهلي أنني ذاهب إلى البر». أخذت الوصايا وحملت جواز سفري واتجهت إلى المطار، وهناك صادفت صديقا اسمه أنور الهنيدي في طريقه إلى الشام، فطلبت منه توصيل الأوراق في هذه الليلة، فوافق بلا تردد. اعطيته المغلف ورقم الهاتف الذي يجب أن يتصل به حين يصل. لم أقل له ما هي هذه الأوراق، لم أقل سوى أنها أوراق لتسجيل طلبة في الجامعة. في الليلة نفسها أوصل الصديق الأوراق إلى هاني الهندي، فسلمها إلى عبد الحميد السراج، وحولها هذا إلى المسجد الأموي لتقرأ هناك، واتصل بالقاهرة وأرسل نسخا منها لتقرأ في مسجد الحسين. على منبر الجمعة وجلسنا في انتظار الاستماع إلى إذاعتي دمشق والقاهرة، وإذا بخطيب الجمعة في كلا المسجدين يتلو الوصايا. كانت عملية سريعة. وأحدثت قراءة وصايا قوميين في طريقهم إلى الإعدام اثراً واسعاً في العالم العربي. كانت مناشدة مؤثرة من رجال قوميين مؤمنين بوحدة أمتهم ومصيرها الواحد ضد دكتاتور بطش بالشعب العراقي اسمه عبد الكريم قاسم. كانـت للقوميـين علاقات واسعـة ومتينـة على صعيد قـومي، وكانت لهم مراكز حساسـة. وأذكر أن خبر أول اغتيال سياسي يقع عـلى أرض الكويـت، وصلني قبل أيام قليلة من وقـوعه عن طريق أحد القوميين في سـوريا من الذين عملوا في رئاسة الجمهورية عند عبد الناصر التقيت بـه. فذكر لي أن حردان التكريتي سيقتل خـلال أيام. وبعد أقل من أسبوع شهدت إحـدى ردهات المستشفى الأميري عملية اغتياله في صباح يوم 13/3/1971، وعلى مسافـة قريبة من السفارة الأميركية. مع الفلسطينيين لم تكـن علاقتـي بالفلسطينيـين عـلاقة تبعيـة عمياء، كنت أتعـاطـف معهـم وأقـدر خدماتهم لنا في الكويت، ولكنني حافظت على موقف نقـدي كان ضروريـاً لمصلحة الشعـب الفلسطيني ذاته، وبخـاصة تجاه الظواهر السلبية التي اعتـرت العمل السياسي الفلسطيني منذ ان بدأ الكفاح المسلح. لقد تسنت لي معرفة الشخصيات الفلسطينية المؤثرة منذ البداية، فهم كما قلت عاشوا وعملوا هنا، وكان بعضهم قريباً في وزارة الصحة وبعضهم سألتقي به في سياق مسؤولياتي في وكالة الأنباء الكويتية ثم الهلال الأحمر الكويتي. أبدأ بأبو عمار الذي كان في عام 1970 قد أصبح رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، أحد معارفه عمل سكرتيراً في وزارة الصحة هو فريد أبو بكر، رحمه الله، أحد مؤسسي فتح، وعن طريقه التقيت بأبو عمار حين جاء الى الكويت ذات يوم. كنت أتابع القضية الفلسطينية. ومن خلال متابعتي لاحظت بعض التحركات في الأردن. وفي ضوء معلومات تكونت لدي تشير الى أن الوضع في الأردن غير مستقر، وأن هناك استفزازات ترتكبها المنظمات الفلسطينية ضد الأردنيين، والملك حسين بخاصة، ارتأيت ان أقوم باتصالات لتجنيب الأخوة الفلسطينيين أي كوارث محتملة. لقاء ابو عمار وما أن جاءت فرصة وجود أبو عمار في الكويت حتى أبديت رغبتي بلقائه، وذهبت مع فريد أبو بكر الى مكان اقامته في السالمية. كان هذا هو اللقاء الأول، ولم أتردد في تحذيره. قلت له: «سوف تكون هجمة عليكم في الأردن. أنتم تتدخلون في شؤون أردنية، ومن الواجب أن تتجنبوا الاحتكاك بالأردنيين» ضحك أبو عمار، وقال بصوت الواثق : «لاتخف علينا، نحن قوة ضاربة، ولدينا قيادات تستطيع فعل أشياء كثيرة» قلت : «سيعتدون عليكم» فقال بلهجة معتدا بنفسه: «لا اطمئن.. أنا اعرف هذه الأمور أكثر منك» أمام مثل هذه الردود، لم أجد ما أقول سوى: «وفقكم الله» اللقاء الثاني جاء خلال محاضرة في مدرسة الشعب الثانوية، وأمام حضور كبير، تحدث فيها أبو عمار عن دور منظمة التحرير الفلسطينية. وعندما انتهى طلبت الكلمة، وكررت تحذيري، وهذ المرة حول الظهور الاعلامي المبالغ فيه: «يا أخ أبو عمار.. أريد أن اقول كلمة؛ أنت الآن رئيس تنظيم ثوري، ولكنك تتنقل من مكان الى مكان، ومن قصر الى آخر، ومن طيارة الى طيارة، هذه ليست مواصفات قائد ثوري مثل «الجنرال جياب». في فيتنام لم تظهر صورة له خلال الحرب على الفرنسيين، وحين سألوه ماذا يضايقك؟ أجاب «القردة والفئران، لقد أكلت كتبي»! لم ير أحد صورة له، وأنت تظهر في كل وسائل الاعلام مع أنك مستهدف أنت وجماعتك». وأيضاً ضحك أبو عمار، ورفع من سقف ثقته بنفسه: «أريد أن أطمئنك.. ورائي ثلاثة صفوف لا يظهر أشخاصها». أخطاء وتجاوزات هذه الاجابات وأمثالها شعرت أنها تحمل استخفافاً بـأي متحدث او محـذر أو حتى بمن لديه معلومات، وبدل أن تطمئنني زادت من قلقي على مصير الثورة الفلسطينية وهي تكاد تتحول الى ظاهرة اعلامية لفظية تخفي تحتها سيولا من الأخطاء والتجاوزات، والأهم أنها ترفض النقد حتى وان جاء من حريصين عليها. وتساءلت هل هناك شيء لا أفهمه وراء هذا الاستهتار في تناول قضايا بمثل هذه الخطورة؟ ولم يطل الزمن حتى كدت أقترب من الجواب. حدث هذا في لقـاء لي بأبو عمار بصفتي الاعلامية وكمسؤول عن الوكالة «كونـا» بعد أحـداث أيلـول الأسود الدامية بسنوات. رأيته في قصر دسمان، فذهبت لأسلم عليه، واذكر أن قضية ما كانت مثارة في ذلك الوقت لم أعد أتذكر ما هي تحديداً. أردت ان أنصحـه، فلم يعد لأي تحذير من معنى بعد ما سمعته يواجـه التحذيرات بالضحك وبعبارات طمأنة يثبت بعد ذلك أنها لا تقوم على أساس، قلت بلهجة الخبير العارف: «أنت لا تعمل كما يجب. كل الذين حولك لا يقولون لك سوى أنك تسير في المسار الصحيح ولا أحد يعارضك» وتجاهل أبو عمار جوهر ما قلت أو تغابى بالأحرى، ورد بقصة لاعلاقة لها باتهام صريح وجهته له: «اتصلت بي امرأة لتخبرني أن بيتها دمر، فأمرت باعادة بنائه»! قلت: «هذا لا شيء.. يفترض أن تخفي نفسك وتعمل» كنت أتحدث من منطلق تجربة كل حركات التحرير في العالم، ولكن بدا لي انني كنت أمام شيء مختلف نهجاً وغاية وأنا أسمعه يرد: «لا.. من الضروري أن نشهر فلسطين». وأصررت: «الثورية ليست بحمل السلاح ولكنها أسلوب عمل». فقال بفظاظة: «شكراً.. ومع السلامة». بهذه العقلية في الحوار، وفي طريقة إنهائه بأسلوب مهين، شعرت أن الرجل غارق في ذاته إلى درجة مخيفة. هو لا يجادل بقدر ما يتهرب ويراوغ، ولا يتلقى بقدر ما يهوى إصدار الأوامر حتى أوامر فرض طمأنينة لا محل لها في خضم كوارث بدأت تلم بالثورة الفلسطينية. في السنوات اللاحقة أعطاني أبو عمار شهادة تكريم تسلمها ابني محمد بالنيابة عني في عام 1987. وحتى الآن لا أدري على أي شيء كان التكريم، اللهم إلا إذا كانت الغاية منها أن أكف عن التفكير بالقضية الفلسطينية محذراً أو ناصحاً، أو أتوقف عن إزعاجه بملاحظاتي أو أخبار وكالة «كونا» المستقلة وتحليلاتها بعد أن بدأنا نرى السفينة الفلسطينية ترتطم بصخور القاع أو تلقيها الرياح في مسارات غامضة وقبطانها مشغول بمشروعات غامضة لا أحد يعرفها أو يرسمها سواه. أبو إياد والسوفيت عرفت أيضاً أبو إياد، عن طريق فريد أبو بكر، حين طلب مني هذا الأخير إن كان بإمكاني ترتيب لقاء بينه وبين مسؤول في السفارة السوفييتية في الكويت لأنه بحاجة إلى المساعدة. ومن دون أن أسأل عن طبيعة هذه المساعدة التي يطلبها أبو إياد رتبت اللقاء. كنت على معرفة بجراح عظام اسمه تريبنكوف يسكن في مساكن الأطباء في الشويخ، واعتدت حين أزوره على رؤية أحد الدبلوماسيين من السفارة عنده. فطلبت منه ان يأتي إلى مكتب والدي بجوار فندق الشيراتون لأن صلاح خلف يريد أن يلتقي به. اجتمعنا سوية. ودارت أحاديث متنوعة كان جوهرها طلب الأسلحة. سأله الدبلوماسي مباشرة: «كم عدد الفدائيين الذين يتدربون في الكويت؟». رد صلاح خلف: «اولا، لا يوجد فدائيون في الكويـت، وثانياً، حتى لو كان لهـم وجـود فلن أجيبك عن هذا السـؤال». وأضاف: «انا سأسألك بصفتـك من السفـارة السوفيتية. أنـا أطلب مساعدتك.. أريد ان تمدونا بالسلاح». أومأ الدبلوماسي: «أنا موافق». خرجنا بعد هذا اللقاء القصير، ثم تواصلت الاتصالات بين أبو اياد وبين السوفيت. وسمعت لاحقاً أن الروس أمدوهم بالسلاح عن طريق بولندا. في آخر لقاء لي بأبو اياد، وكان في أواخر الثمانينات، قلت له: «أود ان أحدثك بموضوع سبق وأن حدثت به فاروق القدومي ولم يصغ الي». حكومة ثانية وبسطت الموضوع: «لا تعتبروا أنفسكم في الكويت حكومة ثانية. أنتم ضائعون. أنظر ماذا حدث لكم في الأردن ولبنان وسوريا عندما ضربوا المخيمات. أنتم الآن وضعكم حساس، ويفترض ألا تتدخلوا في شؤون الغير. لقد قبلنا بوجود هلالين، هلال أحمر فلسطيني بجوار هلال أحمر كويتي، وأنا ساعدتكم، ولكن لن نقبل بحكومتين وتدخلات في أمور سياسية وأمنية. أن يلقى مثلا القبض على فلسطيني جراء قضية، فتتدخلون وتخرجونه من المخفر. هذا لا يجوز». من يتذكر تلك الأيام يعرف أنني كنت في حديثي أضع يدي على ظاهرة غريبة رافقت العمل الفلسطيني الرسمي؛ استغلال العاطفة الشائعة تجاه القضية الفلسطينية ومكانتها في النفوس استغلالا خاطئاً، ستقود في النهاية الى تشويه صورة فلسطين في المحيط الشعبي العربي قبل المحيط الرسمي. وأتساءل الآن في ضوء مجريات الأحداث اللاحقة: هل كان ما يجري عفويا أم كان أمراً مخططاً له؟ كان رد أبو اياد: «كلامـك صحيـح، ونحن نشكر لك كل ما تفضلت به، وسـوف أتـابع الموضـوع بنفسـي». ثـم فاتـح عـوني بطـاش مدير مكتب فتح في الكويـت، وطلب منه أن لا يتدخلوا في الشـؤون الداخلية. لم أكن أتردد في قول ملاحظاتي، أو ابداء رأي أو اقتراح فكرة، حين التقي بأحد ممن كانوا في نظـرنا رجال ثورة نعتبرها جزءا من حركة تحرير عربيـة واسعة. بل وكنت أشعر بالسعادة حين ألتقي بأحـدهم كما حدث حين طلب أحمد جبريل بوساطة أحد الأصدقـاء لقائي. لم أكن على معرفـة به، ولكنني رحبت باللقاء. وجاء الي مع ثلاثة أشخاص من مباحث الكويت كحرس له. قلـت منذ البداية: «لن أتحدث بحضور مخـابرات» فطلب من مرافقيه الخروج. وبدأنا نتحدث. وكان مما قلته له: «أريـد أن أعرف رأيـك بصفتك رئيس الجبهـة الشعبيـة، القيادة العامـة، ولك مركزك الثـوري والتنظيمي والنفوذ في سوريا، لماذا لا تدعون الى مؤتمر قمـة عربي يعقد في أحد مخيمات اللاجئين؟» فكر جبريل قليلا ثم قال: «هذه فكرة جيدة، ولكنهم لن يوافقوا» قلت: «حتى لو لم يوافقوا، سوف تستفيدون من هذه الدعوة اعلاميا» «ان شاء الله.. خير» كان هذا آخر عهدي به، وخرج ولم أره بعدها. أوائل الستينات في أوائل الستينات عرفت شخصيات فلسطينية أخرى، وفي مناسبات وظروف مختلفة، وأبرزها حين بدأ ترحيل من له نشاط بعثي في الكويت، مثل فاروق القدومي الذي أبعد بسبب بعثيته وليس بسبب أنه من فتح كما قال بعد ذلك. ومنهم طبيب العيون من غزة المرحوم د. زهير عواد. كان يسكن في الشويخ، وتربطني به صداقة، وكذلك أخوه الصيدلي ماجد عواد. وهذا الأخير رحمه الله كان سليط اللسان ينتقد الحكومة والكويتيين، فقرروا ابعاده. وعندما علم أنهم سيأتون لأخذه من منزله الى وزارة الداخلية، طمأنته وقلت ألا يخشى شيئا، وأخفيته في منزلي، وقلت له أنني سأتولى الموضوع. اتصلت بوزير الداخلية، وقلت له انه طبيب في وزارة الصحة، ولايجوز أن تأخذوه الى الداخلية، فنصحني بالاتصال بعبد اللطيف الثويني وكان وكيل الداخلية. اتصلت به ورويت له القصة كاملة، وأن الطبيب موجود في منزلي، ولايجوز أن يسحب من قبل المباحث لأن هذا أمر غير طيب ويسيء الى سمعة الكويت. فقال الثويني: «وأنت ما دخلك بالموضوع؟» قلت: «عمل معي في وزارة الصحة، وهو صديقي، ولن أقبل بإهانته» «هل أنت مستعد لتوصيله إلى المطار؟» أبديت استعدادي بالطبع: «نعم.. في أي وقت» «غداً إذن.. على طائرة بعد الظهر» «ألن يأتينا أحد؟» «لا.. اطمئن» وعاد زهير عواد إلى بيته ليستعد للسفر. في مابعد، وقبل عام 1967، تحدث بعض الفلسطينيين في الإذاعة كما أخبرني د. الغلاييني، وكان منهم زهير عواد الذي روى قصة إبعاده كاملة، وأشاد بي ذاكراً أن لي علاقة قوية بالفلسطينيين، ويجب تقدير مواقفي. قصة الدبلوماسي السوفيتي لم تتوقف عنـد اللقاء الذي رتبته بينه وبين أبو إياد. عادت هـذه القصة إلى الضوء مـرة أخـرى، ولكن مع حادث مثير هذه المرة لم تنشر عنه الصحافة الكويتية شيئاً، ولا أحد عرف طرفاً منها. ذات ليلة، ومن بيـتـه، اتصل بي الطبيب تريبنكوف الـذي كان يتردد عليه الدبلوماسي ذاك، وقال : «أريد مقابلتك اليوم.. في هـذه الليلة.. ضروري جداً» وذهبت إليه، فوجدت الدبلوماسي عنده، وما أن دخلت حتى بادرني بطلب مساعدتي في معرفة مصير موظف لديهم في السفارة: «لدينا موظف اسمه زاخاروف، خرج ولم يعـد، ولانعـرف عنـه شيئا»ً. فنصحته أن يذهب إلى وزارة الداخلية ويسأل عنه، لأنني لا أستطيع مساعدته في هذا الموضـوع. وتوقف حديث تلك الليلة عند هذا الحد، إلا أنني عرفت بعد شهر حين التقيت بالطبيب تريبنكوف القصة كاملة. وهذه هي روايته: كـان زاخاروف يعمـل عنـدنا في السفارة مسـؤولا عن الأمن، واتضح لدينـا أن المخابرات الاميركية جندته. وعنـدما اكتشفت هذه المخـابرات أننـا كشفناه، نبهته بطريقـة مسرحيـة؛ إذ رأى وهو خارج من السفارة سيارة فولكسفاغن تظهر وراء زجاجها الخلفي مزهرية، فهـذا بمثابة تحـذير له أن أمره انكشف وعليه أن يهرب. وحين خرج وشاهد التحـذير، عاد إلى السفارة وأخذ بعض الوثـائق وجواز سفره، ثم أخرجوه من الكويت. إلى أين؟ لا أحد يعلم. وترك زاخاروف زوجته وابنته في الكويت، وتم ترحيلهما بعد ذلـك. وبعد مرور شـهر على هذا الحـادث نشرت صحيفة لوفيغارو الفرنسية خبر هـروب زاخاروف من السفارة السوفيتيـة في الكويت إلى اميركا. |
السدرة (13)
جابر الأحمد عرض عليَّ إدارة مكتبه.. وجابر العلي تأسيس «كونا» بعد استقالتي من وزارة الصحة منحني الشيخ جابر الأحمد ولي العهد آنذاك ثلاثة أشهر للراحة والتفكير بعد أن اعتذرت عن قبول العمل في مكتبه. ولكن هذه الأشهر الثلاثة كانت بمنزلة وقت أصبحت فيه سجين عرضين. فمن جهة هناك عرض العمل في مكتب ولي العهد، ومن جهة ثانية هناك العرض الذي طرحه عليّ الشيخ جابر العلي وزير الإعلام بأن أتولى تأسيس وكالة الأنباء الكويتية (كونا). سـبق أن عرضت فكــــرة الوكالـة على مجلس الأمة فرفضها، إلا انها لم تغادر ذهن الشيخ جابر العلي. فما ان تم حل مجلس الأمة في عام 1976 حتى عاد إليها، واستدعاني إلى مكتبـه وقـال لي: «أريدك أن تستلم وكالة الأنباء الكويتية. الفكرة ما زالت قائمة، ومجلس الأمة رفضها، والآن أريدك أن تعمل على هذا الموضوع والمجلس غائب». قلت فوراً: «هذا ليس مجال عملي». فأصر على تسليمي مسؤولية تأسيس الوكالة: «فكر بالأمر ملياً». تأسيس «كونا» مرت بضعة أيام، ولم أجد في ذهني سوى ما قلت منذ البداية. لا جواب لدي. وظل الحال هكذا إلى أن أرسل ولي العهد في طلبي للمرة الثانية، وهذه المرة ليس للعمل في مكتبه بل لتأسيس وكالة الأنباء. ومرة أخرى قلت هذا ليس مجال عملي، ولا خبرة لدي في هذا المجال، واضفت: أخشى أن أفشل وأكون سبباً في تضييع الوقت. استمع إليّ ولي العهد وأنا أقدم حججي وأعذاري، ثم قال بهدوء: «أريدك أنت بالتحديد.. وإذا فشلت فسأكون أنا المسؤول». وتساءل محرضاً: «ألا تستطيع القيام بواجبك الوطني؟». هنا أحسست أن كل أعذاري تطايرت، ولم أجد ما أقول سوى: «والله أنا مستعد!». «إذن.. اقبل بتأسيس الوكالة». جاء هذا الطلب الشبيه بالأمر استنتاجاً منطقيا، فما دمت مستعداً للقيام بواجبي، وهذا هو ما كرست له سنوات عمري، لماذا أرفض إذن؟ ومع ذلك ظل التهيب ملازما، ليس لأنني أرفض الخدمة، ولكن لأنني أود أن أخدم في المكان الصحيح الملائم لما جمعته من خبرات. وتحت ظل هذه الهواجس رتبت جوابي: «اعطني يومين للتفكير..». «ولا يوم.. اعتبر الموضوع منتهياً». حسم الأمر اذن ولا مجال الا للقليل من الوقت للتشاور مع من أعرف. دعم معنوي خرجت وأنا غارق في أفكاري، واتصلت بالمرحوم جاسم الصقر ويعقوب الحميضي كصديقين، ورويت على أسماعهما القصة، وكيف أنني لا أعرف ما أفعل. فكان جوابهما معاً: «اذا لم تقبل أنت فسيقبل غيرك، وهذا مشروع مهم جداً لمصلحة البلد، وأنت أكفأ شخص لهذه المهمة، فاقبل بها». في اليوم التالي اتصلت بالسكرتير عبد العزيز المشاري وقلت له مسلماً: «توكلنا على الله». وعدت للقاء ولي العهد بطلب منه، وهنا، وقد أصبح الأمر منتهياً، تحدث إليّ طويلا عن أهمية الاعلام، وألقى ما يشبه محاضرة تثقيفية ألم فيها بأطراف من قصص أشهر الاعلاميين في التاريخ، وضرب مثلا بالدور الذي لعبه غوبلز خلال الحرب العالمية الثانية، وكيف كان اعلامه أقوى من السلاح الألماني، مشددا على دور الاعلام في نشاط الدول والبلدان المختلفة، وعلى ابراز دور الشعب في الرسالة الاعلامية. وكالة مستقلة لم أقاطعه خلال كل هذا، كنت أتلقى بانتباه كل كلمة وفكرة، وذهني مشغول بشيء آخر. وحانت الفرصة لقول ما فكرت فيه منذ البداية حين توقف عن حديثه وتطلع الي منتظرا ردة فعلي، فقلت: «يا طويل العمر.. لي طلبٌ واحد، هو مساعدة سموكم حتى أستطيع أن أعمل كل هذا. أتمنى على سموكم أن تكون وكالة الأنباء مستقلة، لديها حرية واستقلالية، ألا تكون تابعة لوزارة الاعلام، أن تكون مثل البي بي سي البريطانية». وصدر المرسوم الأميري في 6 نوفمبر 1976 بتعييني رئيس مجلس ادارة ومدير عام وكالة الأنباء الكويتية، واعتبارها مؤسسة عامة ذات شخصية اعتبارية، يشرف عليها وزير الاعلام الشيخ جابر العلي. وفي مكتب الوزير الذي طلبني بعد صدور المرسوم وجدته بدأ سلفاً بالتفكير بكيفية تنفيذ وظيفة الاشراف. قال منذ اللحظة الأولى: «سيكون مكتبك بجوار مكتبي». قلت، وأيضاً منذ اللحظة الأولى: «لا أريد أن يكون مكتبي في وزارة الاعلام حتى لا أسبب ضيقاً لزملائي». سألني: «وأين تريده؟» كان جوابي جاهزا وفكرت فيه منذ عدة أيام: «استأجرنا الدور الأول في بناية النقيب». دشتي وأبو بكر هنا بدانا الاعداد. كان معي صديقي أحمد دشتي خريج اعلام وفريد أبو بكر. واشتريت كل ما يتعلق بالإعلام من كتب متوافرة. وجلست أقرأ طوال النهار، وفي ذهني تتزاحم الأفكار وترتسم معالم النهج المناسب لعمل جاد يتطور باستمرار، لايمت بصلة إلى منطق غوبلز، عماده تعلم اكثر ما نستطيع من فنون اعلامية من الآخرين. قبل أن أباشر العمل كانت هناك اتصالات مع وكالة رويترز، وعملنا عن طريقها، لكنني أعدت النظر في موضوع التعاون، وقلت لنفسي انني لا أريد أن أكون تابعا لرويترز، لا أريد أن أدور في محيطها، أريد أن أبدأ صغيرا ثم أكبر. اجتمعنا مع مسؤولي رويترز وانفصلنا عنها. وبحثت عن وكالة أنباء صغيرة ولكن متقدمة، فوجدت أمامي وكالة تاس والأسوشيتد برس والفرنسية واليونايتد برس. ناقشت أمر هذه الوكالات مع أحمد دشتي، وذهبنا لزيارتها. زرت وكالة الأنباء الفرنسية في لندن وفي ذهني وكالة نستفيد منها. سمعت عن وكالة الأنباء الألمانية، وذهبنا اليها، والتقينا بمديرها العام الذي كان يشغل منصب رئيس غرفة تجارة هامبورغ قبل أن ينتقل الى هذه الوكالة، فطلبت التعاون معه وتزويدنا بدراسة عن الوكالة لنعرف كيف نبدأ. وبالفعل أرسلت الوكالة الألمانية الينا أحد موظفيها وزارنا في الكويت، وشرحنا له الوضع، وجاءنا منهم بعد ذلك تقرير بكيفية البدء، وعينوا لدينا مستشارين براتب شهري ظلوا طيلة سنتين، ثم أوقفنا الاعتماد عليهم وبدأنا نطلب خطوطا ذات تردد عال، اذ لم تكن الصحون اللاقطة متوافرة آنذاك. وأحضرنا للعمل معنا عدلي بسيسو وضياء الفاهوم مسؤول الأخبار في وزارة الاعلام، وكذلك اقبال الأحمد وأمل الخالد والمسؤول عن التحرير ضياء الفاهوم ويوسف السيباني وداوود سليمان وعبد الرحمن الامام. «كونا» أو «وفا» وتكونت مجموعة العاملين من كوادر كويتية ولبنانية وسودانية، وأغلبية المحررين من الفلسطينيين، الى درجة قيل عني أنني ضد الكويتيين ومع الفلسطينيين، وأن الوكالة لم تعد «كونا» بل وكالة «وفا». ولكن هذه الأقاويل لم تغير من مبدئي وخطي، كنت حريصا على أن يتعلم أبناء بلدي ويأخذوا الخبرة من أهل الخبرة. لم أكن في كل هذا بعيداً عن الحس الصحفي، أو امتلاك فكرة عما هو العمل الاعلامي، كما قد يخيل لمن يقرأ كيف بدأت جولتي للاستفادة من خبرة من هنا وخبرة من هناك، وتكوين مجموعة العمل. الحقيقة أنني مارست الكتابة في الصحافة مبكراً، لم تنقطع صلتي بها ولا متابعاتي لأجوائها، اضافة الى اهتمامي بمتابعة ما يكتب وما ينشر حول عمل وزارة الصحة، والمشاركة في الندوات والمؤتمرات. أي أنني كنت مهيأ فكرياً للعمل الصحفي وأمتلك خلفية ثقافية ضرورية في مجالات ثقافية وسياسية وتاريخية شتى لابد منها لكل من يدخل في هذا المجال. يضاف الى هذا أن تدريبي وممارستي لشؤون الادارة وفرت لي خلفية جعلتني أدير عملي وفق مبادئ الادارة العامة، أعني اعداد الكادر البشري والموارد اللازمة وتنظيمها. ما كنت بحاجة اليه فقط هو الالمام بالتقنيات الخاصة بمجال الاعلام، مجال عمل وكالة أنباء مستقلة تمتلك مساحة من الحرية تجعلها قادرة على المنافسة بحرفية ومهارة. وهذه أمور تعلمتها بالممارسة وحرصي على دقة العمل وتطويره دائماً. أول مجلس إدارة واجهت في البداية مسألة الحفاظ على استقلالية الوكالة الوظيفية، بالاضافة الى الاستقلالية في مضمار العمل بعيداً عن الروتين الحكومي. وبما أننا هيئة مستقلة كان من الواجب أن يكون الكادر الوظيفي مختلفاً حتى نوفر له الامكانيات والقدرات الفاعلة المناسبة. وأذكر أنني لهذا السبب نفسه لم أقبل عضوية جمعية الصحافيين حين عرضت عليّ، ولم أقبل أن ينتمي الى عضويتها أي من العاملين في الوكالة، لأنني اذا قبلت العضوية سيكون عدد كبير من العاملين في الوكالة أعضاء في الجمعية، وستكون لنا الأغلبية في الانتخابات، ولا نعلم متى تضع الحكومة يدها على جمعية الصحافيين. كنت مقتنعاً أننا يجب أن نحافظ على استقلاليتنا، ولا يجوز أن أنتخب لرئاسة جمعية الصحافيين وأنا مدير لوكالة أنباء مستقلة في الوقت نفسه. من أجل هذا، اجتمع أعضاء مجلس ادارة «كونا» سعود العصيمي وعبدالله السابج وأحمد دشتي ود. فاروق العمر، وناقشنا منذ البداية قانون الكادر الوظيفي، واتصلنا بهيئة الفتوى والتشريع، فأصدروا لنا قانوناً أسوأ من قانون الكادر الوظيفي الحكومي. لم نسكت بالطبع، وذهبت مع أحمد دشتي الى هيئة الفتوى والتشريع وجلسنا مع الخبير هناك وقلنا له ان هذا القانون غير مقبول، فأصر على رأيه. أمام هذا لم أجد بداً من اخبار الشيخ جابر العلي وكان يحضر حفلا في قصر السلام، وتداولت بالموضوع مع حمد الجوعان الذي حضر الى مكاتب الوكالة، ثم عدنا الى الخبير في الفتوى والتشريع وقلت له: «أمامك خياران، وأنا أعلم بمصلحة بلدي، فاذا أردت أن تحكم فاذهبْ واعلن هذا واحكم.. هذا القانون غير صالح». تم رفع القانون الى مجلس الوزراء، وناقشته لجنة من المجلس معي، وقلت في نهاية النقاش انني لن أقبل الا بسلم الوظائف الذي اقترحته حتى تكون الوكالة ذات مستوى عالمي. وأعيد القانون الى الفتوى والتشريع، وسألني الخبير:«ما الذي تريده؟». شرحت له ما أريد، فوافق، وصدر القانون الخاص بالكادر الوظيفي للوكالة. وفوراً كتبت الى عبد الله الصانع رئيس البعثات في وزارة التربية أطلب منه أن يرسل إليّ الطلاب اليتامى الذين لا تؤهلهم درجاتهم لدخول الجامعة، كي أرسلهم الى الخارج على نفقة الوكالة. ولكن المؤسف أن الصانع نسي الموضوع، ولم يرسل إليّ أي طالب. هكذا بدأت العمل معتاداً أن أكون على رأس عملي في الوكالة منذ السادسة صباحاً كي أبدأ متابعة الأخبار والتطورات الجارية في العالم. ولم يكن عملي من وراء مكتب فقط، بل كنت أشارك زملائي المحررين في العمل وأتعلم منهم، وبهذا استفدت من خبرة كل واحد منهم، وساعدني ولعي بالقراءة على التعلم بسرعة. دهشة الإعلام هناك أحداث بارزة تجلى فيها حسي الصحفي في منصبي الجديد، أشهرها الخبر الذي انفردت به «كونا» عن وفاة الرئيس السوفييتي ليونيد بريجنيف في 10 نوفمبر 1982. وأثار انفرادنا وقتها دهشة الأوساط الاعلامية العالمية والأوساط السياسية في وقت لم نكن فيه قد برزنا بما يكفي ليعرف العالم أن هناك وكالة أنباء كويتية حتى. لهذا الحدث قصة تستحق أن تروى لتعلم من يأتي بعدنا أن العمل الصحفي ليس مجرد انتظار سقوط خبر بيد الصحافي، بل امتلاك أرضية فكرية تؤهل صاحبه للتحليل والاستنباط واصابة المرمى اعتماداً على أدلة ظرفية غير مباشرة أحيانا، أوفي غالب الأحيان. بدأت القصة حين كنت أحضر مؤتمر قمة مجلس التعاون الخليجي في البحرين بعد الغزو الاسرائيلي للبنان ببضعة أشهر، وكان معروفاً آنذاك أن الزعيم السوفييتي على فراش المرض، فجاءني اتصال من وكالة كونا وأخبروني أن مندوبنا في موسكو يقول ان الاذاعات ومحطات التلفزة السوفييتية تبث موسيقى جنائزية، وأن المذيعات يظهرن على الشاشات بثياب سوداء! طلبت منهم الاتصال بوكالة تاس ونوفوستي وجريدة البرافدا ومعرفة ما اذا كان لديها خبر عن وفاة أحد الزعماء السوفييت. وسأل مندوبنا هناك وتقصى وبحث لكنه لم يحصل على جواب. فطلبت منه بذل المزيد من الجهد واجراء المزيد من الاتصالات، وكان جوابه: «الناس كلهم هنا في حالة سكون، والموسيقى الجنائزية تتردد في أماكن كثيرة، والثياب السوداء تهيمن على ثياب المذيعات، ولكن لا خبر» هنـا بدأت بتحليل معلومات ومشاهدات مندوبنا في موسكو، وتوصلت الى نتيجة مفادهــا: «ليس هناك في الاتحاد السوفييتي أكبر من بريجنيف، وبريجنيف مريض.. اذن..!» وتناولت سماعة الهاتف واتصلت بالمسؤول في الوكالة وقلت له: «اتصل بالمندوب في موسكو واطلب منه أن يرسل خبرا يعلن فيه وفاة بريجنيف» تحير المندوب وقال: «كيف؟» قلت: «لا عليك.. ارسل والباقي علينا». اتصلت بالوكالة وطلبت أن يعدوا الخبر، ويبثوه معلنين أن بريجنيف مات. وبالفعل بثت كونا الخبر كما طلبت، ولم يكن هناك من قام ببث مثل هذا الخبر سوانا، فتحير العالم، وتحركت وكالات الأنباء، ولكنها لم تجد شيئا يفيد بأن بريجنيف مات. ..ومات بريجنيف حين توجهت كعادتي خلال وجودي في البحرين إلى جناح سمو أمير البلاد في الفندق، وجدت عنده عبداللطيف الحمد، ورويت القصة على مسامعهما، فقال سمو الأمير مستغربا: «تبث خبر وفاة بريجنيف، وبريجنيف لم يمت؟!». طمأنت سموه وقلت: «أنا استنتجت أنه مات». «وإذا لم يكن ميتا.. لا.. هذا لا يصح». ووجه لي لوما، فقلت: «أنا أتحمل المسؤولية في هذه الحالة.. إذا لم يكن ميتا سأقدم استقالتي من رئاسة تحرير كونا.. وأذهب». وضحك سموه. حين عدت إلى غرفتي، لم ألبث إلا وقتا قصيرا، وإذا بي أفاجأ بالنداء علي، فتوجهت إلى المنادي، وسألت: «خيرا؟». قال: «الشيخ يريدك». توجهت إلى جناح سموه: «نعم.. طال عمرك». كانت ملامحه هذه المرة منبسطة لا تحمل تأنيبا ولا لوماً. قال: «جاءنا الخبر اليقين.. أن بريجنيف مات». كان هذا الحادث في الحقيقة سبقا صحفيا لوكالتنا تفوقت فيه حتى على وسائل الإعلام الأميركية التي كانت تراقب الاتحاد السوفيتي على مدار الساعة. وأذكر أن دبلوماسيا أميركيا متخصصا في جنوب شرق آسيا روى ما حدث لديهم من ارتباك بالقصة التالية: «سمعنا خبرا منسوبا إلى وكالة اسمها كونا لا نعرف أين توجد ولا نعرف من اين حصلت على هذا الخبر، فاتصلنا بسفيرنا في موسكو وسألناه: «هل مات بريجنيف؟». أجاب بلهجة قاطعة: «لا.. لم يمت». «لدينا خبرٌ بثته وكالة اسمها كونا، لا ندري أين توجد.. ربما في أميركا الجنوبية». وعاد السفير ليؤكد أن لا علم لديه بمثل هذا الخبر، ولم نحمل الخبر على محمد الجد، ولم نعره اهتماما. ولكن بعد ساعة، عاد سفيرنا في موسكو وقال: «الخبر صحيح.. مات بريجنيف». |
السدرة (14) قلق خفي غامض يتحكم بحياة معظم زعماء العرب
لم يكن عملنا في الوكالة (كونا) مجرد تصيد للأخبار، بل كان في حقيقة الأمر أكثر من ذلك، كان استقصاء للعالم من حولنا وتعرفا على ما يحيط بنا، سواء تعلق الأمر بتغطية المؤتمرات أو متابعة تطورات القضايا والأحداث المحلية والعربية والعالمية أو لقاء رؤساء الدول من مختلف الجنسيات. وبسبب اهتمامي بالأمور السياسية، حرصت على إجراء المقابلات مع شخصيات عربية وأجنبية شخصياً، بصفتي مديرا لوكالة كونا، وكانت لي علاقات وصحبة مع الكثير من الشخصيات، واتخذت خلال ذلك قرارات صعبة أخذتها على مسؤوليتي بالكامل. ووجدت نفسي أتصادم مع رؤساء دول أحياناً كما سأروي. بعض الناس ظن حين قبلت العمل في كونا أنني أصبحت في أحضان الحكومة. ولكن فكرة الوكالة التي رفضها مجلس الأمة حظيت باحترام الحكومة بالصيغة التي اقترحتها، وكانت تساعدني. شخصيات ومصائر الكثير من هذه التجارب، والشخصي منه بخاصة، لا يظهر في التقارير التي تبثها الوكالات عادة، ويظل في الذاكرة. وسأروي الآن قصصا هي بالنسبة لي أكثر كشفاً ودقة مما اعتاد الناس سماعه، فيها من الواقع ملامحه، ولكن فيها أيضاً من زاوية الرؤية الشخصية ملامح أكثر حيوية. هنا أجد نفسي في مكان الرسام الحامل لقماشة لوحته ليرسم ملامح شخصيات نشاهدها في المجال العام، ولكنه هنا يلتقط شيئا خاصا للشخصية وظروفها الزمانية والمكانية وسط عالم يموج كما عهدناه دائماً بالمتغيرات. لم يكن مصادفة إذن أن التقي بشخصيات تقلبت مصائرها، بعضها مازال على قيد الحياة، وبعضها رحل عن عالمنا، بعضها يأسف الإنسان على غيابه وبعضها يتمنى لو لم يكن موجودا أصلا. خلطة الإعلام المكان الإعلامي العربي الذي وجدت نفسي فيه، عالمٌ ذو خصوصية، تختلط فيه عناصر سياسية ومخابراتية وتجارية ومعرفية، وبين كل هذا وذاك تجد نفسك في خضم الأمواج لا على الشاطئ، تستكشف ما حولك وما في نفسك، تمتحن خبرتك ومعرفتك، وتمتحن هذا العالم وتتعرف عليه. وهو أيضاً عالم تواجه فيه واقعاً شاذا، تجد فيه الكثير من المرتزقة بأزياء الصحافيين حيث تكتب غالبية هؤلاء، ونسبتها تقارب %65 كما قلت ذات يوم، في ضوء حجم المدفوعات، ولكل كلمة لديها سعر. وتجد فيه متعلمين يكتبون ولكنهم أميون إذا أردنا معرفة محتوى ما يكتبون. الأخطر من كل هؤلاء، ذلك النوع الذي يكتب ما لايؤمن به، فيظهر بلباس تقدمي بينما ممارساته عشائرية. ويكثر أمثال هؤلاء المرتزقة والأميين، ومن هناك لايقدمون جديداً لا في الفكر ولا في السياسة، بل يتحذلقون ويتلقطون ما يعود عليهم بالنفع ويبثونه بين الناس، يعزفون اللحن الذي يطلبه من يدفع، كما يقول مثل إنكليزي، وحين تكشفهم وتنتقدهم، يتطاولون عليك أنت الذي تعرف أن أسماءهم موجودة على قوائم دفع وزارات الإعلام الرسمية. جولة آسيوية لم يكن قد مرّ على تأسيس كونا سوى أربع سنوات حين سافرت مع سمو الأمير في جولة آسيوية في عام 1980. وهو عام لا ينسى مطلعه. فقد حفل بحروب وغزوات ستغير صورة منطقتنا والعالم من حولنا وسنعيش تداعياتها كما سنرى لعقود طويلة، مست محيطنا ومستنا مباشرة. باكستان كانت محطتنا الأولى، وفي أول يوم وصلنا فيه إلى عاصمتها إسلام آباد أقاموا حفل عشاء على شرف الأمير الزائر. وخلال العشاء رويت للحاضرين من الباكستانيين أخباراً لم أكن أعرف أنها ستأخذني لألتقي وجها لوجه مع الجنرال ضياء الحق! قلت لهم إن السوفيت حسب معلوماتي موجودون في أفغانستان، أدخلوا معهم ما لايقل عن 500 عنصر مخابراتي من الكي. جي. بي! واثارت هذه المعلومة اهتمام المضيفين، فسألوني كيف عرفت؟ قلت هي معلومات شخصية، ولــــم أزد على ذلك حرفـاً. بعد العشاء ذهبنا إلى الفندق، فإذا بهاتف من مكتب الاستقبال يرنّ في غرفتي ويخبرني أن ضياء الحق يريد مقابلتي. دهشت بالطبع، وقلت لقريبي عبد الله السديراوي، وكان معي في الغرفة: مع ضياء الحق «ضياء الحق أرسل في طلبي، وأنـا لا معرفة لي بـه، ولا أعرف الموضوع الـذي يريدني من أجله!» قال السديراوي: «إنزل وشوف الموضوع» نزلت من غرفتي، فوجدت ضابطاً في انتظاري. لم يكن الأمر مطمئناً، فالعسكر لا يؤمن جانبهم وبخاصة حين يحكمون بلداً تسمع عن غوامض تجري فيه وانقلابات لا أول لهــــا ولا آخر. عدت إلى غرفتي وأخبرت السديراوي، وقلت له: «اسمع.. أنا ذاهبٌ لمقابلة ضياء الحق وإذا لم أعد فأنت تعرف أين أنا» ذهبت بصحبة الضابط إلى مقر الجنرال، وجلست في صالة لمدة ربع ساعة لا أعرف أين أنــــا ولمــــاذا جــــاءوا بي. ثم ظهر ضياء الحــــق من وراء حاجب وسلم عليّ وأنــــا مازلت مستغرباً. عندئذ قـــال بانكليزيـــة مبتورة باللهجـــة الباكستانيـــة: «أخبرني أحد الوزراء أنك حدثته عن وجود عناصر الكي.جي. بي!» أه.. فكرت بيني وبين نفسي، إذن وصله الخبر، هذا كل ما في الأمر. قلت شاعراً بالارتياح: «هل يعقل ياسيدي الرئيس أن يحتل السوفيت أفغانستان من دون أي تغطية من المخابرات؟» هز رأسه وسألني: «وكيف نأخذ معلومات عنهم؟» «هذا ليس من شأني بل من شأنك أنت بصفتك رئيس المؤتمر الإسلامي.. أنت من يجب أن يتحرك» هنا فاجأني بالقول: هل تقبل تفويضاً مني لفتح الموضوع مع السوفيت؟ «بأي صفة؟» لاذ الرئيس بالصمت ولم يرد، فتابعت: «أنا لست بهذا المستوى، اعطني كتابا منكم.. وإلا فبأي صفة تريدني أن أذهب إليهم؟» كان الجنرال خلال الحديث يفتح بين آونة وأخرى زراً من أزرار ردائه، كأنه يشعر بضيق في التنفس. ثم انتقل إلى موضوع آخر: «لدي خطاب سوف ألقيه في الأمم المتحدة، وأريد أن أعرف ما هي ملاحظاتك عن العالم الإسلامي» قلت: «أنا حاضر» فمد يده إليّ ببطاقته الشخصية ورقم الفاكس الخاص به. في اليوم التالي ذهبت مع الأمير لزيارة جبل يدعى ميريز، شديد البرودة يغطيه الضباب، وكنا في شهر سبتمبر. وهناك انتحى بي ضياء الحق جانباً، فملأتني الخشية من أن تظن جماعتي أن بيني وبينه شيئا خاصا. قال وهو يشير إلى مناطق حولنا: «أريد أن أهديك شيئاً» شكرته وقلت: «لا موجب للهدايا» أصر: «أريد أن أهديك أرضاً في ميريز»! «لا أستطيع قبول هديتك حتى لا يظن في المستقبل أنني جاسوس لك» ضحك، وقال: رسالة إلى الأمير «أطلب منك أن تخبر الأمير، بما أنه ذاهبٌ إلى الهند وسيلتقي بأنديرا غاندي، أن تذكره أن الهندوس يدخلون البقر إلى المساجد، ونحن لانستطيع اعتراض البقر لأنها مقدسة عندهم. إنهم يستفزوننا. يصلي المسلمون في المساجد وتدخل عليهم الأبقار والثيران..» وعدته أن أحمل رسالته إلى الأمير، وقلت له: «ولكنني لاأعلم إن كان الأمير سيتحدث حول هذا الموضوع أم لا» وبالفعل نقلت الرسالة وما طلبه ضياء الحق، فوجدت لدى الأمير علما بالموضوع، وقال إنه سيناقشه مع أنديرا غاندي. بعد ما يشبه هذه المغامرة الليلية في باكستان، التقيت بضياء الحق مرة أخرى في المؤتمر الإسلامي في الطائف. جاء اللقاء خلال الصلاة، وتصادف وجودي بجواره، ولاحظت أنه أطال الصلاة. حين انتهى سألته: «لماذا أطلت الصلاة؟» قال: «أريد الجنة» قلت مازحاً: «الجنة.. دفعة واحدة!» بذخ ملوك ضحك، وربت على كتفي، وبعدها أرسل لي صورته وعليها إهداء «إلى صديقي العزيز». واصلنا جولتنا، ودخلنا بنغلادش، وكانت هذه أول زيارة لي إلى بلد فيه هذا الفقر المدقع الذي يتجاوز خيال المتخيل. فقر واضح في العاصمة دكا، في طرقاتها وعلى ملامح الناس والأسواق. والغريب أن الرئيس مجيب الرحمن حين دعا جميع رؤساء التحرير وهبط ليستقبلنا، بدأت موسيقى الأبواق تعزف على إيقاع خطواته، وسار مبتهجاً كأنه إمبراطور من أيام زمان، يزهو وسط شعب يموت جوعاً فعلا لا مجازاً. لم أنس هذا المشهد، ولذا ما إن اجتمع بنا مسؤول الإعلام مع بقية رؤساء التحرير، بادرته بالقول: «ألاحظ أن نظامكم اشتراكي، ومع ذلك الناس يموتون من الجوع! أرجو المعذرة، فأنا أرى بذخا من فعل الملوك وليس من فعل قادة شعب فقير!» تغيرت ملامح المسؤول الإعلامي، وسارع يقول بارتباك واضح: «نتحدث في هذا الموضوع لاحقاً» ولم يأت هذا الوقت اللاحق، فقد غادرنا إلى ماليزيا، وهناك في أول يوم دعانا السفيرالسعودي، وعرض علينا فيلماً وثائقيا عن الملك عبد العزيز بن سعود. بعد انتهاء الفيلم، ونحن على مائدة العشاء، جاءني محمد درويش العرادة وقال لي: «الشيخ يريدك لأمر ضروري» ذهبت إليه أستطلع الأمر، فقال لي ما أن شاهدني: «علمت الآن أن العراق هجم على جزر إيرانية واحتلها، والوضع هناك ليس طبيعياً.. تحر الموضوع» رجعت إلى الفندق وتحريت الموضوع، فقالوا لي أن هناك اشتباكات على الحدود العراقية- الإيرانية. أخبرت عبد اللطيف الحمد الذي كان معنا على مائدة العشاء، وطلبت أن ينقل الأخبار إلى الأمير. كان هذا في سبتمبر 1980، بداية الحرب العراقية- الإيرانية التي تواصلت طوال عقد كامل. محطتنا الأخرى كانت جاكرتا في أندونيسيا. وخلال وجودنا على متن الطائرة، وكانت من نوع بوينغ 707، شاهدت رؤساء التحرير وبينهم فيصل المرزوق، ضابط يذهب مسرعا إلى حجرة الطيار ويخرج مسرعاً، وأحسست أن وضع الطائرة لم يكن طبيعياً. قال المرزوق: «هناك شيء يحدث للطائرة.. ونحن برفقة الأمير» ولم يكد يتم كلامه حتى هوت الطائرة، ثم عادت إلى الارتفاع، وظلت الحال هكذا بين هبوط وارتفاع إلى أن وصلنا مطار جاكرتا، وهناك كانت في انتظارنا سيارات الإسعاف والإطفاء، وكل هذا ونحن لانعلم مايحدث. وواصلنا رحيلنا إلى سنغافورة، وهناك وجدنا طائرة كويتية جامبو جيت. وعدنا من رحلتنا الآسيوية ونحن مرتاحون، ولكن لنواجه عواصف أخرى بدأت تلم بمحيطنا القريب. في العالم العربي سانتقل الآن إلى قصص من عالمنا العربي، عالم تصيبني الدهشة الان، وأنا اتذكره في الثمانينات، وأتذكر معه كم كان زعماؤه يتماثلون مع زعماء رحلتنا الآسيوية، رغم اختلاف اللغة والبعد وخصوصية الجغرافية السياسية. أربعة رؤساء التقيت بهم، أو أربعة مصائر، تكاد تلخص أوضاعنا إذا أردنا تلخيصاً بخطوط بسيطة. وكانت هذه اللقاءات في ظروف مختلفة، وتحت هاجس قضايا مختلفة. وكلها أعطتني تجربة ذات مغزى في تعامل رؤساء العالم الثالث عموما مع وسائل الإعلام. أنت لدى هؤلاء مرحبٌ بك إذا كنت من حملة المباخر والطبول، أما إذا كنت من حملة الرأي الآخر، فالنجوم أقرب إليك من المسؤولين الكبار في هذا العالم. لست خبيراً نفسياً، ولكن لفت نظري تفضيل هؤلاء للإعلام الغربي رغم أنه لا يخدم إلا مصالح الأسياد القدامى، ولا يتوانى عن غرس بذور الفتنة والشقاق عندما تتاح له الفرصة. بينما نجدهم يحتفظون بنظرة شك إلى الإعلام في بلدانهم. قلق خفي إن ما أتذكره كسمة دائمة على وجوه هؤلاء الرؤساء هو القلق الذي يُخفى وراء شتى المظاهر الدبلوماسية، أو وراء التظاهر بأن كل شيء على ما يرام، قلق خفي غامض لا يجد تعبيره في كلماتهم، بل في حياة متقلبة راكدة تحيط بهم ويحيطونها بشتى التمويهات، ويستطيع أي إعلامي يمتلك أدنى حد من الحس السليم اكتشافها. في عام 1980 ذاته حدثت مواجهة بيني وبين الرئيس السوداني جعفر نميري تصرف فيها تصرفا غامضا غير مفهوم، حين رفض الحديث إلا في موضوع واحد حدده هو، وأمام عدسات التلفزيون لا مع رئيس وكالة كونا، الذي يبدو أن فكرة مسبقة كانت لديه عن استقلاليتها عن أي تأثير رسمي. كان في زيارة للكويت قادماً من باكستان، وهو يومها رئيس لجنة التضامن العربي. فأحببت أن أجري معه لقاء صحفياً، مع أنني شخصياً لا أتفق مع توجهاته السياسية، ذهبت إلى مقر إقامته الرسمي في قصر السلام في الموعد المحدد وفي ذهني أن تتمحور الأسئلة التي سأوجهها حول عمل اللجنة التي يرأسها في رأب الصدع العربي وإصلاح العلاقات المتدهورة بين العديد من الدول العربية. مع النميري دخلت الحجرة المخصصة، فإذا بها تحتشد باستعدادات كاملة لتصوير المقابلة تلفزيونياً. حضر الرئيس وصافحني، وأول سؤاله كان: «ما هي طبيعة الأسئلة؟» قلت: «في ذهني إجراء مقابلة لوكالة الأنباء الكويتية، ولم أعلم أنه سيتم تصويرها تلفزيونياً». وأعاد السؤال: «ماهي طبيعة الأسئلة؟». «يدور معظمها حول عمل لجنة التضامن..». قاطعني: فاجأني ولم يترك لي فرصة إكمال جملتي: «أنا أرفض الإجابة عن هذه الأسئلة»! استغربت وقلت: «يا سيـادة الرئيس، إن كنـت لست مرتــــاحـــاً للمقابلــــة، فيمكنك إلقـــاء بيـان عـن عمــل اللجنـــة التي ترأسها» «ومن يضمن نشر ما أقوله؟» نظرت حولي مشيراً إلى مسجلات الصوت وعدسات التصوير: «هذه كلها تشهد أنني لن أضيف حرفاً واحداً ولن أشطب حرفاً مما ستقوله!». توقعت أن يقبل العرض، إلا أن رد فعله ضاعف دهشتي: «الآن لست مستعداً للحديث في موضوع التضامن العربي، لن أتحدث إلا عن العلاقات الكويتية- السودانية». فشرحت: «اسمح لي.. جئت لأسألك بصفتك مسؤول لجنة التضامن العربي، العلاقات الأخوية الجيدة بين الكويت والسودان بخير والحمد لله ولا يحتاج القــارئ أو المشاهد إلى معرفـــة أكثر مما هو ظاهر، ويمكن أن نتحدث عنها، ولكن المهم الآن التضامن العربي، توضيح من رئيس اللجنة حول ما وصلت إليه في عملها وإنجازاتها إن كانت أنجزت شيئاً» رد النميري: «أنا أقول ما في غير العلاقات الكويتية- السودانية»! وأضاف بإصرار: «أنا أرفض، ولن أتحدث إلا مع التلفزيون»! هنا شعرت بأنه متوتر الأعصاب، واصبح الجو كله متوترا تبعاً لذلك، فقلت: «لا.. هذا كلام لا يقال لي، أنا لست مندوب تلفزيون الكويت، هذا مندوب تلفزيون الكويت هناك وهو من يسألك عن العلاقات الكويتية- السودانية.. تعال يا أحمد عبد العال..». اقترب عبد العال وجلس، وطلبت منه أن يمضي قدما في إجراء المقابلة معه، وخرجت، وأنا أردد بيني وبين نفسي «خليه يولي». في الخارج التقيت ببعض مرافقي النميري، وبينهم الملحق الصحفي في السفارة السودانية الذي يبدو أنه سمع طرفاً مما جرى، فسألني: «بو خالد.. أنت زعلان؟». «والله.. لا أستطيع مقابلته، صعبٌ عليّ أن أقابله، خل التلفزيون يجري معه اللقاء. نحن وكالة أنباء حرة.. لا قيود عليها». اعتذر الملحق الصحفي عن عدم تجاوب رئيسه ورفضه إجراء المقابلة حسب الاتفاق الأصلي، ورجاني ألا أعتبر الموضوع شخصياً، فأكدت له أن الموضوع ليس شخصياً إطلاقاً. ثم طلبت منه إذا أراد أن يخدمني توصيل رسالة إلى رئيسه. سألني: «ماهي؟» قلت مشدداً على كل كلمة: «أرجوك أن تبلغ الرئيس أو السفير على الأقل، قل له إن بو خالد يقول لك، أنت جئت هنا خادماً للشعب السوداني، وليس شعب السودان خادما لك» رد الملحق الصحافي: «والله العظيم سأقول له». وبالفعل قام بإبلاغ رسالتي إلى أحد المسؤولين في الوفد، وأوصلها هذا إلى رئيسه، ولكن لم يمض على هذا الحادث أكثر من عشرة أيام، حتى نقلوا الملحق الصحفي من السفارة!. |
السدرة (15)
أمزجة الرؤساء مختلفة.. ويتفقون على كره الصحافة والمعلومة تختلف أمزجة الرؤساء من واحد إلى آخر، إلا أن المزاج الأكثر شيوعاً هو أنك تجدهم يستشيطون غضبا حين يتجرأ الصحافي على مقاربة ما يعتبرونه من المحرمات، لكنهم يكبتون غضبهم، ويصطنعون هدوءاً وثقة بالنفس، بينما تشعر من نظراتهم الجامدة أو ضحكاتهم المفتعلة أنهم يغلون من الداخل. هؤلاء يتعاملون مع الإعلام بسطوتهم نفسها التي اعتادوا عليها مع شعوبهم، وربما بالخوف ذاته الذي يشعرون به في أعماقهم أحياناً. إلا أن أعجبهم ذاك الذي تشعر أنه سجين أوهام خاصة به، فلا تجد عنده سوى نفي كل واقعة أو معلومة تذكرها لأنها لا تلائم تصوراته. نموذج صدام يحضرني هنا نموذج صدام حسين حين التقيت به مع زملائي وإخواني رؤساء تحرير الصحف الكويتية في مدينة فاس حين احتضنت أحد مؤتمرات القمم العربية في عام 1982. من عادتي في هكذا لقاءات، بصفتي رئيساً لمجلس إدارة كونا، أن لا أكون أول المتحدثين، بل أترك الحديث أولا لرؤساء التحرير، ثم يأتي دوري بعد ذلك. ناقش رؤساء التحرير صدام في كل شيء، وفي العديد من القضايا، وغطوا جوانب كثيرة بحضور آخرين معه، طه ياسين رمضان وسعدون حمادي وطارق عزيز، هؤلاء الذين يحضرون في أغلب هذه المناسبات، إما للمصادقة على ما يقول، وإما لتزويده بما يجهله من معلومات كما تبين في ما بعد. بعد أن اكتفى رؤساء التحرير، تقدمت للسؤال. قلت له: «سيدي الرئيس.. أود أن أسألك سؤالا صريحاً. ومع أنك قد تتأثر منه قليلا، فإنني أود طرحه عليك؛ أريد أن أسأل، لماذا كل الصحف العراقية ووسائل الإعلام العراقي، تعتبر أنه لا يوجد في العراق سوى صدام حسين؟ أي أن الشعب العراقي لا دور له.. أريد أن أفهم لماذا؟». أزعجه هذا السؤال بالطبع، ولكن إنزعاجه ظل في داخله، فمن طبيعته ألا ينفعل أبداً.. هادئ الأعصاب ولكنه يغلي من الداخل. وجاء جوابه على سؤالي هكذا: «والله أنا في الحقيقة حين كنت نائباً للرئيس أحمد حسن البكر، كنت أتجول في المحافظات، وعندما أعود إلى بغداد تخرج تظاهرات ترحيب.. وكنت أقول، لا تقيموا تظاهرات لاستقبالي..». وتابع موجها حديثه إلى طارق عزيز.. وسأله: «ألم أكن أقول لكم لا يوجد داع لهذه الجماهير، لا يوجد داع لهذه التظاهرات؟». فرد طارق بجواب جاهز: «نعم سيدي». لا أحد يستطيع أن يقول لا.. وإلا طار رأسه. مع مبارك النموذج الآخر الذي التقيت بـه، وايضاً وجدته يستاء من انتقاد قناعاته، ويسقط كأس الماء من يده، حتى لو كان النقد مجرد ملاحظات ننقلها إليه نيابة عن الناس، كان الرئيس حسني مبارك. كان قد التقيت به مرتين، مرة خلال مؤتمر القمة في مسقط العمانية، ومرة وهو يلعب الاسكواش في ملعب في الكويت. في مسقط، ألحّ عليّ وكيل وزارة الإعلام الشيخ ناصر المحمد، وكان موجودا هناك، على أن أجري مقابلة مع مبارك، فطلبت موعداً، وذهبت إليه. وجاء سؤالي الأول مستمداً من موضوع كامب ديفيد الذي كان أخطر تحول في الصف العربي من مقاومة المحتل الصهيوني إلى عقد المعاهدات معه: «أريد أن أسألك حول موضوع كامب ديفيد، وهو موضوع وضع في يد العرب قيوداً؛ الاعتراف بإسرائيل.. هذا وضع يضرّ بالعرب». قال: «وايه كمان؟». قلت: «هذه العملية مسيئة للأمة العربية». قال: «ما فيش حاجة تانية؟». قلت: «نعم.. ووضعوا قوات دولية في سيناء حتى يضمنوا عدم تحرك مصر ضد اسرائيل». قال: «خلصت؟ الكلام كله دا مالوش معنى! وانت يا ابني بتقول كلام كله غلط. كامب ديفيد خدمت مصر، وحترجع سينا لمصر، كل الأراضي اللي سلبتها اسرائيل رجعناها.. أين الخطأ في الاتفاقية؟». قلت: «لم أقرأ نص الاتفاقية، ولكن الناس مستاؤون من الاتفاقية». قال: «هذا الكلام غير صحيح، واستغرب كيف أن الناس تفكر هكذا!». وأشارت ملامح مبارك وحركة عينيه الى أنه استاء من هذا الحديث، وسقط كأس الماء من يده على الأرض، فأشار الى رجال المباحث اليقظين حوله أن يبتعدوا قليلا. وزدت من استيائه كما يبدو حين أضفت: «هذه الاتفاقية مصيبة على العرب». فسكت، وبدا أنه يدير فكرة ما في رأسه، ثم هتف وكأنه وجدها: «اسمع.. أنا أعرف من الذي قال لك هذا الكلام، هذا كلام بتاع خالد محيي الدين الذي يشتري له القذافي الورق لصحيفته». قلت: «أنا لا علاقة لي بخالد محيي الدين ولا على اتصال به، أنا التقيت به في وكالة كونا، ولكننا لم نناقش هذا الموضوع». وعاد الى فكرته: «هل تعرف أن ورق صحيفة الأهالي من القذافي؟». قلت: «هذا لا يعني لي شيئا سيدي الرئيس، ولا علاقـــة له بما أقول.. أرجوك اعذرني اذا أسأت!». لم أخرج من اللقاء معه بشيء. بدأنا بالحديث عن اتفاقية كامب ديفيد، وانتهينا بأن ورق صحيفة الأهالي يأتي من القذافي. أما حين جاء إلى الكويت، فلأنه أصبح يعرفني جيداً، فضلت ألا أوجه إليه السؤال مباشرة، واعطيت سؤالي إلى مندوب الوكالة، وطرحه عليه، وكان أيضا عن كامب ديفيد. فانتبه وسأله: من أعطاك هذا السؤال؟ «قال المندوب: أنا من وكالة كونا». لم يعلق، ولكنه أجاب باقتضاب وجفاف مكررا الكلام نفسه الذي سمعته منه في مسقط. كان برفقته د. عبد الرحمن العوضي، وذهب بعدها إلى فندق الشيراتون لممارسة لعبة الإسكواش، وهناك رأيته، وسلمت عليه. قال كأنه فوجئ: هو أنت هنا! وعقبَ بلهجة من يعيد عبارات ألقيت على سمعه: أنت توجهاتك يسارية. قلت له وقد غلبتني روح الدعابة: «ماركس لا أعرفه ولا يعرفني، ومات الله يرحمه»! فالتفت إلى عبد الرحمن العوضي مبتسماً كأنه يستكمل حديثا دار بينهما: «اسمع.. عاوز الله يرحمه كمان!» الجزائر ليست هي بعض الأحداث تمر بها الذاكرة مروراً عابراً، وبعضها تتعلق به أو يتعلق بها، وفي كلا الحالين وجدت أن طبيعة حياتك العملية هي التي تقرر ما الذي يبقى حاداً ولامعاً، وما الذي يبهت مع مرور الزمن. وتضيف حياة مثل الحياة الإعلامية التي عشتها في وكالة «كونا» لمدة خمسة عشر عاماً زحاما لا نظير له، فهي ليست حياة ساكنة على شاطئ بل هي حركة متواصلة في خضم أكثر قضايا العصر سخونة، ومعايشة للجغرافيا بكل تنوعاتها. وأضيف أيضا ان طبيعة الجغرافيا التي تزورها في زمن معين والشخصيات التي تلتقي بها قد تتغير أيضاً، وتتغير معها الألوان ووزن المكان والشخصيات، تبعاً لذلك. حين ذهبنا إلى الجزائر عشية الاستقلال مع البعثة الطبية كان كل شيء مثيراً، أشبه بمغامرة اختلطت فيها المشاعر، مشاعر أن فجراً جديدا يبزغ، ليس على الجزائر بالذات كبلد عربي، بل علينا جميعا، نحن أصحاب المصير المشترك. واحتلت شخصيات تلك السنوات مكانة متميزة في الذاكرة. لكن زيارتي خلال عملي في «كونا»، ورافقني فيها حسن الصايغ الذي عمل معنا في الكويت وهو حالياً في مكتب سمو رئيس مجلس الوزراء، جاءت في ظروف مختلفة. ذهبنا هذه المرة، لا لنلتقي بثوار لوحت وجوههم الشموس في طريقهم إلى عاصمة بلدهم بعد تحريرها، بل برئيس مستقر في سدة الحكم طيلة ما يقارب عشر سنوات. كان الرئيس هو الشاذلي بن جديد، وكان الظرف باهت الملامح، فلا شيء يوحي بأنه يتقدم ويبشر بما كان يحلم به اولئك الثوار الذين شاهدناهم خلال زيارتنا لمقابر الشهداء، أو التقينا بهم وهم يضعون مسدساتهم أمامنا على الطاولة بدل الأقلام والأوراق. مع الشاذلي بن جديد ذهبنا للقاء الرئيس الذي لا أذكر أني لمحته آنذاك في زيارتي الأولى، فتعرفت عليه، وتناقشنا حول الأوضاع في الجزائر، وحول الحركات والقوى العمالية، وكان واضحا أن الرئيس العسكري النشأة لا يعيرها أي اهتمام. ومع ذلك استمع إلى ما طرحناه وتجاوب مع اقتراحاتنا وذكرياتنا عن جزائر واعدة قبل سبعة عشر عاماً. وجدنا لديه طموحات كثيرة. ولكنه لم يتحدث عن المجموعة التي تنشط ضده في قلب النظام. ولم يتضح الأمر إلا بعد هذا اللقاء، ومع متابعتنا للأخبار. لم يتقدم شيء، وبدأت الانقلابات، وبرزت الأحزاب الدينية رغم وجود حركات عمالية تعتبر من أقوى الحركات. في هذا الوقت بالذات، كانت الاتهامات بالشيوعية هي الرائجة، ويتلقطها الرؤساء كما يتلقطها صغار الصحافيين، وكما يتلقطها موظفون طامعون في وظيفتك وإزاحتك، ويهمسون بها في آذان المسؤولين كما حدث معي منذ أن كنت وكيلا لوزارة الصحة. في الجزائر، كانت الشيوعية تهمة توجه إلى رئيسة الحركة العمالية لويزة بن حنون، تلك الشخصية القيادية التي قرأت عنها كثيراً رغم أنني لم ألتق بها. وهي ذاتها التي رشحت نفسها أخيراً لرئاسة الجمهورية في مواجهة الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة. ومع كرايسكي ليس لدي ما أتذكره من هذا اللقاء سوى هذه الصفحة العابرة. لكن بعض الشخصيات لاتسمح لك بأن تخرج خالي الوفاض من اللقاء بها. وقد تترك فيك عبارة مرت أثراً لا ينسى. وسيكون من المناسب أن نرى على أرضية ما سبق من قصص رؤساء مثل ضياء الحق ونميري وصدام ومبارك، كيف تبرز شخصية مغايرة، صريحة وواضحة تحاور الآخر، سواء التقى معها أو اختلف. تلك هي شخصية المستشار النمساوي برونو كرايسكي الذي كنت أجده الأكثر تفهماً للوضع العربي بين السياسيين الأوروبيين. توثقت علاقتي الشخصية بكرايسكي إلى درجة كبيرة منذ أن بدأت معرفتي به خلال الندوة الأولى للحوار بين وكالات الأنباء الأوروبية والعربية في فيينا في نوفمبر 1977. كانت هذه الندوة حلقة في سلسلة بدأتها بعد أن انتخبت رئيساً لاتحاد وكالات الأنباء العربية، وحرصت خلال ثماني سنوات من رئاستي على الحوار والتعاون المثمر بين وكالات الأنباء العربية والأوروبية، لخلق حوار اعلامي عربي- اوروبي، هذا الحوار الجاد لتطوير الاعلام العربي بالاستفادة من خبرات الاعلام الأوروبي الذي لم يستمر مع الأسف حين تركت «كونا» في عام 1992. اثناء هذه الندوة الأولى جاءت زيارة السادات للقدس وبدأ قلب مفاهيم الصراع مع عدونا التاريخي، واتخذت كل قضايانا مسارات متشعبة، تتباعد فيها أهداف ووسائل كل الأطراف العربية بعضها عن بعض، ولكنها تكاد تلتقي حول أمر واحد، هو الانحراف باتجاه العجز عن مواجهة الهيمنة الصهيونية. في اليوم التالي على هذا الحدث أقام كرايسكي مأدبة غداء تكريماً للوفود المشاركة في الحوار. وهنا دار بيني وبينه حديث طويل عن الزيارة، عن دوافعها وأهدافها والآثار التي ستتركها في العالم العربي. وكان مما قلته أنه لا يمكن أن تقام أي جسور بين اسرائيل وأي دولة عربية لأن الشعب العربي بشكل عام، والمصري بشكل خاص، يرفض هذا بقوة. وتابعت: «قد تنجح اسرائيل في عقد معاهدة صلح رسمية بينها وبين أي حكومة عربية، وهو ما حدث لاحقاً بينها وبين مصر، ولكنها ستلاقي الفشل الذريع في كافة محاولاتها جعل العرب يقبلون بوجودها أو تطبيع العلاقات على الصعيد الشعبي معها». قبل ذلك، وحين التقيت بكرايسكي في الكويت، وزرته في قصر السلام وتناقشنا في موضوع اسرائيل اتضح لي من كلامه أنه ضد اسرائيل، والآن وجدته يصغي لحديثي بجدية تامة، ولم تغير وجهة نظره حتى الانقلابات العربية على طريق هذا الصراع. اللافت للنظر أنني حين رأيته بعد ذلك بسنوات، في عام 1985، اثناء مشاركتي في ندوة الصداقة العربية في بادن، وجدته يتحدث عن العلاقات العربية - الاسرائيلية، ويشرح للحضور ما يراه ممارسات خاطئة للأحزاب الاسرائيلية، ثم يفاجئ الحضور بالقول: «لدي معلومات أظنها لا تخفى عليكم، بأن لدى اسرائيل قنبلة ذرية». واثارت هذه المعلومة ضجة بين الحاضرين. وطلبت التعقيب على كلمته، فقلت: «ان لدينا نحن العرب امكانية صناعة قنبلة ذرية، ولكننا غير متفقين للأسف الشديد». فقال كرايسكي: «ولكن هذا السلاح غير انساني». قلت: «لا أقصد القنبلة الذرية التي تنتجها المصانع العسكرية، بل امكانية أقوى تأثيراً من تلك الاسرائيلية، ولكنها لم تدخل حيز التنفيذ». وبدت الدهشة على وجوه الحاضرين، فتابعت موضحاً: «القنبلة التي ستفجر العالم العربي يوماً، وسيغطي تأثيرها على القنبلة الإسرائيلية هي غياب الديموقراطية عن عالمنا العربي. الديموقراطية هي ذلك السلاح الذي لو مارسه العرب في إطاره الصحيح، لأخذت كل الشعوب العربية دورها الرائد في المنطقة، الدور الكفيل بإرجاع إسرائيل وكل من يدعمها إلى حجمهم الطبيعي». وعلق كرايسكي: «إذا كان هذا القصد بالقنبلة فأنا أتفق معكم». في مواجهة الإعلام الأميركي لا يكتمل هذا الفصل من المواجهات واللقاءات والجولات الإعلامية في الجغرافية السياسية من دون ذكر مواجهاتي مع الأميركيين، وبخاصة الإعلام الأميركي، خلال إدارتي للوكالة. وفي هذا السياق هناك قصص وقصص تختفي وراءها الكثير من الالتباسات. لقد دعيت عدة مرات للقيام بزيارة للولايات المتحدة، إلا انني كنت أتردد في القبول وأضع يدي على قلبي، لأن الصورة التي تكونت لدي عن تلك الدولة آنذاك هي أنها عالم قائم بذاته ولا تربطه بعالمنا أي صلة، وأنها مجتمع ليس بوسع الإنسان أن يعيش فيه عيشة طبيعية وبراحة نفسية. كما كانت تتملكني في كل مرة أتلقى فيها دعوة مشاعر تخوف بسبب الممارسات الأميركية ضد شعبنا العربي، وعلى وجه الخصوص موقفها المؤيد بشكل دائم للكيان الصهيوني على أرض فلسطين. في عام 1980، وقبل موعد افتتاح مكتب «كونا» في واشنطن، زارني مسؤولون من السفارة الأميركية وجددوا لمرة ثالثة دعوتي لزيارة بلادهم ضيفاً على وزارة الخارجية. قبلت الدعوة من ناحية المبدأ، إلا انني اشترطت أن لا تكون على نفقة وزارة الخارجية. واتصلت بالشيخ جابر العلي، وزير الإعلام، المشرف على عمل الوكالة، وأخبرته بقبول الدعوة مشروطة بما ذكرت، فلم يعارض، وقال: «اذهب على حساب الحكومة». ممنوع من الدخول وعندما اقترب موعد افتتاح مكتب «كونا»، قررت أن الوقت مناسب للقيام بهذه الزيارة، وأبلغت السفارة الأميركية انني سأتوجه إلى واشنطن بعد اسبوع فطلبوا جواز سفري لوضع تأشيرة الدخول. فأرسلته مع مندوب، وذهب المندوب وغاب طويلا، وظل جالساً كما علمت حتى أغلقت السفارة أبوابها من دون أن يحصل على جواز السفر، وعاد ليبلغني أن سبب التأخير هو جهاز الكمبيوتر، أو هكذا فهم من مسؤول السفارة. لم اقتنع، وتضايقت، واتصلت بالسفارة أسأل عن حقيقة الأمر، فقالوا بصراحة ان اسمي وارد ضمن قائمة الممنوعين من دخول الولايات المتحدة! لم أفاجأ، وابتسمت، وأخذت الموضوع بنية حسنة، وقلت لنفسي، هذه سفارة تعمل في خدمة مصلحة بلدها. ولكن ما أثار استغرابي وتساؤلاتي هو أنني لم أفعل شيئا بامكاناتي المتواضعة يهدد المصالح الأميركية. وتبادر الى ذهني أن هناك، حتى بالنسبة للولايات المتحدة من ينقل اليها معلومات مشوهة. قلت للمندوب: «عد واحضر جوازسفري، ولاتخرج من السفارة من دونه» ماطلت القنصلية في ارجاع جواز سفري، فقلت لهم ، لم أعد راغباً في الذهاب الى أميركا. بعد يومين تسلمت رسالة من السفير الأميركي يعتذر فيها عما أسماه سوء فهم؛ لقد تم وضع اسمي على قائمة الممنوعين عن طريق الخطأ، وعمم الأمر على سفاراتهم في كل أنحاء العالم. وقال السفير إن اسمي رفع من القائمة، ويمكنني الحصول على تأشيرة دخول في أي وقت. بالطبع لم تعد الدعوة الأميركية الرسمية قائمة، فسافرت بصفتي رئيس مجلس ادارة كونا الى واشنطن لحضور حفل افتتاح مكتبنا هناك. في تلك الزيارة تأكدت نظرتي الى أميركا؛ رغم أنني قابلت العديد من الأميركيين، لكنني لم أستطع حينها القول ان لي صديقاً بينهم. كان صديقي الوحيد خلال تلك الزيارة هو ابني الذي يدرس هناك. بعض الأصدقاء الذين علموا بقصتي مع السفارة الأميركية، سألوني: »هل عانيت المشكلة نفسها مع الاتحاد السوفيتي الذي زرته عدة مرات»؟ أجبت بالنفي، وفسرت السبب على شكل دعابة: »قد يكون السبب أن السوفيت يعانون من تخلف في تقانة الكمبيوتر، ولذا هم يؤمنون بقيمة التعامل الانساني بعيداً عن التعامل بالوسائط الصناعية»! ولكن هذا التفسير لم يكن دقيقا في ما يتعلق بالجانب الأميركي على الأقل. وقد برهن تدفق الصحافيين الأميركيين على الكويت في عام 1983، عندما وقعت تفجيرات ضد السفارتين الأميركية والفرنسية، وفي المقهيين الشعبيين، على أن ما يبدو تقانة صناعية، تقف وراءه أجهزة يعمل وراءها بشر بوجوه وملامح، لامجرد روبوتات صناعية. القليل من هؤلاء الصحافيين جاء لتغطية الانفجارات في المنشآت الكويتية، وانصرفت الأغلبية الى جمع معلومات لأجهزة معينة يعملون لديها، ولم يكن الهدف تزويد الرأي العام الأميركي بالمعلومات الدقيقة. وحدث في وسائط الاعلام الغربية في تلك الأيام تشويش مقصود. من جهة تضخيم ما جرى في الكويت، رغم أنه تكاد تكون أمثاله أحداثا يومية في أميركا نفسها وفي معظم دول أوروبا، ومن جهة ثانية إبعاد المشاهد الأميركي عن معرفة أن التفجيرات التي تعرضت لها الكويت كانت موجهة ضد سياساتها المتوازنة والمستقلة، والى نظامها الديموقراطي ودستورها وبرلمانها المنتخب، ولتعطيل دورها في مجموعة دول عدم الانحياز. والعجيب أن شبكة سي. بي. اس التي أجرى فريقها مقابلة معي في يوليو 1985، ورغــــم علمها أنها تستضيف رئيس مجلس ادارة وكالـــــة أنبــــاء كويتيـــــة، بثت من المقابلـــــة الجـــــزء الذي قلت فيـــــه ان الكويت لن تساوم على أمنها ولن تخضع للارهاب، وربطت فيه بين حرية الرهائن الأميركيين في لبنــــان وبـــين 17 سجيناً أدينــــوا بجرائم تفجيرات في الكويت في عــــام 1983. ولم تبث معظم مـــا قلتـــه حــــين حملت الولايات المتحــــدة مسؤولية مــــا يحصل لمواطنيها ومؤسساتها في المنطقة العربية. وأن الـرأي العربي يعتبر مـــا يحصل للرعـايا الأميركيين نتيجـة طبيعيــة لسياسات الحكومـة الأميركيـة. لم تكن أجهزة الاعلام الأميركية تتحمل حتى توصيل حقيقة أن الغزو الاسرائيلي للبنان، وقتـل وتهجير الالاف من المدنيين اللبنانيـين الأبرياء، لم يكن ليتم لولا دعم الولايات المتحـدة المتواصل والكامل لاسرائيـل. |
السدرة (16)
التعتيم على الأخبار يشجع انتشار المدسوسة والملغومة لقاء أجراه معي تلفزيون الكويت في أوائل عام 1984، قلت إن غياب الديموقراطية هو مشكلة عالمنا العربي. وكنت أعني في ما أعنيه، الحرية الإعلامية، حرية الرأي، واذكر أنني قلت يومها: «إن نكساتنا في الأمة العربية مصدرها غياب حرية الإعلام، فإن تكلمنا بالغنا، وإن سكتنا عشنا في ظلام، ولا أفضل من العيش في نور». وفي عالم تسوده حرب وكالات الأنباء والأخبار المدسوسة والملغومة، تتضح أهمية سرعة نقل الأخبار، وعدم التعتيم عليها، والحرص على المصداقية من دون تهويل أو استفزاز أحد. ومن هنا كان توجهي منذ تسلمت مسؤولية تأسيس كونا، أن الإعلام الحر أفضل من الإعلام الموجه، وكانت استقلالية الوكالة أيضاً أول مطلب خطر ببالي، حين واجهت هذا التحدي وسط إعلام عربي نجده يخضع في بعض البلدان للتوجيه الرسمي، فيضطر المواطن إلى اللجوء إلى إذاعات أجنبية معادية، ليسمع شيئاً من أخبار بلده هو، فيصدق ما يقال مضطراً لأنه يفتقر إلى الخبر، ويفتقد حرية الإعلام داخل البلاد العربية. تجربة رائدة تجربتنا في الكويت إذن كانت رائدة. ولن أكون مبالغاً إذا قلت ما كررته مراراً خلال عمل كونا وفي ذروة نشاطها، إننا في الحقيقة كنا في نعمة، وعبرت في أكثر من مناسبة عن تقديري واحترامي للمسؤولين والحكومة، لأنها لم تتدخل يوماً في توجيه الوكالة في ما يتعلق بالأخبار، فنحن نخرج بالخبر ونتحمل مسؤوليته، فإذا كان هناك خطأ يتم لفت نظرنا، أو يقال بأن الخبر غير صحيح، وعندها ندقق فيه. بالطبع وقعنا في أخطاء في البداية، إلا أنها لم تكن نتيجة إهمال، لأن الإهمال يواجه بالعقوبة. كان رائدنا أن الإعلام الحر هو الذي ينبع من الشعب، ويعبر عن الرأي الصحيح، وحاجتنا هي إلى إعلام يدخل كل بيت، ولسنا بحاجة إلى إعلام رسمي. نحن بحاجة إلى إعلام موضوعي يمثل الشعب ووجهة نظره. بالطبع من المطلوب توافر الرقابة الذاتية لا الرقابة المفروضة. وسأضرب مثلا دالا. حين تسلمت كونا لم تكن هناك رقابة على الإطلاق. جمعت زملائي رؤوساء الأقسام والمحررين، وقلت لهم: «ليكتب كل واحد خبراً ويوقع عليه باسمه، لو حدث خطأ أنا أتحمل المسؤولية وحدي، وأنا أحاسبكم عليه، ولكنني أتحمل المسؤولية أمام الدولة. أرجوكم أن تكونوا حذرين.. لابد من فرض رقابة ذاتية». وهكذا اعتمدنا بالدرجة الأولى على مراسلينا دائما، وعلى التدقيق في ما يصلنا عبر الوكالات المختلفة، من أميركية أو أوروبية أو من العالم الثالث. لقد كنا في سباق دائم مع الوكالات الأخرى، وكان الزملاء حريصين بالفعل على مصلحة البلد وأمنه القومي. ويشعر الجميع أنه مسؤول لأن سياستنا كانت العمل الجماعي، فلا رئيس ولا مرؤوس. بالطبع هناك هيكل تنظيمي، لكن العلاقات داخل كونا كانت علاقات عائلة واحدة متعاونة. اعتداء على سفارتين وتجربة تغطية الاعتداء على السفارتين الأميركية والفرنسية في عام 1983 مثال بارز على طبيعة عملنا. حين حدث الاعتداء نشرنا الخبر مباشرة كما هو. وجاء الصحافيون ورجال الإعلام ووكالات الأنباء من كل الأنحاء، ولم يجدوا شيئاً ينقلونه إلى صحفهم أو إلى وكالات أنبائهم التي يعملون فيها أكثر مما نشرنا. صحيح حاول بعض المسؤولين وقف بث وكالة كونا، إلا أنني شرحت لهم وجهة نظري، وملخصها، إننا ننشر أخبار الحدث كما هي، حتى يرى العالم كل شيء واضحاً، ولا يستطيع أحد تحريفه، لانزيد ولا ننقص، وبالتالي تصبح لنا مصداقية إعلامية. ..وفي المقاهي الشعبية وهناك تجربة أخرى مررنا بها خلال تغطيتنا لأخبار تفجيرات المقاهي الشعبية تغطية كاملة، وكان هناك دعم من المسؤولين. سارعنا يومها إلى توزيع مندوبينا على المواقع، ودققنا في كل الأخبار التي بثتها الوكالة، مما ساعد على سرعة الوصول إلى الخبر وبثه الذي انفردنا به، ووفر طمأنينة للمواطن الذي رفض الاستماع إلى الاشاعات بوجود الخبر الصحيح. وكان هناك مواطنون اتصلوا بنا مباشرة، وانشغل 46 خطا هاتفيا لدينا انشغالا دائما، وانهالت علينا الاتصالات من الداخل والخارج، لأننا كنا المصدر الوحيد لخبر التفجيرات، وتحركنا بسرعة وكفاءة. لقد حصلنا على الخبر قبل وكالات الأنباء التي نقلت عنا، ووجدت تغطيتنا صدى جيداً في الصحف العالمية، وشعرنا بالسعادة ونحن نرى الخبر يتصدر الصحف الأجنبية مسنوداً إلى وكالتنا الوطنية. وحين كانت بعض الوكالات تشوه الخبر، كنا نتصل بها ونخبرها الخبر الصحيح، ونطلب منها نشر ما تشاء. وفق هذا النهج، وفي سياق الإصرار على الاستقلالية، سارت كونا، ليس في مجال الأخبار فقط بل في مجال الدراسات والأبحاث أيضاً. كان لدينا قسم للأبحاث والمعلومات يصدر كتيبات في كل مناسبة، مثل مناسبات المؤتمرات الإسلامية أو القمم العربية أو مؤتمرات مجلس التعاون الخليجي أو دول عدم الانحياز، أو مناسبة زيارات سمو الأمير أو ولي العهد لبلد من البلدان، بالإضافة إلى الدراسات الخاصة بالسياسات المحلية مثل السياسة السكانية. ملفات خاصة أطلقنا على هذه الكتيبات اسم الملفات الخاصة، وحاولنا تقديم الموضوعات مختصرة قدر الإمكان ليتمكن المواطن من الاطلاع عليها بسهولة، ويقرأها في يوم واحد، وتحفظ كمراجع يمكن العودة اليها. ونجحت هذه الملفات، بدليل تزايد الطلب عليها من داخل الكويت وخارجها. واستفادت منها جهات متعددة، صحفية وجامعية وبحثية. بفعل هذا الانتشار الذي تحقق لاسم الوكالة على الأرضية التي ذكرت، رؤية ونهجا، أصبح المواطنون يعرفونها، وصار لهم رأي في تقييم مدى نجاحها من عدمه، فهم الذين ينتقدون أو يقترحون، ونحاول من جانبنا تنفيذ مقترحاتهم. • هل حاولت كونا تحقيق مبدأ ديموقراطية الاعلام؟ ــــ من واقع الخبرة والتجربة أستطيع الاجابة بنعم. وأقول انها حاولت، لأن لا طريق سوى هذا، أي التدرج الممكن. ولست مع تلك النظرية التي يزعم أصحابها أن الديموقراطية لدى الشعوب المتخلفة تعني حكم الأغلبية الغوغائية، هذا غير صحيح، أنا انسان حر، ولدت حرا ويجب أن أعيش حرا، وهذه أرضي، وهي الأرض التي أعيش وأموت عليها، وأنا أحبها وأخدمها واشعر بالمسؤولية بغض النظر عن المكان الذي أشغله أو نوع العمل الذي أقوم به. المهم أن يكون لي رأي في شؤوني وشؤون بلدي، أو هناك على الأقل من يمثلني في ورشة صناعة القرار. كسبت الرهان يبدو أنني كسبت الرهان، رهان النهج ورهان المسيرة. سواء في مواصلة تعميق فكرة الاعلام الذي لا يمكن أن يقدم أجل الخدمات لوطنه، الا اذا كان حرا، أو في الوصول بهذا النهج الى نهايته القصوى، حتى وان اقتضى الأمر الاستقالة والتخلي عن المنصب. لا مساومة حين يتعلق الأمر بما تلمس وما ترى عيانا أنه الصواب، أو ما يتعلق بمبادئ نشأت عليها فأصبحت توحد بين الفكر والسلوك بلا انقسام بين ما تفكر فيه وبين ما تفعله. هذا هو الجو الذي واجهت فيه، كما واجه الوطن كله، أزمة الخيار بين أن تواصل نقل الخبر الصحيح، او تتوقف أمام حسابات المكسب والخسارة الشخصيتين فتختار نقل الخبر الملفق. واخترت ما رأيت أنه الأصوب لي وللوطن، لماضيه ومستقبله، نقل الخبر الصحيح، وتحملت تبعاته. حدث هذا في غمار عام 1990، وكان قد مر على حل مجلس الأمة وتعليق الدستور ما يقارب الأربع سنوات، وبدأ الاعداد لاجراء انتخابات ما سمي آنذاك المجلس الوطني ليحل محل مجلس الأمة. لم تكن فكرة هذا المجلس، بالقيود التي جاء بها مرسوم تأسيسه وخفضت سقف التمثيل الشعبي فيه، مقبولة لدى غالبية الشعب الكويتي. وبصفتي مديرا لكونا، واحساسي أنها موضع أنظار وكالات الأنباء، وموضع ثقة المواطنين، تابعت شخصيا نتائج تلك الانتخابات. وزعت المندوبين على الدوائر الانتخابية، وشددت عليهم أن يأتوا بالنتائج النهائية من وزارة العدل. وخلال المراقبة والمتابعة لاحظنا أن نسبة اقبال الناخبين على صناديق الاقتراع كانت متدنية جداً، فنشرت هذا الخبر محلياً وخارجياً لأنه واقعة حقيقية لا تقبل تحريفاً، ولأن قول عكس ذلك يعني أن الوكالة تمارس خداع الناس. بعد نشر هذه المعلومات الأولية اتصل بي حمد الجوعان ليسألني عن حقيقة موقف الناخبين ومدى اقبالهم على التصويت وعن النتائج، ثم سألني: «هل أنت بخير؟ هل حدث معك شيء؟» استغربت السؤال، وطمأنته: «أنا بخير» قال: «سأزورك في الوكالة» وما أن وصل حتى أعلمني بسبب قلقه؛ أخبرني أنه سمع خبر اعتقالي بسبب نشري خبر قلة الاقبال على التصويت، وبسبب النتائج التي نشرتها، وكانت تعاكس النتائج الرسمية التي أعلنتها الحكومة. وبعد دقائق اتصلت بي ابنتي مها وسألتني: «أبي .. هل أنت في الوكالة؟» قلت: «نعم.. ماذا يحدث؟» «سمعت أنك معتقل!» «أنا قادم الى البيت» تردد حكومي حدث هذا يوم 10 يونيو 1990، في وقت كانت تبث فيه كونا أن نسبة التصويت بلغت 26.3%، بينما تعلن أخبار منسوبة الى مصادر رسمية حكومية أن نسبة المقترعين وصلت الى 41%. كانت الحكومة منزعجة جداً من قلة نسبة المقترعين، وظلت مترددة في اعلان النتائج النهائية الرسمية طيلة 48 ساعة. والحقيقة هي أن النتائج أعلنتها الحكومة في مساء اليوم التالي، وأكدت نجاح الانتخابات، ومشاركة 62.3% من الناخبين في التصويت من دون أن تعلن النتائج التفصيلية لما حصل عليه كل مرشح. لقـــد جــــاءت انتخابات المجلس الوطني في جـــو معارضة قويـــة لاجرائها ومقاطعة عبرت عن نفسها في تـــــدني نسبـــة المقترعــــين. ومـــــا كان لنــــــا الا أن أن نعكس هــــذا الواقــــع في أخبارنا انسجاماً مــــع مبــــدأ نهضت عليــــه كونـــا، وبسببه اكتسبت مكانتها المتميزة، ألا وهـــو مبــــدأ الاستقلال عن التدخــــل الرسمي، وخاصة اذا كان هذا التدخــــل سيفقدها مصداقيتها في نظر المواطنين وفي نظر العالم الخارجي. في البيت، ومع كثرة الاتصالات الهاتفية التي وصلتني، إما للاطمئنان الى انني بخير ولم يعتقلني أحد بسبب صدق أخبارنا، أو للشد على يدي وتثمين الموقف الذي وقفته «كونا» لمصلحة الحقيقة، سمعت أن هناك تحركات ضدي. وبالفعل نشرت إحدى الصحف خبر استقالة رئيس وكالة الأنباء الكويتية بدفع من أحد المسؤولين. لم يواجهني أحد، بل اتخذت التحركات ضدي طريقاً ملتوياً. تم إقرار قانون الإحالة إلى التقاعد بسرعة لكل من أمضى في الخدمة ثلاثين سنة، وبما انني من الذين أمضوا في الخدمة ثلاثين سنة، تمت إحالتي على التقاعد، أو الخلاص مني بطريقة مهذبة بالاحرى، وعلمت أن نقاشا دار في مجلس الوزراء، وطالب بعضهم بالتحقيق معي، إلا أن الشيخ جابر العلي، وزير الإعلام، نصح لهم باتخاذ قرار الإحالة على التقاعد. وعندما تأكد لي أنهم في سبيلهم لاتخاذ مثل هذا القرار، لم أرغب بإحراج الحكومة أكثر مما أحرجت بسبب أرقامها الرسمية عن الانتخابات، والتي ظهر أنها غير واقعية، فقمت بكتابة استقالتي. ولكن ما أدهشني أن تنشر إحدى الصحف على صدر صفحتها الأولى خبر استقالة رئيس وكالة الأنباء الكويتية في صباح اليوم التالي، مع انني لم أكن عرضت الاستقالة بعد على مجلس الوزراء! لم أفعل شيئاً سوى إرسال رسالة عتب، أعاتب فيها من سرب خبر استقالتي، وأخذت إجازة لمدة ثلاثة أشهر، وسافرت مع أسرتي إلى لندن، ومن هناك ذهبت مع زوجتي إلى مقاطعة البحيرة Lake District شمالي غرب انكلترا. في مقاطعة البحيرة هنا خلال وجودي في مقاطعة البحيرة، بدأت الأزمة بين الكويت والعراق، وبدأ تبادل الرسائل عبر الجامعة العربية؛ وزير الخارجية العراقي طارق عزيز يرسل رسالة إلى الجامعة العربية يتهم فيها الكويت بسرقة النفط وتجويع العراق، ووزير خارجيتنا الشيخ صباح الأحمد يرد عليه ويفند ادعاءاته، من دون أن يخطر ببال أحد أن افتعال هذه الأزمة سيجر الخراب على المنطقة العربية. وظهرت في الجو غيوم منذرة بالأسوأ. ومن مكاني هناك في فندق ساحل شاوربيل، بدأت أتواصل مع الوكالة عبر الفاكس. وكتبت رسالة موجهة إلى صدام حسين كانت مناشدة من أجل العودة إلى العقل والحكمة. وجاء في نصها الذي ما زلت أحتفظ به: «.. إن الخلاف الطارىء بين العراق والكويت أحدث ألماً عميقاً لدى كل مواطن عربي، فقد جاء في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى وحدة الموقف والصف». وقلت مذكراً: «.. أعلنتم ميثاق التضامن العربي الذي يدين استخدام القوة والعنف في حل الخلافات العربية، وقلتم في إحدى المناسبات، نحن نحتفظ بأسرارنا كعرب حتى لا نختلف، كما أنه لا توجد حواجز نفسية أو فعلية مع أشقائنا.. فما الذي حدث ليغير هذه القناعات وليكشف ظهورنا لأعداء أمتنا العربية؟ أنتم تعلمون أن أي حملة معادية للعرب أو أي خلاف جانبي بينهم يهدف أساساً إلى تشتيت الطاقات والجهود التي يجب أن توظف من أجل العمل الجاد لاستعادة الحقوق العربية المغتصبة، وللدفاع عن قضية فلسطين التي أخذت تتراجع إعلامياً وسياسياً إلى الخطوط الخلفية من الاهتمام العالمي، وسط الانشغال بقضية الخلاف العراقي مع الكويت والإمارات بينما يتعرض شعب فلسطين إلى حرب إبادة على أيدي العدو الصهيوني، كما تتعرض أرضه إلى غزو بشري من قطعان المهاجرين اليهود، وما يشكل ذلك من تهديد خطير للأمن العربي». واستبعدت الأوساط الإعلامية والتحليلات السياسية، على قاعدة معايير عقلانية، أن يكون وراء هذه التحرشات والاتهامات إعداد لغزو عسكري، ووضعت كل هذه الإثارة في إطار محاولة ابتزاز المزيد من الأموال الكويتية، أو الحصول على مكاسب في الأراضي الكويتية. حول رقعة الشطرنج كان الرأي السائد تقريبا أن من المستبعد أن تكافأ الكويت بعد سنوات من وقوفها ماليا وسياسيا مع العراق في حربه على إيران بهجوم من هذا النوع. ولكن يبدو أن كواليس السياسات الدولية كانت تخطط لشيء آخر، فتفتح الطريق للنظام العراقي لارتكاب حماقة خطيرة تتجاوز أي عقلانية سياسية. ليس من المعروف حتى الآن ماذا كانت أهداف المتحلقين حول رقعة الشطرنج آنذاك، ومن منهم كانت نقلاته محسوبة ومن منهم كانت نقلاته تعبر عن جهل وغباء، ولكن ما أظهرته الأحداث بعد ذلك، وما تكشف، أثبت أن اللاعب الأميركي كان ينقل أحجاره بخطوات محسوبة، بينما كان النظام العراقي يندفع وراء نقلات غبية ستدمره في النهاية، وكانت الكويت ضحية هذه اللعبة التي أورثتها مأساة غزو لا منطق له ولا حجة. في جو هذه الهواجس والتوقعات انتقلت إلى لندن لأكون أكثر قرباً من الأحداث، ولأستطيع متابعة مجريات التحركات السياسية، وليكون لي دور شعرت أننا كلنا مطالبون به. وبعد ثلاثة أيام اتصل بي خال زوجتي، خالد الحميضي، رحمه الله، وحمل لي خبراً غريباً؛ هناك إطلاق نار في شارع فهد السالم، والتفاصيل غير معروفة. كانت محادثات جدة التي عقدت مساء الثاني من أغسطس 1990 بين وفد يرأسه ولي العهد الشيخ سعد العبد الله ووفد عراقي يرأسه نائب الرئيس العراقي عزت الدوري قد انهارت، ولم تخرج بأي حل، وتبين أن مطالب العراق المبالغ فيها لم تستهدف التوصل إلى حل، بل تقديم الذريعة لما هو مخطط له سلفاً. وفي الساعات اللاحقة التي تلت مغادرة الوفدين جدة، بدأت شاشات وأخبار الوسائط الدولية تتحدث عن اختراق طوابير الدبابات العراقية للحدود الكويتية، والتقدم في الأراضي الكويتية، وأن هدفها الكويت كلها! كانت الأخبار أشبه بصواعق تنهال على الاسماع، ولا أكاد أصدق ما أسمع وما أرى. لماذا؟ ولمصلحة من؟ كارثة الغزو أبعد كل ما قدمنا نكافأ بالقتل والتشريد؟ أسئلة ظلت تدور في رأسي، ولا أجد جواباً معقولا، فأمسك بسماعة الهاتف وأتصل بمكاتب وكالة كونا في الكويت لاستطلع ما يجري في الثالثة والنصف فجراً، ولا أجد هناك غير عامل البدالة وداوود سليمان المحرر المناوب في قسم التحرير، فيخبرني بأنهم علموا بوجود الجيش العراقي على الحدود الكويتية. طلبت منه أن يتأكد ويتصل بي. وانتظرت حتى السابعة والنصف صباحاً بتوقيت الكويت من دون أن يهدأ لي بال. وجاءني الاتصال، وأخبروني أن الجيش العراقي دخل الكويت. قال داوود بصوت قلق: «أنا أبحث عن مسؤول لآخذ منه تصريحا ولا أجد أحداً!» قلت وأنا أكثر قلقاً: «زودني بأي معلومات فور وصولها» اتصلت بالمنزل، وتحدثت مع ابنتي مها، فسألتني: «هل أذهب إلى العمل أم لا؟» «القرار لك» ولم تذهب إلى عملها بالطبع. لم يكن الوضع جلياً، لا لمن في الكويت ولا لمن خارجها، وكان الذهاب إلى العمل في مثل هذه الوضعية يعني مسايرة الاحتلال، ولم يكن أحد منا مستعداً لارتكاب هذه الجريمة ومسايرة المحتلين. ولكن كان لدي ما أعمله، ولابد أن أعمله، وخاصة بعد أن انقطعت الاتصالات بيني وبين الوكالة في الكويت. ذهبت إلى سفارتنا في لندن، والتقيت بالسفير غازي الريس ود. أحمد الخطيب وجاسم القطامي، وتحدثنا وتبادلنا الآراء حول ما يجري. وكان مما قاله د. الخطيب: «صدام حسين مجرم، ولن يتردد أبداً، وسيبطش بالشعب». غادرت السفارة إلى مكتب كونا في لندن، في الطابق السادس من البناية رقم 150، شارع ساوثهمبتون، والتقيت هناك بمدير المكتب حسني إمام والسكرتيرة، ووجدتهما في حيرة من أمرهما لا يعرفان ما يفعلان شأنهما شأن الجميع. كانت الصدمة أبرز ما تلمسه على الوجوه، وما تسمعه من تساؤلات، ولكن تفكيري تركز على ما يجب أن أفعله. وفكرت، بما أن الجيش العراقي دخل الكويت، إذن ستنتهي وكالة كونا بمرسوم عراقي فوراً، ولن يسمح لها بأن تتنفس. فما العمل؟. في هـــــذه الاثناء اتصل بي مصادفة عدلي بسيسو، الذي عمل معنا في الوكالة قبل أن يهاجر إلى كندا، يستفسر ويسأل، فطلبت منه أن يأتي إلى لندن بأسرع وقت، وطلبت من إحدى المحررات، وكانت موجودة في لندن، أن تلتحق بنا في المكتب، وكذلك فعلت مع كل من اتصل بي من الكويت: «تعالوا إلى لندن لنرى ما سنفعل» بعد مرور ثلاثة أيام على احتلال الكويت أعلنا من مكتب كونا في لندن الخبر. وأعلمنا جميع الوكالات العربية والعالمية أن المقر الرئيس لوكالة الأنباء الكويتية أصبح في لندن، ومنه سنباشر نشاطنا. لم تكن لدينا الإمكانات لنعمل كمكتب رئيسي، إلا أن علاقاتي الطيبة مع بعض الوكالات العالميـة وفرت إمكانية مساعدتنا عن طريق فتح خطوط اتصالات لنا. وأرسل لنا الإخوان في قطر والسعودية أجهزة Teleprinter، وعن طريقها بدأت الوكالات العالمية تأخذ منَّـا الأخبار وتبثها. في اليوم الرابع اتصل بي الشيخ ناصر المحمد من الطائف، وطلب مني القيام بكل مسؤولياتي من مكتب كونا في لندن، فأخبرته أنني بدأت فعلا. وأرسلت خطابا إلى وزير الإعلام الشيخ جابر المبارك أطلب فيه تزويدي بتكليف رسمي لإدارة مكتب كونا في لندن، ولتكون لي صفة قانونية واستمر في العمل، لأنني قدمت استقالتي من قبل وأنا بحاجة لهذا التكليف الآن. وتلقيت التكليف الرسمي. |
السدرة(17)
«جبلاوي» من زودنا بأخبار الكويت.. وأعتقد أنه سليمان الفهد في العاشر من أغسطس1990، ووسط أكوام الصحف والملفات في قاعة مكتب كونا الرئيسية في لندن، اتخذنا قرار استئناف ارسال الوكالة، ووضعنا آلية تنفيذ على مراحل، تقوم على اعادة بناء جهاز فني وبشري قادر على القيام بالعمل الاخباري في وقت فقدت فيه الكويت وسائطها الاعلامية. وبدأت خطواتنا بتزويد مشتركي كونا بالأخبار عن طريق الفاكس، واعادة نسج شبكة المكاتب الخارجية واعادة الفعالية واللحمة الى مديريها ومراسليها الذين أفقدتهم الصدمة الاحساس باليقين عما سيحدث غداً، وعما يجب أن يفعلوه في ظل حالة شبه ضياع بدأ يعانيها العاملون معنا. وكان ضرورياً توفير كوادر ادارية وفنية ومهنية للوكالة خارج الكويت. التأسيس الثاني يمكن أن أسمي هذا الجهد الذي بذلناه في لندن باسم التأسيس الثاني لوكالة الأنباء الكويتية. وكنت خلاله المسؤول عن المكتب، أذهب اليه يوميا وأعود الى المنزل مشيا على قدمي لمدة ساعة، لم تكن لدينا ميزانية كافية. واتصالاتنا بالكويت متقطعة، الى أن أصبحت تأتينا الأخبار من هناك عن طريق الفاكس من شخص يطلق على نفسه اسم «جبلاوي»، أي من سكان منطقة جبلة، أعتقد أنه سليمان الفهد. واتصل بي شخص من باكستان من هواة اللاسلكي، كان عمل لدينا في وزارة المواصلات وكان مسؤولا عن الفاكس في كونا، وبدأ يزودنا بأخبار تصله عن طريق شخص من آل معرفي في الكويت، ونقوم من جانبنا ببثها. لم يقتصر نشاطي على العمل في الوكالة، بل اتسع عبر الاتصالات السياسية في لندن وخارجها. رسائل إلى عرفات في لندن التقيت بمدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية عفيف صافية مرتين، واستهدفت منهما إيصال رسالة إلى عرفات أقول فيها ان الكويتيين والنصف مليون فلسطيني في الكويت هم أول المتضررين من الاحتلال العراقي. لم أكن على يقين حتى تلك اللحظة أن هذا الرجل الذي وقعت نصائحي وتحذيراتي له في لقاءاتي معه في الماضي على أذن صماء، وكان يستقبلها باستخفاف أحيانا وسخرية في أحيان أخرى، لديه حسابات أخرى في وقوفه مع المحتلين، لا علاقة لها بمصير الفلسطينيين لا في الكويت ولا في غيرها. على العكس من قيادات فلسطينية أخرى، مثل صلاح خلف الذي وقف علنا وبشدة ضد الاحتلال، وواجه صدام حسين مباشرة وطلب منه سحب قواته من الكويت، وأنه لا يوافق على احتلال دولة عربية لأخرى، فكان مصيره الاغتيال ذات صباح شتائي في تونس مع اثنين من القادة اتخذا موقفه نفسه. خدام عاتب وفي سبتمبر ذهبت إلى دمشق للقاء نائب الرئيس السوري آنذاك عبد الحليم خدام بناء على موافقة من سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، والأخ الشيخ ناصر المحمد فوجدت لديه عتباً على بعض المسؤولين الكويتيين خلال فترة وجود مجلس الأمة، ومواقف بعض أعضائه من السياسة السورية. وعنى بذلك الموقف من الدعم المالي لسوريا، إضافة إلى هجوم بعض الصحف الكويتية المتواصل. ولكنه أنهى عتابه بالقول ان هذا ليس بوقت عتاب، بل هو وقت عمل. كان هذا العتاب يواجهنا في أماكن كثيرة، ولكنه كان أخف من الهجوم الضاري الذي واجهته الكويت من عدة اتجاهات ظلماً وعدواناً في عدة ساحات عربية، وقف وراءها مسؤولون حكوميون ومخابراتيون في هذه الدولة أو تلك لتأجيج المشاعر المعادية للكويت، وانتصاراً للمحتل، إما انتهازاً لفرصة كسب مالي أو استجابة لأدوار مرسومة، كما كان الحال بالنسبة للأردن وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي أذهل موقفها الفلسطينيين أنفسهم، وبخاصة من كانوا يعيشون في الكويت ويشهدون بأم أعينهم كيف يتم تقويض وجودهم الاقتصادي والإعلامي وتشريدهم في حالة ذكرت بعضهم بأحوال نكبة 1948. أين المعارضة؟ بعد العتاب، انتقل نائب الرئيس السوري إلى لومنا على التقصير تجاه الكويت، فنحن كما رأى لم نتحرك شعبياً لاستقطاب التنظيمات الشعبية والنقابات المهنية، ولم نعقد المؤتمرات لمناقشة الوضع في الكويت. ومضى إلى القول ان هناك مؤتمرات تعقد الآن تصور الظالم على أنه صاحب الحق والمعتدى عليه، أما الكويت، المعتدى عليها، فليس هناك من يقول كلمة الحق بالنيابة عنها. وتساءل: «أين تنظيماتكم الشعبية؟ أين المعارضة؟ لماذا لا تتوجهون إلى الجزائر وإلى عدد كبير من الفلسطينيين المناوئين لسياسة عرفات، وهم مستعدون لإصدار بيانات مضادة؟». بالطبع وعدت برفع هذه الاقتراحات الى المسؤولين الكويتيين، وهذا ما حدث، ولكني اقترحت في ما يخص سوريا تعاوناً اعلامياً بيننا، وتم وضع خطة بث اذاعي لنا من دمشق. في موسكو في اكتوبر من العام نفسه تحركت الى موسكو التي لي علاقـات جيدة بمثقفين فيها وأكاديميين، لأتعرف على انطباعات المبعوث السوفياتي الى الرئيس العراقي يفغيني بريماكوف، وكنت التقيت بـه مراراً. وخرجت بنتيجة أن الرئيس العراقي يمعن في ضلاله، أو غبائه بالأحرى، ربما لحسابات شخصية لديه خاطئة بالتأكيد وفق كل التقييمات التي سمعتها، حتى انـه لم يكن يستجيب لنصائح سياسيين عريقين في لعبة الشطرنج الدولية من وزن بريماكوف أو غيره. وقال بريماكوف انه طلب منا تعهداً بأن جيشه لن يضرب من قبل القوات الاميركية اذا انسحب من الكويت. المؤتمر الشعبي بعد الاعلان عن نية عقد مؤتمر شعبي كويتي في جدة في 13 اكتوبر، قررنا أن تبدأ «كونا» من لندن ارسالها الكامل عبر شبكتها الجديدة، وان يتزامن هذا الارسال مع انعقاد المؤتمر. وصلت الى جدة قبل موعد الانعقاد بأيام، بعد أن وضعت خطة التحرك الاعلامي: مواكبة نشاط الحكومة الكويتية ومسؤوليها، ومتابعة تحركات الوفود الشعبية والنيابية والاعلامية في مختلف أنحاء العالم، ومتابعة مواقف الدول والهيئات الدولية من الاحتلال متابعة دقيقة، وتغطية وتحليل كافة القرارات المتعلقة برفض وادانة الاحتلال. وفي جدة وصلني من لندن البيان الذي أعددناه ليكون مفتتح اعلان انطلاقة «كونا» الى العالم، لمراجعته مراجعة نهائية، فسلمني اياه زميلنا يحيى مطر معتمدنا لتغطية أنشطة الحكومة الكويتية في مقرها المؤقت في الطائف، فقرأته بعناية عدة مرات وأنا على طرف سريري في الفندق، ثم قلت له: «بلغ الزملاء في لندن أن يتوكلوا على الله». أذيع البيان، أو صوت الكويت بالأحرى، في الساعة التاسعة بتوقيت غرينتش من صباح الثالث عشر من اكتوبر، وكان تحية من «كونا» الى العالم واعلانا عن استئناف ارسالها المعتاد من مقرها المؤقت، باسم الوطن الذي دنست أعراضه وحرماته على أيدي سفاحي العقد الأخير من القرن العشرين، وباسم شهداء هذه البقعة الغالية من وطننا العربي، وباسم الأطفال الذين يتّمهم جيش العروبة الجرار، وباسم حرائر العرب الكويتيات اللواتي أثكلهن جيش القادسية.. وباسم مئات الالاف من الكويتيين والعرب الذين شردهم سيف العراق العربي.. وباسم الشرعية التي حاول المحتلون مصادرتها، وباسم وحدة الصف واللحمة والالتفاف الشعبي الكويتي الذي يتبلور اليوم بأبهى صوره، وباسم كل مبادئ العروبة والإسلام التي استند اليها وجود الوطن الكويتي وعطاؤه الدافق منذ بدايته، باسم كل هذا، وباسم حرية الكلمة والتعبير للصحافة الكويتية التي حاول دعاة الوحدة خنقها. الثوابت والمواقف وقدم البيان صياغة لسياسة كونا الإخبارية في إطار الثوابت والمواقف التي جاء مؤتمر جدة الشعبي معبرا عنها، وأهمها رفض الاحتلال ومطالبة شعوب العالم بإدانته وشجب ممارساته اللاإنسانية في الكويت المحتلة، ورص الصفوف خلف القيادة الشرعية وتأكيد الوحدة الوطنية، وبذل كل الجهود لتحرير الوطن ودعم الصامدين على أرضه، والرفض القاطع للمساومة على سيادة الكويت واستقلالها ووحدة أراضيها، ومطالبة مجلس الأمن باتخاذ قرار يجيز استخدام القوة لإزالة الاحتلال، ومطالبة العرب الذين خرجوا على الإجماع العربي في قمة القاهرة بمراجعة مواقفهم بما يتفق وتعاليم الدين الاسلامي الحنيف والمبادئ القومية والقيم الإنسانية، والتأكيد أن موقف بعض القيادات الفلسطينية لن يؤثر على تضامننا مع الشعب الفلسطيني في كفاحه العادل من أجل تحرير وطنه، واعتبار ذلك الموقف مسيئا بالدرجة الأولى إلى القضية الفلسطينية ومصداقية النضال الفلسطيني ومصالح الشعب الفلسطيني ذاته. كما أكد التوجه الإعلامي والسياسي على نقطتين مهمتين، الأولى على أن الكويت لا تضمر شراً ولا تحمل حقداً للشعب العراقي لأنه مغلوب على أمره ينتظر ساعة الخلاص، والثانية، التأكيد على أن بناء كويت ما بعد التحرير سيتم على أسس راسخة من وحدتنا الوطنية ونظامنا الشرعي، معززين الشورى والديموقراطية والمشاركة الشعبية في ظل دستورنا الصادر عام 1962. في المؤتمر الشعبي وجدت حشداً إعلاميا منقطع النظير من مختلف أنحاء العالم، مع حضور لمندوبي كونا في الخارج، فقمت بتزويد الوكالات العربية والعالمية بأخبار ونشاطات المؤتمرين، وبنص خطاب الشيخ جابر، رحمه الله، وخطاب عبدالعزيز الصقر، رحمه الله، وأبرز هذا التحرك الإعلامي دور مؤتمر جدة وأهميته التاريخية. التأسيس الثالث وعدت إلى لندن لمتابعة العمل في الوكالة، ولم أعد إلى الكويت مع زوجتي إلا بعد تحرير الكويت. وهنا بدأت مرحلة جديدة أعطيتها عنوان التأسيس الثالث لوكالة الأنباء الكويتية. وبالفعل كان الأمر تأسيساً من الصفر، وهالني ما رأيت من خراب ودمار واشعال للحرائق في آبار النفط، ولم يكن ما نال مكاتب كونا أقل تدميراً وتخريبا. كانت في حالة يرثى لها، تعمها الفوضى بعد ما تعرضت له من سرقة ونهب عصي على الوصف. في كل زاوية من زوايا الكويت كنت تجد علامات بارزة على تخريب متعمد وتدمير لكل معلم من معالم الكويت، في الشوارع والبيوت والمناطق الصناعية والواجهة البحرية، وكانت سحب حرائق آبار النفط السوداء تظلل سماء الكويت وتحيل نهارها ليلا. وأمام استحالة اسئناف عمل الوكالة من الكويت في ضوء انعدام اي امكانية، عدت الى لندن. وهناك طلبت حضور بعض الأشخاص وبدأنا نوسع عملنا. بعد ذلك بثلاثة أشهر بدأنا العمل الجاد لاعادة الحياة الى مكاتبنا في الكويت، فرجعت وأرسلت شخصين الى دبي لاحضار أثاث، وطلبت من الأخ أحمد القطامي مساعدتهما. ومع الوقت تكثف عمل كونا في الكويت، وقلصنا العمل في لندن، وعادت الأمور الى مجراها الطبيعي كما كانت قبل الغزو. وقت الراحة خلال انشغالي بتجهيز مقر الوكالة في الكويت، عاد قرار التخلص من هذه الشخصية الاعلامية الى التداول. كان بعضهم قد قالها بصراحة حين اعلان نتائج انتخابات المجلس الوطني الذي لم يعد الى الحياة بعد تحرير الكويت: «آن أوان التخلص من برجس البرجس» ووجد هؤلاء الحل الأمثل للتخلص مني في المقولة المهذبة الخالية من الفظاظة ظاهريا: «أنت خدمت بما يكفي.. لم تقصر.. وآن لك أن ترتاح وتنعم بالتقاعد.. الله معك»! كنت أعرف هذا الذي يصلني عن طريق مصادري الخاصة، وبسببه قدمت استقالتي الأولى، ولم أرجع الى العمل الا في وقت الشدة، ولمقاومة الاحتلال، وبتكليف رسمي، أما الآن وبعد أن انجزت واجبي، صار علي أن أقرر. اتخذت طريقي الى سمو الشيخ جابر الأحمد الصباح، وقدمت له نص الاستقالة، فوضعها جانبا، وأجل النظر فيها. فذهبت الى وزير الاعلام بعد التحرير بدر جاسم يعقوب، وأخبرته أنني مستقيل، ولديهم كتاب استقالتي، فقال: «لماذا الاستعجال؟» قلت: «لأنني حسب القانون خدمت لأكثر من ثلاثين سنة». لم يقل شيئا، وكان عليهم أن يجدوا شخصا آخر. وخلال ذلك واظبت على الذهاب الى الوكالة لفترة مؤقتة ريثما يتم تعيين رئيس جديد. خلال هذه الفترة اتصل بي يوسف السميط وأخبرني أنه أصبح مديرا لوكالة الأنباء الكويتية، فباركت له منصبه، وسألني: «متى أحضر لاستلام الوكالة؟». «الآن .. فورا». لم يأت الا في اليوم التالي، فقمت بشرح أوضاع الوكالة له، وسلمته كل شيء بما في ذلك الملفات السرية، وكانت آخر كلماتي له: «أولا أنا على استعداد لخدمتك في أي وقت، وثانيا أطلب منك من منطلق الأخوة الحفاظ على استقلالية الوكالة لأنني قمت بتأسيسها، وتعبت عليها حتى وصلت الى هذا المستوى». وأضفت: «استقلالية الوكالة مظهر حضاري وقـوة للكويت، فاذا أتاك خبر، أنت صاحب القرار لأن الرقابة لدينا ذاتية، والرقابة الذاتية أقوى من القانون المكتوب، واذا قمت بمراجعة الحكومة سيتأخر الخبر ويحترق، ولن تكون له أهمية. أرجوك أن تحافظ على هذه الاستقلالية، وسأكون في خدمتك في أي شيء». وخرجت من الوكالة مودعا بعد خمسة عشر عاما بدأت في عام 1976 وانتهت في عام 1992، ولم يتصل بي يوسف السميط بعدها، ولم يسألني عن أي شيء. وهيمنت الحكومة على الوكالة. |
السدرة(18)
18 شخصية من أهل الخير أسست الهلال الأحمر مع خروجي من وكالة الأنباء الكويتية، وبعد أن بنيتها ثلاث مرات، هل وصلت إلى نهاية الطريق إذن؟ بالتأكيد لا.. ليس لأنني لم أكن أبداً مستعداً للراحة والتقاعد فقط، بل لسبب جوهري مختلف قد يبدو غريباً عن عالم الوظائف والمناصب، عالم ينتهي فيه دور الإنسان حين يتخلى عن الوظيفة أو تتخلى عنه. السبب هو أن الوظيفة لم تكن بالنسبة الي مهمة أقوم بها مصادفة أو اتفاقاً، وأغادرها بالطريقة نفسها، بل كانت أسلوب حياة. في الوظيفة، سواء كانت في وزارة الصحة أو في عالم الإعلام، تكامل جانبان؛ الجانب الشخصي وجانب طبيعة العمل، وشكّلا وسيلة وهدف حياتي ذاتها. في ضوء هذا أعتبر أن راحة الإنسان نهائيا من عمله تعني أنه أصبح عاطلا بلا مستقبل له، أو أنه أعطي شهادة وفاة. لم أكن بحاجة للتقاعد، لأنني بكلمة مختصرة رجل أحب العمل والتفاعل اليومي مع الناس. ولأن لي قضية؛ هذا هو الجوهر. الحياة بين الأسرة البيضاء وبين آلات استقبال الأخبار وبثها، ومراقبة ما يحدث حولنا في هذا العالم، لم تكن حياة وظيفية، بل كانت قضية، وانشغالا لا يغادرني، سواء كنت في الوظيفة أو خارجها. الانشغال بما هو إنساني وحضاري، وبما يخدم بلدي أولا. هذا هو معنى أن أنتقل من مكان إلى مكان ويظل لي أسلوب الحياة هذا نفسه. في الهلال الأحمر كنت مفعماً بهذه الأفكار، بل وتعمقت في نفسي، وأنا أعود إلى الكويت بعد تحريرها من الغزو، وأنا أكتب بمناسبة أول عيد وطني نستقبله بعد التحرير والسحب السوداء تغطي السماء، وآثار الخراب لا تزال ماثلة: «.. هذا هو الاستقلال نفسه الذي حاول المحتلون مصادرته من قلوب شعبنا، وهو ذلك الاستقلال الذي مكن الكويت وشعبها من المكانة التي وصلتها، والتي دفعت العالم بأسره ليهب لنجدتها.. الاستقلال الذي حاول المحتلون مصادرته هو الحرية التي عشناها.. وهو دولة الأمن والأمان والاستقرار لا المطاردة والقمع والبوليس.. وهو حرية الكلمة التي نمت وترعرعت في الحضن الكويتي لتغني العالم العربي بأسره، وهو واحة الديموقراطية والحوار التي مكنت سواعد أبناء الوطن من التلاقي والتعاضد في وضع أسس متينة لبناء حضاري وإنساني شامخ..» هي قضية وجودنا في وطن إذن وليس وجودنا في وظيفة تنتهي علاقتنا بها حين نغادر مكاتبنا. وسيظل لهذا الوجود معنى، وسنظل نجد فيه المعنى، أينما ذهبنا والتفتنا. هنا يكمن المعنى الحقيقي لوجودي في جمعية الهلال الأحمر الكويتي منذ تأسيسها، أي خلال وجودي في وزارة الصحة، ثم خلال وجودي في كونا، وأخيراً مع انتخابي لرئاسة الجمعية في عام 1992. لقد تخلل هذا العمل التطوعي في الجمعية مسار حياتي، ولذا لم يكن تفرغي له أخيراً، بعد أن قيل لي ببساطة «ما قصرت في كونا.. الله معك» هبوطا عليه من الخارج، بل إنضاجاً لتجربة عشتها بكل ما أملك من حماس ورغبة منذ البداية، ربما منذ بداية تثقيفي صغيراً على قيم العمل الإنساني في بيت العائلة. الاجتماع التأسيسي منذ العام 1965 كانت فكرة تأسيس جمعية هلال أحمر كويتي موجودة في ذهني، وفي ذهن عبد العزيز الصقر والملا يوسف الحجي وسعد الناهض. وفي ديسمبر من العام ذاته، عقدت ثماني عشرة شخصية من أهل الخير أول اجتماع تأسيسي لهذه الغاية، ووضعت النظام الأساس. والشخصيات هي: د. ابراهيم المهلهل، برجس حمود البرجس، خالد يوسف المطوع، سعد الناهض، سليمان خالد المطوع، د. عبد الرحمن العوضي، عبد الرحمن سالم العتيقي، عبد الرزاق العدواني، عبد العزيز حمد الصقر، عبد العزيز محمد الشايع، عبد الله سلطان الكليب، عبد الله علي المطوع، عبد المحسن سعود الزبن، علي محمد الروضان، محمد يوسف النصف، يوسف ابراهيم الغانم، يوسف جاسم الحجي، يوسف عبد العزيز الفليج. وتقدمت هذه الشخصيات بطلب إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، فوافقت على إنشاء الجمعيــــة، بعــــد وقت لم يدم طويــــلا، وتم إشهارهـــا في ينــــاير 1966. وتم انتخـــــاب مجلس الإدارة وتشكل مــن: مجلس الإدارة عبد العزيز الصقر، محمد النصف عبد المحسن الزبن، الملا يوسف الحجي، يوسف الفليج، سعد الناهض، برجس حمود البرجس. وأذكر أنني حصلت وسعد الناهض في الانتخابات على أصوات متساوية، وبإجراء القرعة فاز سعد الناهض بعضوية مجلس الإدارة. إثر ذلك، بدأنا البحث عن مقر، فاستقر الرأي على ديوانية الجسار في «جبلة» مؤقتا لمدة سنتين. بعد ذلك انتقلنا إلى المقر الثاني في منطقة «الشويخ» مقابل قصر الشيخ ناصر المحمد. وخلال هذه الفترة تم انتخابي عضوا في مجلس الادارة مرتين، وفي عام 1970 ترشحت لمنصب نائب الرئيس حتى عام 1975، وهو العام الذي أصبح فيه د. العوضي أمين عام الجمعية وزيراً للصحة، فتنازلت له عن منصبي كنائب للرئيس. أرض المقر حين بدأنا بالبحث عن أرض تصلح لتكون مقراً دائما للجمعية، وجدنا أرضاً مناسبة في «الوطية». ولكن عبد العزيز الصقر رئيس الجمعية ومحمد النصف قالا إنهما تحدثا إلى الشيخ جابر الأحمد الصباح رئيس الوزراء بخصوص أرض للجمعية فلم يجدا منه قبولا، واقترح عليّ رئيس الجمعية الذهاب إلى الشيخ جابر بنفسي وطرح الموضوع مجدداً: «من الأفضل أن تذهب اليه». وذهبت بالفعل، وطرحت عليه الموضوع بهذه الصيغة: «أطال الله عمرك.. جئتك بالنيابة عن مجلس إدارة الهلال الأحمر الكويتي، وأنت تعلم أهمية هذه الجمعية بالنسبة للكويت حضاريا وإنسانياً. نحن بحاجة إلى مقر لها». فقال: «خذوا الأرض بجانب عقاب الخطيب في شرق». قلت: «ياطويل العمر، ما يصير.. نريد مكانا غير هذا.. بعد أمرك». «لماذا ؟ شرق زين.. وموقع زين!». «أريد الإنصاف من سموكم.. قصر السيف في شرق.. ودسمان في شرق، والمستشفى الأميري في شرق.. كله في شرق.. نريد شيئاً من أجل جبلة». ضحك الأمير الراحل، وقال: «اختاروا لكم أرضاً». وقد قام الأخ يوسف عبدالله الشاهين بالبحث مع البلدية حتى اخترنا الأرض التي عليها الجمعية. وبدأنا بوضع التصاميم والمواصفات، وقام المهندسون بالتنفيذ؛ وتم البناء على حساب الجمعية، وعلى أرض ممنوحة من الحكومة. عضوية الاتحاد الدولي وبدأت الجمعية اتصالاتها للانتماء إلى عضوية الاتحاد الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر، وسهل توقيع الحكومة الكويتية على اتفاقيات جنيف لعام 1949 قبول عضويتنا في هذا الاتحاد الدولي في عام 1968. صحيح أن حماسنا للرد على المذكرات التي كانت تردنا من الاتحاد الدولي لم يكن كبيرا في البداية، بسبب تعدد الانشغالات وقلة الإمكانات، إلا أننا ثابرنا على الحضور في المؤتمرات الدولية، ونشطنا في التحرك من أجل تأسيس الأمانة العامة لمنظمة جمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر العربية خلال حضورنا مؤتمرا في فيينا، ولم تتم ولادة هذا المشروع إلا في عام 1975 مع عقد الاجتماع السابع في الرياض في المملكة العربية السعودية. واختيرت جدة لتكون مقرا دائما لهذه الأمانة العامة الجامعة، وتم انتخاب الشيخ عبد الغني محمود آشتي أمينا عاما لها. ومع ذلك لم يكن لدينا متحدث دولي باسمنا في المحافل الدولية، فقدمت اقتراحاً؛ أن يصار إلى تولي الدولة الرئيسية التي تستضيف دوراتنا مهمة تمثيلنا في المحافل الدولية، وتكون هي من يقدم الاقتراحات ويتولى النقاش ونحن نتبع لها، ولكن اقتراحي لم يجد قبولا لدى بعض الدول العربية. كانت المشكلة أن جمعيتنا هي الوحيدة التي ينتخب مجلس ادارتها، أما بقية الجمعيات العربية فيتم تعيينه. استقطاب المتطوعين تزايد نشاطنا تدريجيا، وبذلنا جهودا لاستقطاب المتطوعين. في البداية عمل معنا ما يقارب 24 متطوعا ومتطوعة مقارنة بالعدد الذي يبلغ الآن 1800 متطوع ومتطوعة. وحين أقمنا غرف عمليات اغاثة خلال حرب 1967 وحرب 1973 استعنا بأطباء ومدرسين وهيئة تمريضية من وزارة الصحة مع منحهم مكافآت بسيطة. المؤسف أن العمل التطوعي كمبادرة انسانية وحضارية غير منظم في البلاد العربية بشكل عام. هناك مشاعر طيبة وأحاسيس تعاطف انساني، الا أن الوعي والثقافة بطبيعة هذا العمل ينقصان الفرد العربي، ولا يزال الخلط بين العمل التطوعي ( الانساني) والعمل الوظيفي (المعيشي) قائما. صعوبات مع الصحة أضف الى ذلك ما واجهناه طيلة عملنا في العقود الماضية من غياب اعلامي يكاد يكون تاما عن تغطية أنشطتنا سواء المحلية أو العربية والدولية، وما واجهناه من ابتعاد لوزارة الصحة عن التعاون معنا أوتجاهلنا أحيانا رغم الحاحنا ربما بسبب اعتبارنا جهة منافسة. وتحضرني حكايات تستحق الذكر حول ما واجهناه من صعوبات وعراقــيل مع هذين المجالين. للهلال الأحمر الكويتي دور فاعل، ليس على صعيد الكويت فقط، بل وعلى صعيد دولي، وتجاربنا في الأوقات الحرجة، مثل أيام العدوان على الكويت في عام 1990 دليل على الجهود التي بذلها الشبان والشابات تحت مظلة الهلال الأحمر، ويحق لنا أن نعتز ونفتخر بها. ففي تلك الأيام دخل عدد من المقاومين الكويتيين تحت مظلة الهلال الأحمر، وبدأوا بمساعدة العائلات، ومنهم من عمل في المخابز لاعداد الخبز، ومنهم من ذهب الى المستشفيات لنقل المرضى. ولنا تجاربنا ومبادراتنا الانسانية في المنطقة العربية والعالم وهي حقائق تستحق أن يلتفت اليها اعلامنا الداخلي والخارجي على حد سواء. فما الذي نجده؟ مكتب في السجن في مناسبة لا تنسى، اتفقت جمعيتنا مع وزارة الداخلية وادارة السجون على افتتاح مكتب لنا داخل السجن المركزي، وهو حدث مهم اعلاميا يبرز دور الكويت الحضاري أمام بقية دول العالم المتقدم. واستدعينا كونا، فحضرت وقامت بتغطية اعلامية جيدة تناولتها الصحف المحلية بالتفصيل تقديرا منها لأهميتها، وقبل ذلك كنا قد اتصلنا بتلفزيون الكويت، فأرسل لنا امكانات تغطية محدودة جداً. ولدى رجوعي من افتتاح هذا المكتب الصغير حجما والكبير أهمية، ظل يشغلني سر هذه اللامبالاة من قبل جهاز التلفزيون الرسمي، فاتصلت شخصيا بوزارة الاعلام على أمل أن أجد تعاونا من أجل ابراز هذا الحدث الذي كنا سعداء به جداً. كان الاتصال الأول مع الوكيل المساعد لشؤون التلفزيون، فجاء الجواب أنه مشغول، واتصلت بالرجل الثاني، وجاء الجواب أن ليس لديه وقت للرد على الهاتف. عندها اتصلت بالوكيل، فاذا به غير موجود في الكويت، فطلبت الرجل الثاني، واذا بهاتفه لايجيب. وهنا لم أجد بدا من الاتصال بالوزير، ولم يأت الاتصال بنتيجة أفضل، اذ لم يكن الوزير موجوداً! طلبت المسؤول عن مكتب الوزير، فرد شخص لطيف ومتعاون، وسألني: «ماذا تريد؟» شرحـــت لــــه ما نريـــــده للكويــــت، ومـــــا نريــــــده من التعـــــامل مــــع الخبـــر نظــــراً لأهميتــــه الاعــــلاميــــة، وقلـــت: «أرجو أن تتكرم بابلاغ الوزير» ووعد بايصال الرسالة. لا أعرف ان كانت الرسالة وصلت أم لا، ولكن الخبر ضاع كما ضاعت أخبار كثيرة كان يمكن الاستفادة منها في الرد على الألسنة والأبواق المسلطة والمكرسة للهجوم على الكويت. لم نكن في أي يوم من الأيام من أصحاب الحملات الدعائية والصراخ، بل كنا نريد من أعمالنا الانسانية أن تتحدث عنا. أردنا من التلفزيون والاذاعة أن يوليا الأخبار التي تهم الوطن اهتماماً، الأخبار التي نود أن يسمعها العالم عنا. وأن تتعاون هذه الأجهزة مع الجمعيات الانسانية، وألا يكون دورها تلميع صور بعض الأشخاص على حساب المصلحة الوطنية. حادثة اخرى ســــأروي حادثــــــة أخرى، وتتعلق هـــــذه المـــــرة بـــوزارة الصحـــــة. كنا دائمـــــا نؤكــــد أن دور الجمعيــــة مكمل لــــدور الوزارة، ويجب أن تكون العلاقـــــة بينهما علاقـــــة تعــــاون وتكامل كمـــا هــــو الأمــــر المعـــــروف عالميــــاً، ولا يتعلق هـــــذا الأمـــر فقــــط بفتــــح المجـــال أمــــام المتطوعـــــين لدينــــا لتقــــديم خدمــــاتهم للمرضى في المستشفيات حتى لو كانت بسيطة، بل بأمــــور أخـــــرى أيضاً مثل المشاركــــة في حملات التوعيــــة، وعمليات تقـــــديم الخدمات الانسانيــــة في حالات الكوارث أو تنظيم تبادل الخبرات والمساعـــدات. وقد لمسنا مثلا الحاجة الى حملات توعية مكثفة من أجل التبرع بالدم، وطالبنا بانشاء فرع لبنك الدم في الجمعية، يجمع فيه الدم ويرسل الى البنك المركزي للتغلب على الكثير من المعوقات. وبعد أخذ ورد لم نتوصل الا الى حل وسط يقوم على أن تسجل الجمعية أسماء المتبرعين وفصائل دمهم، ثم ترسل أرقام هواتفهم الى البنك المركزي. مثل هذا الجهد هو أحد واجبات الوزارة، ومع ذلك لم نجدها تولي الأمر اهتماما كافياً. وقد حاولت التحدث شخصيا مع عدد من وكلاء الوزارة لكنني لم أنجح في تحقيق شيء من هذا، لم أنجح حتى في الاتصال بواحد منهم يكون مستعدا للرد على الهاتف! هذه العلاقة الملتبسة بالوزارة جعلت جمعيتنا الساعية إلى تقديم خدماتها التطوعية تشعر بأن الوزارة ترفض أي مساعدة منا من حيث المبدأ، وكأنها تعيش في كوكب آخر، شأنها في ذلك شأن التلفزيون والإذاعة، وكذلك شأن مؤسسات رسمية أخرى تحاول جهدها إبعادنا عن أي مبادرة تعود للكويت. حدث هذا حين تقرر في اجتماع مع النائب الأول لرئيس مجلس الورزاء ووزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد الصباح في ابريل من عام 1995. ولاحظت أن تعليماته كانت في الخط السليم لخدمة سمعة الكويت إنسانيا وحضارياً. كانت هذه التعليمات تقضي بتعاوننا مع مكتب ولي العهد ورئيس جمعية الإصلاح من أجل تحقيق هذه المبادرة وتجسيدها. وبالفعل بادرت واتصلت بمكتب ولي العهد وشرحت الموضوع لمدير المكتب مبارك الفيصل الصباح، إلا أنني فهمت من كلامه أن المطلوب من الجمعية هو إرسال متطوعين مع بعض الملصقات التي تحمل شعار جمعية الهلال الأحمر فقط. وهنا فصلت له ما دار في الإجتماع، وطلبت منه الاتصال بوزير الدولة ليتأكد أن لنا دورا أكبر من ذلك، فقال عليّ أنا الاتصال به وهذا رقم هاتفه! واتصلت بوزير الدولة وأعلمته بما دار من حديث، فوعد بتوضيح الأمور للإخوة في مكتب ولي العهد على أن يتصلوا بنا. ولم يصلنا شيء من مبارك فيصل سعود الصباح، وبدا لي أنه اتخذ قراراً بابعاد الجمعية عن هذه المبادرة ومن اتصل بنا كان إبراهيم الفودري، وأفهمته بما تم الإتفاق عليه، وكان رده أنه لايملك أي صلاحية بهذا الخصوص. وكل مالديه من تعليمات أن على الهلال الأحمر تقديم متطوعين فقط، فأبلغته أننا على أتم استعداد لتقديم أي خدمة يطلبونها لأننا في خدمة مصلحة الكويت. ومر يوم كامل من دون رد، فقررت الاتصال بالفودري لمعرفة ماذا تم، وجاء الجواب: «كل شيء انتهى.. وليس هناك وقت»! قلت: «لعله خير.. نحن موجودون لأي خدمة تطلبونها». من المؤكد أن ترك الخدمة في موقع ذي صلة بطبيعتك الإنسانية والعاطفية، سواء كان وزارة الصحة أو مجال العمل الإعلامي، سيترك فراغاً في حياتك، وسيجعلك تتساءل عن جدوى العيش عاطلا عن العمل وبلا مستقبل. ولهذا سينصب تفكيرك منذ اللحظة الأولى على إيجاد وسيلة للبقاء على قيد الحياة. أعني البقاء على صلة بطبيعتك وجهد حياتك الذي لايغادرك لهذا السبب أوذاك. فما بالك إذا جاء كل هذا بعد تجربة إحتلال الوطن العاصفة، وبعد أن بدا أن مهمة جديدة أصبحت مطلوبة منك، مهمة المشاركة في البناء؟ حين تتطلع حولك ستجد هناك أكثر من مكان في الكويت يستدعيك ويطالبك بأن لاتغيب. ويزداد هذا الشعور الحاحاً مع تراكم ونضج خبرتك في مجال العمل العام، واكتشافك وسط الاشتباك مع المعوقات والصعوبات أنك مازلت قادرا على العمل، ولو بالكلمة والرأي والنصيحة والاقتراح. قلت منذ البداية اننا من جيل البحر والسفر، أي من جيل لايتوقف في ميناء إلا ليرحل إلى سواه، ولا يبتعد إلا ليعود. جيل أطل على مشهد الكويت بقضاياها السياسية والإجتماعية والإقتصادية، وشمل بنظرته جوانب الحياة، فلم يترك لهذه الزاوية فرصة أن تحتجزه، أو لهذا المنصب فرصة أن يختصره. تنويه وقع خطأ مطبعي في الكتاب، سبب خطأ في الحلقة 18 المنشورة في «القبس» يوم الثلاثاء، حيث ورد من ضمن الشخصيات الــ18 المؤسسة للهلال الأحمر علي محمد الروضان، والصحيح انه علي محمد الرضوان، لذا اقتضى التنويه، وكذلك الشكر لخالد علي محمد الرضوان الذي لفت نظرنا إلى الخطأ المطبعي. |
السدرة (19)
1992 ترشحت لمجلس الأمة عن الدائرة الثالثة بعد تحرير الكويت اتجه النظر الى اعادة البناء وترسيخ الأسس التي قامت عليها ومن أجلها جهود أجيالنا، ومن أجلها قدمنا أعمارنا وتفانينا في عملنا، ومن أجلها تقدم الشهداء وعمل العاملون كل في مجاله، ولكن في اطار الوطن الأوسع. هذا الشعور هو الذي انتابني فور أن غادرت موقعي في كونا، وخرجت مودعا لا لأذهب الى الراحة كما يقال عادة، بل لأواصل ما خلق الانسان من أجله، عمل الصالحات، لما فيه خير الكويت وأهلها، ونصرة أمتها ودينها، ولأشتبك أيضا في ميدان آخر مع مشهد الكويت بعد التحرير. مرشحاً لمجلس الأمة في هذا الجو، وتحت هذا الهاجس، قررت في عام 1992 ترشيح نفسي لعضوية مجلس الأمة عن الدائرة الانتخابية الثالثة. وبوصلتي هي أن حب الوطن طاقة عطاء لا تنضب، وجهد صادق لا يتعب، ولأن خدمة الوطن اسمى وسائل التعبير، ليس عن هذا الحب فقط، بل عن ما تؤمن به وتراه الأسلوب الأمثل لحياة تتخطى الفردية الى حياة الجماعة. لم يكن قراري كما قلت في برنامجي الانتخابي، نزولا عند رغبة أحد، ولا تجاوبا مع دعوة جهة أو جماعة، بل جاء انسجاما مع ما آنسته في نفسي من قدرة على مواصلة خدمة وطني وأهلي وأمتي في اطار ديموقراطي ومسؤولية نيابية. كنت قد قضيت اكثر من ثلاثين عاما في الخدمة العامة في مواقع متعددة، وحصلت على تجارب متنوعة ومعرفة ثرية، وكان أملي أن أوظف كل هذا في خدمة مجلس الأمة، أن أساهم في جعل الحوار في جنباته اكثر حرية وموضوعية، والقرار في قاعاته قائما على المعرفة والاستقامة، والتعبير فيه عن ضمير الشعب وأكثريته الصامتة أكثر صدقا والتزاما. وهذه هي حكاية تجربتي، او حكاية ما فكرت فيه في مطلع التسعينات فور أن اصبحت خارج كونا، ولكن ليس خارج كينونتي كانسان. كان أقرب شخص لي هو عبدالعزيز الصقر، فعبرت له عن رغبتي في الترشح، وقلت: «لاأرى أحدا في الساحة، وأود ترشيح نفسي للانتخابات، وأريد أن أعرف رأيك». واذكر أنه قال لي يومها: «ليس لدينا أحد.. توكل على الله». وذهبت الى جاسم القطامي أطلب مشورته ورأيه. فلم أجد عنده اعتراضا، وقال أيضا توكل على الله، الا أنه نبهني الى أمر واحد: «من الصعب أن ترشح نفسك من دون أن يكون وراءك أحد». فصممت: «أعلم هذا، وما أريده هو التجربة». قيل لي يومها أن علي زيارة الدواوين، ولكنني كنت أعرف النتيجة سلفا، ولهذا لم أزر الا بعضها. وحصلت على اصوات قليلة كما توقعت، ولتنتهي تجربتي مع الانتخابات عند هذا الحد. دنيا لا تتوقف كما اعتدت دائما، وكما تعلمت من خبرتي، لا تتوقف الدنيا ولا يتوقف الإنسان عن هذا المنعطف أو ذاك، بل تواصل الحياة مسيرتها، وعلى الإنسان، مادام دافعه مختلفا عن الدوافع الشائعة، أن يواصل مسيرته على هدى طبيعته وعاطفته، وسيجد أن لديه ما يبذله وما يعطيه في أي مكان يكون فيه، سواء كان في أكثر المناصب علوا أو اكثرها تواضعاً. لهذا جاء تفرغي لعمل وأنشطة جمعية الهلال الأحمر الكويتي، وأنا أحد مؤسسيها، متطابقا مع هذه الطبيعة التي لم تفارقني، وأشعرني بسعادة كبيرة. هذه السعادة هي التي وفرت لي طاقة وقدرة على بذل الجهد والنشاط في سبيل العطاء والخير عبر الجمعية، ولم أكن أظن أن لدي مثل هذه الطاقة في عمري المتقدم. ما أعنيه بالتطابق هو أن هدف حياتي منذ البداية لم يكن يخرج في الحقيقة عن أهداف الأماكن التي شغلتها، سواء كان مكان العمل بين الأسرة البيضاء أو بين ملفات وكالة الأنباء، او في غمار حركة الهلال الأحمر داخل الكويت وخارجها. في كل هذه الأمكنة عمل اجتماعي وإنساني تتشابك فيه تلبية حاجة المرضى والمحتاجين مع حاجتنا إلى نشر الحقيقة والمعرفة وإنقاذ الناس من الكوارث التي تسببها اضاليل البشر أو تسببها ثورات الطبيعة. في كل مكان يمكن أن نقدم مساهمتنا وعملنا الصالح. ولا يحتاج الإنسان منا إلى كثير من التأمل ليكتشف أن جوانب عديدة، سواء في داخل مجتمعنا أو في العالم من حولنا، تحتاج منا إلى المساهمة في هذا الجهد الإنساني. حياة أقل قلقا في كويت الستينات، وقبل ذلك بزمن طويل، يقول لك كل من تتحدث معه ان الحياة كانت أقل قلقاً مما هي عليه الآن، وكان هناك جو من التعاون والانفتاح بدأنا نفتقده الآن. كل هذا صحيح بالطبع، ولكن هناك قضايا جديدة استجدت، وأحوال تغيرت بحكم حركة الحياة ذاتها. هناك أكثر من مليون وافد، معظمهم من العزاب أو البعيدين عن أسرهم، وهناك قضية البدون المحرومين من كل شيء بما فيه التعليم والخدمة الصحية والعمل، هناك الأسر المتعففة التي تفتقر إلى معيل. كل هذه الأمور جعلتنا نتخذ قرارا في الجمعية لتقديم المساعدة لهؤلاء المحرومين لنحمي مجتمعنا من آثار هذه الأوضاع الجانبية. لقد وجدنا أنفسنا بعد التحرير أمام دمار وخراب أمام زيادة كبيرة في أعداد المحتاجين، 4000 أسرة تقريبا من البدون، فتحملنا مسؤوليتنا، وبدأنا مع المعاقين والعجزة وكبار السن. وواصلت تعاطفي مع الأيتام واللقطاء والعجزة أيضاً الذين كانوا موضع عنايتي عندما كنت في وزارة الصحة. فأرسلنا متطوعين إلى مقراتهم في دور الشؤون الاجتماعية، يوزعون الهدايا ويقيمون الحفلات الترفيهية ويدخلون عليهم أجواء المرح والتعاطف. في المحيط العربي إذا انطلقت خارجاً، إلى محيطنا العربي، ستجد لهلالنا الأحمر أكثر من قصة حدثت وتحدث في أمكنة متعددة. فعلى أرض الكويت نشأ بمساعدتنا أول هلال أحمر فلسطيني، في وقت لم يكن فيه أحد مستعداً في هذا المحيط العربي لمد يده لهذه الجمعية، ناهيك عن السعي لنيل اعتراف دولي بها. حين بدأت تبرز حركة فتح الفلسطينية، كان اكثر الأطباء في الكويت من الفلسطينيين، وتحمسوا للتطوع وتقديم المساعدات والخدمات عبر مكتبها في الكويت، في وقت لم يكن لديهم هلال أحمر لا في الأردن ولا في لبنان. وأذكر أننا حين ذهبنا إلى مؤتمر في تونس، كان هناك خلاف بين جمعية الصليب الأحمر اللبناني والهلال الأحمر الفلسطيني الذي فرض نفسه هناك بالقوة. هيئتان للعمل الإنساني حين سألوني في تونس عن حل، قدمت اقتراحا بالعمل كما هو جار في الاتحاد السوفيتي، أي أن يكون لدينا في لبنان جمعية صليب أحمر لبناني وجمعية هلال أحمر فلسطيني حتى تتوقف الحساسيات عن إثارة الخلافات، فقيل لي من قبل الوفود المشاركة تقدم بهذا الإقتراح ونحن معك. كان معي يومها يوسف ابراهيم الغانم، وتقدمنا باقتراحنا، فثار غضب رئيسة الوفد اللبناني السيدة تيريزا، وانفعلت انفعالا شديداً، وانسحب من أيدني في تقديم الاقتراح، وصرت وحيداً، وتحدثت مخاطباً رئيسة الوفد اللبناني، وقلت: «لامانع لديّ أن أقلب الهلال إلى صليب أحمر» ومع ذلك لم يقبل الاقتراح. أما هنا في الكويت، فحين أرادت منظمة التحرير الفلسطينية إنشاء هلال أحمر، وكانت قد بدأت تجمع التبرعات والأدوية، تقدمت للمساعدة، ولم أتأخر أو أتردد. وكان هذا أول هلال أحمر فلسطيني ينشأ في منطقة الجابرية. واستمر وجوده إلى أن توقف بعد تحرير الكويت من الغزو العراقي. كنت من أشد المتحمسين لمد يد العون، وكان لي موقع خاص لدى الفلسطينيين. الآن وبسبب التطورات التي مرت بها القضية الفلسطينية، لم نعد نتعامل مع الهلال الأحمر الفلسطيني التابع للسلطة الفلسطينية في رام الله، لأنه يأخذ المساعدات منا ويعطيها للموالين لهذه السلطة، ونحن ضد هذا الأسلوب. نحن نريد مساعدة المحتاجين والفقراء كافة، بغض النظر عن مؤيد ومعارض، فلا دخل للسياسة في مساعداتنا الإنسانية. لهذا تم الاتفاق مع د. حيدر عبد الشافي رحمه الله على إنشاء هلال أحمر في غزة، واصبح هناك هلالان في بلد واحد، أحدهما تحت سلطة رام الله والآخر تحت إشراف عبد الشافي الرجل الفذ والأمين والوطني. وعلى هذا الأساس قمنا بتحويل التبرعات لفلسطين الى غزة عن طريق البنك العربي، وهناك توزع على المحتاجين، وتصلنا الإيصالات. وبعد وفاة د. عبد الشافي استمر الوضع هكذا. مساعدات إلى القدس من جانب آخر، وأمام وجود محتاجين في القدس، بدأنا شراء مواد غذائية من الكويت وارسالها إلى الضفة الغربية عن طريق الصليب الأحمر الدولي، فكانت تخزن في عمان لمدة شهر أو شهرين إلى أن تأذن السلطات الإسرائيلية بادخالها، فتنقل بسيارات الصليب الأحمر إلى داخل الأراضي المحتلة، وهناك يتم توزيعها. واستمر هذا التعاون مع الصليب الأحمر الدولي طيلة سنتين، وكلفنا الشحن من عمان إلى الضفة ما يقارب 500 ألف يورو، فاتفقنا مع سيدة تدعى «رضا خضر» على أن تكون مندوبتنا هناك، وعن طريقها يتم تقديم مشروع إفطار الصائم، ومساعدة الايتام والعجزة بحدود 400 شخص لمدة شهر، وندفع لما يقارب 500 عائلة ليس لها معيل 100 دولار شهرياً، بالإضافة إلى توفير احتياجات الطلبة الايتام من الأدوات المدرسية (7000 حقيبة مدرسية وملابس ومواد غذائية). وقد نوه د. عبد الشافي حين زار الكويت في يوليو من عام 2004 بجهود جمعيتنا، فذكر لصحيفة «القبس»: «إن الهلال الأحمر الكويتي استطاع أن يكسر الحواجز والجدران سعيا إلى إيصال الكثير من المساعدات إلى الشعب الفلسطيني عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر» ويبدو أن نشاطنا هذا أثار شهية بعض من رجالات السلطة الفلسطينية فدخلوا على الخط، وأنشأوا مركزا باسم المركز الفلسطيني للاتصال الجماهيري ومجموعة العمل الأهلي طالبين أن نحول اليهم أيضاً مبالغ كبيرة كمساعدات. من ذلك رسالة وصلتني بصفتي رئيس الجمعية في 26/8/2007 من نبيل عمرو تطلب تمويل ميزانية بمبلغ 1,060,000 لتوفير متطلبات العام الدراسي بحجة مساعدة الطلبة المحتاجين للرسوم الجامعية والمنح الدراسية. فكان جوابي ان مثل هذه المساعدات غير مدرجة ضمن ميزانيتنا التقديرية، وخارج نطاق اختصاصنا، ونحن نعطي الأولوية لمساعدة ورعاية الايتام والعجزة والأرامل والمعوقين وإعانة المرضى، ومستعدون للتعامل في ما يتعلق بهذه الأمور. ثم ذكرت له أننا خصصنا لمندوبتنا رضا خضر عدة مبالغ تصرف ضمن معايير ومقاييس محددة. ..والى غزة ولم تتوقف تدخلاتهم عند هذا الحد، بل أرسل الهلال الأحمر الفلسطيني التابع للسلطة في رام الله كتابا لنا يتساءل فيه بلهجة استنكار: كيف توجد في فلسطين جمعيتان للهلال الأحمر الفلسطيني في بلد واحد؟! فقلت في ردي عليه: «نحن لم ننشئ هلالا أحمر في فلسطين، بل لدينا ممثل هناك». حتى الآن ما زلنا نرفض التعامل مع هؤلاء بسبب أسلوبهم في توزيع المساعدات. وأذكر أن السيد أحمد قريع اتصل بي يسأل عن سبب هذا الموقف، فذكرت له الأسباب واقتنع بموقفنا. أسلوبنا هذا لم ينقطع في التواصل مع المحتاجين، وخلال العدوان الأخير على غزة في أواخر 2008 وأوائل عام 2009، ذهبنا الى غزة، فوجدنا الهلال الأحمر المصري هناك، فقررنا شراء الاحتياجات من مصر، وأعددنا 10 شاحنات دخلت عن طريق معبر رفح. ومع أننا كنا طلبنا تسليم الشاحنات الى الهلال الأحمر في غزة، لكنه لم يتسلم شيئاً منها، وقيل إن «حماس» أخذتها ووضعتها في المخازن. وما زلنا نرسل المساعدات الى غزة عن طريق رفح بمساعدة الهلال الأحمر المصري، ثم يستلمها ممثل عن وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية، ويتم توزيعها، ولكننا لا نعرف كيفية التوزيع. ولم نتوقف عند هذه الحدود، بل مضيت الى الطلب من الأمين العام للجامعة العربية عقد اجتماع لوزراء الصحة العرب لمناقشة كيفية دعم الشعب الفلسطيني على المستويين الطبي والانساني، ولكن لا أحد رد على طلبنا هذا. .. ولبنان وخاضت جمعيتنا حرباً انسانية حقيقية في مواجهة العدوان الاسرائيلي على لبنان واللبنانيين في صيف عام 2006. وشهدت الساحة اللبنانية الشبان الكويتيين يواجهون المخاطر والتحديات ويصرون على البقاء هناك من أجل تقديم المساعدات واغاثة اخوانهم اللبنانيين. ولم يتوقف جسر المساعدات الذي أقمناه، وأوصل ما يقارب 1142 طنا من المساعدات معظمها أدوية. وفضل الكثير من متطوعي الهلال الأحمر الكويتي البقاء في لبنان للعمل على تقديم المساعدات الى المحتاجين بأنفسهم الى جانب الاشراف على التوزيع. ما افتقدناه في معاركنا الانسانية هذه هو دور الاعلام الكويتي الخارجي في ابراز دورنا، ليس في الساحة اللبنانية فقط، بل جميع دول العالم. وأعني بذلك دور شباننا الذين يقبلون على العمل التطوعي بأعداد كبيرة، ولا يترددون في الذهاب الى أي مكان لأداء الواجب الانساني، بينما تقف الجهات الحكومية من عملهم موقف اللامبالاة، وكأن الأمر لا يعنيها. صفحة مجهولة سأنتقل الآن الى رواية صفحة، ربما هي صفحة مجهولة من صفحات جهودنا لتقديم المساعدات الإنسانية للشعب العراقي داخل العراق وخارجه على حد سواء، متجاوزين حتى العقبات التي كان يقيمها النظام العراقي أمامنا في التسعينات. بدأنا بتقديم المساعدات أثناء الحرب العراقية - الإيرانية وبعدها، وواصلنا تقديم مساعداتنا بعد تحرير الكويت إلى اللاجئين العراقيين في أماكن مختلفة، بل وحاولنا الذهاب إلى العراق أثناء فرض العقوبات الدولية على نظامه. حين وردنا من الخارجية الإيرانية خبر عن وجود نازحين من العراق على الحدود الإيرانية بحاجة إلى المساعدة، طلب منا الشيخ صباح الأحمد إرسال مساعدات إليهم، فقلت إن علينا التنسيق مع الهلال الأحمر الإيراني. وتم التنسيق مع الهلال الأحمر الإيراني، وأرسلنا مساعداتنا عن طريق ميناء بوشهر. وأذكر يومذاك أن باقر الحكيم، أحد الزعماء العراقيين، زارني في الديوانية وطلب منا إرسال كتب باللغة العربية إلى المدارس، لأن الإيرانيين يدرسون الأطفال هناك باللغة الفارسية. فأحضرنا كتباً من وزارة التربية وأرسلناها. وفي لندن، اتصلت بي إيما نيكلسون، عضو البرلمان البريطاني، وكان لديها نشاط إنساني في العراق، فطلبت مقابلتي، وعبرت عن رغبتها في أن نساعدها في نشاطها، فأخبرتها أننا نواصل إرسال المساعدات. ومن جانبها، أشادت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بلسان رئيسها د. مصطفى عمر، بالمساعدات التي يقدمها الهلال الأحمر الكويتي للعراقيين، خصوصا اللاجئين منهم في مخيمات إيرانية، وأشار إلى امكان التعاون والتنسيق بيننا وبين المفوضية، وعرض علينا المساهمة في المجالات التي نراها مناسبة ويتم الاتفاق عليها. وعلمت منه أن المفوضية توفر المعونات الإنسانية لللاجئين العراقيين في سوريا ولبنان والأردن أيضاً. وفي أيار من عام 1998 بادرت إلى الإعلان عن استعدادنا لتقديم المساعدات الطبية والغذائية الإنسانية للشعب العراقي داخل العراق إذا طلبت منا جمعية الهلال الأحمر العراقية ذلك. وقلت إن تقديم هذه المساعدات سيتم بالترتيب مع الاتحاد الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر، وتحت إشرافه كي نضمن سرعة وصول هذه المساعدات الى المحتاجين. وأضفت، ان هذا الاستعداد ليس جديداً، فنحن قدمنا وما زلنا نقدم المساعدات للعراقيين اللاجئين في إيران، وتبحث جمعيتنا اقتراح مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بأن نوسع عملياتنا لتشمل اللاجئين الذين يعيشون في بعض الدول العربية. كانت مراسلاتنا مع الهلال الأحمر العراقي تتم عبر المنظمة العربية لجمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر، وعن طريق هذه المنظمة تلقينا ردًّا متأخرا من رئيس جمعية الهلال الأحمر العراقي صادق أحمد علوش، يرحب بمبادرتي ترحيباً حذراً، ويطلب أن تكون زيارة من جمعيتنا للعراق، ويشترط أن يكون هدف الزيارة «الإطلاع على آثار الحصار المدمر المفروض على الشعب العراقي حتى يضموا أصواتهم إلى الأصوات الحرة التي تنادي برفع الحصار». وانتقد الرد ما جاء في مبادرتي من ذكر لمساعداتنا للاجئين العراقيين عند الحدود الإيرانية، وأنكر وجود هؤلاء اللاجئين، معتبراً هذا الموضوع مختلقاً، وهو «تهويش دعائي رخيص» على حد تعبيره. ولم أرغب بالدخول في جدل حول هذا الرد الذي اتضح أنه مجرد مبرر للتهرب من مبادرتي، وتمنيت ألا يحاول البعض تجيير معاناة الشعب العراقي المنكوب لتحقيق مكاسب سياسية. كان التهرب والتنكر حتى لوجود لاجئين عراقيين محتاجين، وانتقاد أي عمل إنساني تقوم به جمعيتنا أو أي جمعية أخرى غريباً. في 5 ديسمبر من عام 1998 وصلتنا رسالة من الهلال الأحمر العراقي يدعونا فيها لزيارة بغداد وحضور حفل افتتاح المخيم الشبابي لمتطوعي جمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر العربية. فوجدت في هذه الدعوة فرصة لإعادة التأكيد على استعدادنا لتقديم ما يحتاجه الشعب العراقي من مساعدات، وذكرتهم بما سبق أن عرضناه من تقديم المساعدات في داخل العراق تحت مظلة اللجنة الدولية للصليب الأحمر والاتحاد الدولي. وقلت في ردي بعد أن شكرناهم على دعوتهم، إن هذه المساعدات سيشارك في توزيعها أبناء شهدائنا وأسرانا، وسيكون لهذا العمل الإنساني مردود إيجابي على المواطن وعائلته. وذكرتهم بأن أبناء أسرانا قاموا بتوزيع المساعدات على الإخوة العراقيين اللاجئين في الأراضي الإيرانية طيلة الأعوام الماضية، وما زالوا يقومون بهذا العمل. وكانت المفاجأة أن يصلنا رد يقول «إن القيادة العراقية قررت عدم قبول المساعدات» وحجتهم أنها لا تحل مشكلة الشعب العراقي التي لا يتم حلها إلا برفع الحصار، وكرر الرد إنكار وجود أسرى كويتيين في العراق، وزعم أنهم مفقودون شأنهم في ذلك شأن مفقودين عراقيين! إزاء إخفاق محاولاتنا مد نطاق مساعداتنا الإنسانية إلى داخل العراق بسبب هذا التعنت، طرحت في أغسطس من عام 1999 اقتراحاً بتشكيل لجنة دولية تزور بغداد لمتابعة ملف الأسرى والمحتجزين لدى العراق لإنهاء هذه القضية الإنسانية، على أن تضم اللجنة كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة، وعصمت عبد المجيد، الأمين العام للجامعة العربية، وعز الدين العراقي، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، بالإضافة إلى شخصيات دولية مثل نلسون مانديلا ورئيس البرلمان الأوروبي ورئيس اتحاد جمعيات الصليب والهلال الدولية. ورفض الاقتراح إلا إذا اقتصر حضور اجتماع هذه اللجنة على ممثلين عن الكويت والسعودية والصليب الأحمر. كل هذه المواقف لم تؤثر في قليل أو كثير على إحساسنا بأن واجبنا الإنساني الذي وضعناه نصب أعيننا يجب أن يستمر. ولهذا كنا أول من دخل مدينة صفوان الحدودية لتقديم المساعدات في عام 2003. قبل ذلك ذهبت إلى جنيف لحضور اجتماع للدول المحيطة بالعراق للبحث في كيفية إرسال المساعدات، وقدمت اقتراحاً بضرورة الاستعداد منذ الآن، وفي حالة حدوث هجوم عسكري على العراق، نكون جاهزين للدخول وتوزيع المساعدات حتى لا ينزح العراقيون عن بلدهم ويصبحوا لاجئين، وهذه مصيبة، ولدينا تجربة مع الفلسطينيين. وتم الاتصال بالمندوب العراقي، وسجلت كل ما يريدون من مساعدات، وبخاصة في مجال الأدوية التي كانت شحيحة لديهم، ولم يتوفر منها سوى الأنواع البسيطة. رفض الاقتراح، وتحول إلى مجرد توصية. ولكن حين بدأت الحرب، اتصلت بالصليب الأحمر الدولي، وطلبت منهم أن نرافقهم في دخولهم إلى العراق، فأخبروني أنهم لن يدخلوا الآن، وطلبوا منا عدم الدخول، لأن اتفاقية اشبيلية تمنح الصليب الأحمر وحده حق الدخول في ساحات الحرب. قلت: «لن أقف مكتوف اليدين بسبب اتفاقية اشبيلية» ودخلنا بدفعة أولى من ثماني باصات مليئة بالإعلاميين إلى صفوان. وتدافع حولنا الناس يطلبون الإعانات والمساعدات والأدوية. وعدنا وأرسلنا دفعة ثانية في وضع عمته الفوضى. وشاهد الشيخ صباح الأحمد هذا المشهد على شاشة سكاي نيوز، فاتصل بي وقال: «الهلال الأحمرالكويتي يرمي المساعدات على الناس رميا.. ما هذه الفوضى؟» قلت: «بل هم ضربوا أفراد الحملة في البداية.. نحن ذاهبون إلى صفوان والناس لا يعرفون النظام وخائفون وفيهم من المخابرات العراقية». بعد ذلك شكل الأميركيون لجنة إغاثة بالتعاون معنا، ورشحوني مسؤولا عنها، فاعتذرت، ورشحت محمد البدر، فاعتذر ورشح آخر، ولم يأخذوا بترشيحه. وأخيرا وضعوا علي المؤمن مسؤولا عن الإغاثة. |
السدرة (20)
الدستور والديموقراطية يتعرضان الآن إلى مخاطر يبدو انني سأواصل فتح صفحات مجهولة من أنشطة جمعيتنا، أوانشطة الكويت بالأحرى في مضمار العمل الإنساني، لم يذكر عنها إلا القليل في وسائل الإعلام، وإن ذكر جاء مختصراً وعابراً. وأعود إلى الوراء، إلى جهودنا خلال الحرب في البوسنة والهرسك مع بدايات تمزيق دولة الاتحاد اليوغسلافي في عام 1992. كانت المأساة الإنسانية التي تولدت من حرب التمزيق صارخة تستصرخ كل ضمير. مشردون في كل مكان نساء وأطفالا ورجالا، وقرى تحرق، ومجازر يتعرض لها المدنيون من مختلف الأعراق والديانات. في هذا الجو قمت بجولة تفقدية شملت المركز الإسلامي ومخازن تموين اللاجئين من البوسنة والهرسك في زغرب عاصمة كرواتيا، وبعض مخيمات اللاجئين في ضواحيها، وفي المناطق القريبة من حدود البوسنة والهرسك، من بينها معسكر فازردين الذي ضم 1000 لاجئ تقريباً. وتحدثت مع غالبية اللاجئين، من النساء والأطفال، في هذا المعسكر الأخير، فوجدت لديهم تقديرا وامتنانا لما تقدمه الكويت حكومة وشعبا وجمعيات خيرية لهم في محنتهم. وهو ما كنا نقدمه بتعليمات من سمو الشيخ جابر الأحمد، رحمه الله. رسالة هاتفية جاءت زيارتي هذه لتقديم تبرعات جمعيتنا للاجئين إلى كرواتيا لأن الوضع الأمني والعسكري لم يكن يسمح بدخول العاصمة ساراييفو المحاصرة من كل الجهات. وهنا عقدت اجتماعاً مع نائب رئيس جمهورية البوسنة والهرسك، سالم شابيتش، وخلال اجتماعي به نقل إلي رسالة هاتفية من ساراييفو، من رئيس الجمهورية علي عزت بيغوفيتش موجهة إلى أمير الكويت والشعب الكويتي وحكومته تشكرهم على تضامنهم ودعمهم المالي والسياسي. وتحدثت أمام ممثلي جمعية الهلال الأحمر البوسني والمنظمات الإنسانية الأخرى، مؤكداً لهم أن الشعب الكويتي يدرك أكثر من غيره معنى الاحتلال والتشرد، ولذا من الطبيعي أن يقف إلى جانب شعب البوسنة والهرسك في محنته الحالية. ثم قدمت إلى نائب الرئيس شيكاً بتبرعات جمعيتنا كمساعدة إنسانية لحوالي مليون مسلم شردهم العدوان الصربي. مبادرة الأمير وفي يونيو من العام نفسه، قدمت، في لقاء مع وفد رسمي يمثل رئاسة وحكومة البوسنة والهرسك، وضم سالم شابيتش وحسن شنقيتش ود.عزت آغا نوفتش رئيس مؤسسة المرحمة الاسلامية الخيرية، مبادرة أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح، باقامة مشروع خيري لمساعدة ضحايا ومنكوبي البوسنة والهرسك من الأرامل والأطفال. ويقتضي المشروع اقامة مخيم أو معسكر يحمل اسم الكويت لايواء واحتضان عدد من الأرامل والأيتام. لم يكن هذا المشروع بدعا في مضمار المساعدات الكويتية، فكل مشاريعنا تقريبا نحرص على أن تكون نوعا من العمل الانساني الذي يواصل عطاءه وخيره ولا يتوقف عند حد تقديم وجبة غذاء لمحتاج، بل يتجاوزها الى تقديم وسائل تحصيل العيش، أو شبكة صيد بتعبير المثل الصيني، لا سمكة. عام التسونامي وهذا ما حدث على نطاق واسع في عام 2001، عام التسونامي الشهير. لم أكن اعرف معنى هذه الكلمة، وسألت خالد محمد الخالد الزيد، زوج ابنتي، فأخبرني أنه زلزال في البحر. واتصلت بالأخ الشيخ ناصر المحمد ورويت له ما حدث. كانت أكثر المناطق تضررا من هذه الكارثة هي أندونيسيا وتايلند وسريلانكا والهند. وتم تحويل مبلغ 400 ألف دولار كمساعدة للهند، أما بالنسبة لتايلند، فقد ذهبت مع سعد الناهض ود. هلال الساير الى سنغافورة، وهناك طلبوا منا معدات لفتح الطرق الى 150 قرية دمرهـا الزلزال، واشترينا معدات نقل وجرافات وشحناها. وفي سومطرة حيث وصلنا، رأينا مشاهد دمار مخيفة جدا، مثل مشهد يخت ألقت به الأمواج على الطابق الثاني من بناية، وطلبوا منا توفير المياه فاتفقنا مع شركة سنغافورية ووزعنا المياه على امتداد الطريق. والتقينا بسفيرنا في العاصمة الأندونيسية لمناقشة تفاصيل مشروع المساعدة الاغاثية قررنا بناء قرية باسم سمو الأمير جابر الأحمد رحمة الله عليه، كما أنشأنا محطة تقطير مياه للشرب. عمل طويل الأمد كان تفكيرنا، كما هـــو دائما، ارساء عمل اغاثي طويل الأمد يقوم على الانتاج وليس على تقديم مواد غذائية فقط، وستكون استفادة اللاجئين من هذه القرى مستمرة، بل وستتوارثها أجيال وأجيال. اضافة الى ما سيرسله مشروع الخير هذا الفريد من نوعه من أصداء ايجابية، سواء في الكويت أو أندونيسيا أو العالم، وسيخلد اسم الكويت في مجال الاغاثة ومساعدة الدول المنكوبة. تجربتنا مع البوسنة والهرسك ثم مع كارثة تسونامي لم تكن هي الأولى بالطبع، فقد كان لنا حضور في مناطق الكوارث الطبيعية والانسانية على امتداد السنوات الماضية. أذكر من ذلك دورنا في كوسوفو الذي لم يبرزه الاعلام رغم أنه كان دورا بارزا، فهناك أنشأنا منازل بتكلفة 600 ألف دولار، وكذلك فعلنا في تركيا بعد الزلزال الذي حل في بعض مناطقها. ولم نغفل نداءات الصليب الأحمر الدولي ومنظمات الاغاثة الانسانية الى مساعدة أهالي دارفور السودانية، وتقدمنا عن طريق الهلال الأحمر السوداني، ولكن خشيتنا من ذهاب المساعدات الى جانب دون آخر، دفعتنا الى ارسال مساعداتنا عن طريق تشاد، وكانت مساعدات لا نعرف هل وصلت الى مستحقيها أم ضاعت في طريق مكتظ بالقبائل والعصابات. ولم نستطع ارسال مساعداتنا الى دارفور مباشرة حتى بعد أن أرسلنا وفداً وشاهد المأساة هناك على الطبيعة. ووصلنا حتى الى الولايات المتحدة في أعقاب اعصار كاترينا. لقد وصلنا الى أقصى الأرض شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، ولا توجد بقعة في العالم لم نصل اليها. تجاوز الحساسيات في هذا المسلسل الطويل المتواصل من تثبيت وترسيخ صورة الكويت الانسانية، سيلاحظ أي قارىء أننا كنا نتجاوز الكثير من الحساسيات السياسية والشخصية، ونصل الى من يحتاج الى اغاثة ومساعدة بغض النظر عن جنسيته ومذهبه ودينه وبلده، بل وحتى حتى لو اعترض طريقنا معترض أو منتهز فرصة من الذين ينكرون على الكويت مكانتها، ولايتركون فرصة دون الطعن في مواقفها أو تشويه صورتها. كنا نحرص على دورنا الانساني أولا، وعلى وصول مساعداتنا الى من يستحقها، ونبذل جهــدنا حتى لا تقــع مساعداتنا بيـــد منتهزي فرص للاثراء على حساب المحتاجين والضعفاء والمساكين، في العــراق وفلسطين ولبــنان والسودان.. وفي كل البلدان التي سارعنا الى واجبنا تجاه محتاجيها. ضجة في الأردن لقد كانت جمعيتنا المبادرة دائما للقيام بواجبها الانساني في أي مكان سواء داخل الكويت أو خارجها. ولعل قصة الضجة التي أثارتها صحف أردنية وأعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني في فبراير من عام 1997، وزعمت فيها أن هناك اساءة معاملة للسجناء الأردنيين في السجون الكويتية، هي قصة من القصص التي تستحق أن تروى، لأن دور جمعيتنا في جلاء الصورة واظهار الحقائق وفصلها عن المزاعم المختلقة للاثارة والتشويه كان دورا مهماً، وسيحفظ لنا وللكويت تصرفاً انسانيا قل نظيره في بلدان عربية أخرى. حين بدأت تتصاعد هذه الحملة التي لانشك أنها مدبرة ضد الكويت لأسباب بعضها يتعلق بموقفها من رفض ابتزازها مالياً، ورفض التعامل مع جهات بعينها في السلطة الفلسطينية والأردن، قامت جمعية الهلال الأحمر الكويتي بتحري الحقيقة وأثبتت مجدداً ما تحظى به من مكانة في بلدها وخارجها. وطلبت من السلطات الكويتية السماح لوفد منها بزيارة السجن المركزي للتحقق من صحة ما يثار من تقارير صحفية. وبالفعل سارعت السلطات الى تلبية الطلب وفتحت الأبواب أمامنا لمعرفة حقيقة ما جرى ويجري ونقل حقيقة الأمر الى العالم والى ذوي السجناء. كنت أنا على رأس وفد الجمعية، واستمعت إلى حقيقة الأوضاع من المساجين الأردنيين أنفسهم، فوجدتهم يثنون على حسن المعاملة التي يلقونها في السجن، وأكدوا أن ما أثارته الصحافة الأردنية من أنهم تعرضوا للضرب على يد القوات الخاصة لايمت الى الحقيقة بصلة. وعلمت من أحد السجناء، الذي التقى به وفدنا، أن رجال الأمن الذين كانوا يفتشون، كما هي العادة، عنابر السجن بحثا ً عن المخدرات والممنوعات، اصطدموا ببعض من كان يحاول عرقلة التفتيش، وتمت الاستعانة بالقوات الخاصة لفرض الأمن ومنع حدوث فوضى، مما أدى إلى وقوع صدامات بسيطة أصابت بعض السجناء من دون قصد. هؤلاء السجناء، الذين نشرت الصحف الأردنية مزاعم تعرضهم للضرب، هم في الحقيقة سجناء محكومون بقضايا أمن دولة، وقد خصصت لهم عنابر بعيدة عن عنابر المحكومين بتهم جنائية، ويتراوح عددهم بين 70 إلى 90 سجيناً، بينهم 35 أردنياً. وتمت إدانتهم بعد محاكمات بتهم العمل في صحيفة النداء التي أصدرتها القوات العراقية إبان احتلالها للكويت، والانضمام إلى ما يعرف بجبهة التحرير العربية العراقية المنشأ والتمويل، والتعاون والتخابر مع القوات العراقية. وكان هؤلاء قد أعلنوا إضراباً عن الطعام في عام 1995مطالبين بإعادة محاكمتهم وتحديد ما إذا كانوا سجناء رأي أو سجناء قضايا جنائية. ودخلت إدارة السجن يومذاك في مفاوضات طويلة معهم، وزارهم نواب من مجلس الأمة من لجنة حقوق الإنسان للوقوف على مطالبهم. وبعدها عادوا عن إضرابهم لاقتناعهم بعدم إمكانية تنفيذ مطالبهم. كل هذا كتبته وأرسلته إلى صحيفة الدستور الأردنية التي تصدرت الحملة على الكويت وسجونها، وشرحت فيه شرحا وافيا ما قامت به جمعيتنا وما توصلت إليه بعد التحقيق. وأكدت أن جمعية الهلال الأحمر الكويتي قامت بدورها الإنساني في تفقد أحوال السجناء انطلاقاً من احترامها لحقوق الإنسان، ومن حملها لرسالة إنسانية، تطبيقا لشعار الهلال الأحمر والصليب الأحمر الدوليين عملا وقولا، في رفع المعاناة عن أي كائن كان ومن دون عراقيل. وقامت الصحيفة بنشر نتائج تحقيقنا على صدر صفحتها الأولى، وذهبت الحملة ومروجيها أدراج الرياح. في هذه الأيام حين يصل أي قارئ إلى السطور الأخيرة من هذه الذكريات، لا أظن أنه سيضعها جانبا من دون أن يسأل نفسه السؤال المعتاد؛ بعد كل هذه المشاهد والفصول التي قدمها إلينا الكاتب في ما يشبه الدراما الحياتية الصاخبة، وبعد هذه الواقعية الكاشفة في أكثر من مجال من مجالات حياتنا، ما الذي يراه الآن وما الذي خلص إليه من اختلاف الآراء الذي كان شاهداً عليه، ومن الصراعات التي كان طرفا فيها مرة، ومراقبا وراصداً مرات؟ لهذا القارئ، أود القول وأنا أضع القلم جانبا، وأتوقف عند كلمة الآن، إن هذه المشاهد والفصول التي حفلت بها ذكرياتي كانت مؤشرات على ما نشهده الآن ويبرز في كل المجالات، في الصحة ووكالة كونا وجمعية الهلال الأحمر الكويتي. أي أن الماضي وتجربته لم يكونا قطعة منفصلة من حياتنا، بل عنصراً مساهماً في تشكيل حاضرنا، وسيكون الاثنان معاً، الماضي والحاضر، عنصري تشكيل مقبل الأيام. لهذا السبب، ورغم تواضع هذه الذكريات، فالكثير مما تحدثت عنه من صعوبات واجهتنا، لا يعرفها الكثيرون، ولا يعرفون ما حفلت به من مواقف كان طابعها شخصيا في أغلب الأحيان، تغلبت فيها عواطف الأنانية والحسد على القيم الجماعية، قيم المصلحة العامة المشتركة. كنتُ أتمنى أن يتاح لي مجال أوسع لقول أشياء لم أستطع ذكرها مع أنها حاضرة في الذهن، بل وحية تنبض حتى الآن بمشاهدها، سواء كانت مؤلمة أو مفرحة، وكنتُ أتمنى أن تصل إلى القراء الكرام بألوانها وأشخاصها وظروفها الواقعية وليس المتخيلة، لولا ما قد تسببه من إحراجات في وسط ما زال حتى الآن يفسر ما يقال أو يذكر بدوافع شخصية، لا بدوافع موضوعية لا تعلق لها بهذا الفرد أو ذاك تحديداً، بل بظواهر عامة يراها المراقب بمعزل عن رغبته أو ميوله. لدي الكثير أقوله، وسيبقى دينا عليّ ووعداً مني، ما مد الله في أعمارنا وسمحت الظروف، أن أقوله بدافع واحد هو إفـادة القارئ. وحين أقول إفادة القارئ، فالمعنى هو أن نتجنب معاً، أفراداً وجماعات، الأخطاء التي مررنا بها، وهي كثيرة، ونتجه بأنظارنا إلى استخلاص العبر حتى لو كنا موضع النقد والتقصير، والانحراف أحياناً. بالطبع تمنيتُ أيضاً أن أكتب عما يدور في الساحة الكويتية الآن، حيث يتعرض الدستور الذي نفتخر به والديموقراطية التي نعتز بها إلى مخاطر، وقد سبق لي أن تحدثت مع أكثر من مسؤول حول هذه الأمور، وكنتُ صريحاً وقاسياً جداً لما فيه مصلحة الكويت، إلا أن هذا الموضوع لا يكتب عنه هنا، فالهدف هو إيصال الرسالة إلى الجهات المعنية وليس استعراض القدرات في الكشف والتحليل. وهذا هو النهج الذي اتخذته، وأطالب كل المخلصين والمنتمين الى هذا البلد باتباعه؛ أن يأخذوا الحقيقة إلى القيادات المسؤولة من دون خشية على مصالحهم الشخصية، على الوجاهة والمال، فكل هذه تسقط أمام مصلحة الكويت العليا. أكتفي هنا بالقول أن المخاطر التي ألمحتُ إليها في ما يتعلق بالدستور والحياة الديموقراطية، إذا استمرت الأمور على هذا المنوال، ستكون سببا لأزمات عديدة يتعرض لها وطننا، وبخاصة أن وضعنا من الناحية الجغرافية حساس جداً. وأضيف، لو نظرنا إلى جيراننا واستعملنا عقولنا، سيكون حتماً علينا أن نفكر ونتروى قليلا كي تتضح الرؤية، ونتبين طريقنا. والمهم الان هو أن نتمسك بدستورنا ونظام حياتنا الديموقراطي، وأن نبعد عنهما من لا يجيد التعامل مع الدستور ولا التعايش في ظل النظام الديموقراطي، ولا إدارة هذا النوع من الحياة العصرية. هناك ممارسات خاطئة في هذين المجالين تتجه نحو هدم الكويت والإضرار بأهلها، ولا يجب أن يستمر هذا من أي جهة جاء وتحت أي شعار مضلل جرى. (انتهى ) |
|
http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...44d141a052.jpg
مع سعد الناهض في جولة تفقدية لدار الايتام في {بندا اتشيه} باندونيسيا عام 2008 http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...bf5ab88de0.jpg مساعدات للشعب العراقي (البصرة) 2003 http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...a3280d6aa3.jpg برجس حمود البرجس، ابراهيم القطان، يوسف ابراهيم الغانم، عبدالعزيز الصقر، محمد عبدالمحسن الخرافي وأحمد صالح الشايع http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...31335edf22.jpg آثار الغزو العراقي للكويت على معظم موجودات وكالة كونا من تجهيزات مكتبية وتقنية وفنية |
http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...1823551775.jpg
مع الدكتور أحمد الخطيب وعبدالمحسن البرجس http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...1e02a4e08b.jpg البرجس (الاول الى اليمين) مع د. أحمد الخطيب وأحمد السرحان وجاسم القطامي وجاسم الصقر في مسيرة بالعاصمة البريطانية ضد الاحتلال العراقي للكويت 1990 http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...b80f257928.jpg تكريم حجي يوسف الفليج أحد مؤسسي جمعية الهلال الأحمر الكويتية من قبل اتحاد الهلال والصليب الأحمر العربي مع عدد من الأهل والأقرباء والأصدقاء http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...086749fa51.jpg البرجس مع يفغيني بريماكوف وبوريس بيننسكي مراسل نوفوستي |
http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...c22ecca796.jpg
خلال حملة الجدري في الكويت 1968 (في منطقة صيهد العوازم، جليب الشويخ) http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...40c36f892f.jpg حملة التطعيم ضد الجدري في الوفرة http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...cfa793506e.jpg البرجس مع مديرة معهد التمريض الدكتورة سعاد حسين ووزير الصحة عبدالعزيز الفليج http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...212fb7b5f5.jpg البرجس متوسطا سعد الناهض واحمد مطاوع |
http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...6b578701e0.jpg
عبدالسلام شعيب ومهلهل المضف ونصف اليوسف وثنيان الغانم http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...cc4d561f66.jpg وفد جميعة الهلال الأحمر الكويتي الى الدورة الاولى للهيئة العالمية http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...9711d7535e.jpg في مطار الكويت مع الملا يوسف الحجي وكيل الصحة انذاك وسعد الناهض http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...44582cbf72.jpg http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pictu...347b71a1e7.jpg مع المرحوم الشيخ سعد العبد الله في موريتانيا (الثمانينات) |
الساعة الآن 01:00 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.9 Beta 3, Copyright ©2000 - 2025
جميع الحقوق محفوظة لموقع تاريخ الكويت