عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 25-03-2008, 04:02 PM
الصورة الرمزية AHMAD
AHMAD AHMAD غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
الدولة: الكويت
المشاركات: 2,661
افتراضي

وقد اثلج هذا الانتصار صدور أهل نجد الذين قاسوا الأمرين من حكم آل الرشيد وكانت هذه المناسبة الفريدة نقطة الانطلاق لابن السعود لتوسيع نفوذه في الحواضر والبوادي النجدية.

أما إبن الرشيد فلم يأخذ للأمر أهمية لأنه يعتقد بأنه يستطيع القضاء على ابن سعود بسهولة متى قرر ذلك، وتبدأ المناوشات بين الخصمين من كر وفر وتأتي السنة الحاسمة 1324هـ 1906م ويلتقي الجيشان في مكان قرب مدينة بريدة اسمه (روضة مهنا) بعد أن خيم الظلام على المكان ويختلط الحابل بالنابل والحروب الصحراوية معروفة وتختلف عن الحروب النظامية وإذا بعبدالعزيز بن متعب الرشيد فوق فرسه ينادي حامل رايته "من هان يا الفريخ من هان يا الفريخ" بلهجة أهل حايل ولم يدر أنه كان وسط الجيش السعودي فعرفوه وانهال عليه الرصاص وخر صريعاً، وجاءت البشائر إلى إبن السعود بمقتل إبن الرشيد خصمه اللدود، فتنفس الصعداء بعد أن حالفه الحظ بالتخلص من ألد أعداءه.

وفي الكويت كانت فرحة الشيخ مبارك بالخلاص من ابن الرشيد لا تقل عن فرحة الأمير السعودي. ويواصل الأمير عبدالعزيز السعود بعد ذلك الانتصار الباهر يدعم مركزه ويصلح من أمور مملكته ونعود إلى الكويت حيث الشيخ مبارك يستقبل معتمدا بريطانيا جديداً هو (الكابتن شكسبير) الذي بقي في الكويت من سنة 1909م إلى 1914م ولنذكر نبذة عما جاء في الكتاب الذي كتب عنه نقلا عن مذكراته التي كان يدونها يوماً بيوم حتى قبل مقتله بقليل وهو يقاتل بجانب الأمير عبدالعزيز آل السعود في وقعة (جراب) في الرابع والعشرين من شهر ينايـــــــر (كانون الثاني) (Captain Shakespear – By H.V.F. Winstone) جاء في المذكرات "منذ مائة عام نقل صموئيل منستي موظف شركة الهند الشرقية مكاتبه ومخازنه من البصره إلى الكويت وكان الأتراك قد استعادوا البصرة من الفرس (احتل الفرس البصرة عام 1776 بعد حصار طويل وبقيت المدينة تحت سيطرتهم مدة ثلاث سنوات حيث استعادتها القوات التركية بمساعدة بعض القبائل العربية "المؤلف") وبدأوا يضعون المتاعب للمؤسسة البريطانية، وبعمله هذا استطاع تحاشي التدخلات التركية، وهذا دليل على ما كانت تتمتع به الكويت من قسط مقبول في الاستقلال في ذلك الوقت، ولهذا بدأت الدول الكبرى تنظر الى الكويت كموقع مثالي من جزيرة العرب الذي من خلاله يمكن معرفة (حرارة) الصحراء. "ويضيف التقرير" وفي عام 1860 ذكر الكولونيل لويس بلي وكان وقتها مقيما سياسيا لحكومة بريطانيا في بوشهر أن الكويت بلدة نظيفة ونشطة وسكانها في حدود عشرين ألفاً ويتوافد عليها التجار من جميع الأقطار بسبب استقامة الحكم فيها وعدالته (الزيارة المذكورة كانت في عهد الحاكم الرابع صباح الثاني "المؤلف").

ثم يواصل التقرير وصف سكن الشيخ مبارك العائلي والرسمي الذي يسميه (السراي) والمقصود هو قصر السيف القديم.
"يقدم المرافق محمد الكابتن شكسبير الذي شعر بالضيق بسبب ارتدائه ملابسه الرسمية بكامل عدتها، ويوجه مبارك الى القادم الجديد نظرة صارمة وكان معتمراً كوفيته المرقطة الملتفة حول وجهه الى كتفيه، وقد لاحظ شكسبير التجاعيد الواضحة على جبهته، وأنفه الكبير وشاربه المنسق ولحيته المنمقة المصبوغة بالحناء، وشفتيه المزمومتين وفك يدل على العزم والثقة وكان وجهه يدل على أنه رجل حسم ومكر ومهارة وعنف".

"وجه الشيخ نظرته القاسية المتشككة إلى ذلك الإنجليزي الغامض الملامح والواقف أمامه بشاربه العسكري المفتول بالشمع وجبهته العالية وأنفه المستقيم، وفكه الذي يدل على الذكاء والجد. وكعادة الرجال الآتين من الصحراء فان مبارك قلما يسمح لنفسه أو لمن حوله بأن تلوح الابتسامة على وجهه.
لقد وقف وحيا المعتمد الجديد وأجلسه بجانبه ثم قدمت القهوة وتكلم الرجلان بالأمور السياسية المتعلقة بين الكويت وأمير الصحراء يقصد ابن السعود وبين بريطانيا ومبارك. ويستمر التقرير في وصف الشيخ مبارك فيقول:-
"كان أقوى قائد عربي وأكثر نفوذاً في تلك الأيام وكان صوته مسموعاً ومميزاً في آفاق بعيدة كان داهية يختلف عن بقية الزعماء العرب فقد كانت له صفة عالمية - حتى الأتراك الذين كانت حاميتهم في البصرة على عتبة بابه يخشون بائسه وكان حكام الولاية يتحفونه بهداياهم لكسب وده، لقد قرأ شكسبير الكثير من الوثائق عن مبارك (لقد ذكر لي السيد علي زكريا الأنصاري أنه عندما كان سفيراً للكويت في الإتحاد السوفيتي أخبره أحد الأساتذة الروس المهتمين بشؤون الشرق الأوسط أنه اطلع على رسائل متبادلة بين قيصر روسيا والشيخ مبارك مما يدل على ما كانت تتمتع به الكويت من مكانة في المجتمع الدولي في ذلك الوقت كذلك علمت مؤخراً أن هناك وثائق ومراسلات مماثلة تتعلق بالكويت من 1901 إلى 1916 محفوظة في سجلات وزارة الخارجية الألمانية في بون. كذلك راجع كتاب التطور السياسي والاقتصادي للكويت بين الحربين 1914-1939 أطروحة ماجستير تأليف نجاة عبد القادر الجاسم 1973 حول التنافس الروسي الألماني البريطاني للحصول على موطئ قدم في الكويت) وعن تاريخ عائلته وعن حمايته للأمير السعودي عبدالرحمن بن فيصل وابنه عبدالعزيز والآن بدأ يسمع هذه الأحاديث عن ملك الجزيرة العربية المستقل من لسان أبيه الروحي. لقد كان اللقاء طويلاً وكانت بداية أواصر الصداقة بين الرجلين.

وعندما حان الوقت لمجلس الشيخ في السوق دعي شكسبير لمرافقة الشيخ في عربته وأجلسه بجانبه في عربة تجرها الخيول السود ويتقدم العربة مجموعة من حرس البدو المشاة، وخلف العربة امتطى عبده الأسود جواده الأبيض مرتدياً ملابس زرقاء وقد سأل الكابتن شكسبير الشيخ مبارك ليقارن بين نفوذ ابن السعود وابن الرشيد وكان جواب الشيخ مبارك مع ابن السعود وأنه يتمتع بتأييد غالبية القبائل وهو الزعيم الأقوى وذكر للمعتمد أن ابن السعود في حاجة إلي المال والمؤن والركائب وأضاف الشيخ مبارك أن قوة العربي تتمثل فيما يملك من جمال وخيول وأنه لمن الخطر السماح للأتراك بتسليح ابن الرشيد بينما يترك ابن السعود لمصيره. ومنذ ذلك الوقت بدأ شكسبير يوجه التقارير تباعاً من أجل الاهتمام بابن السعود كما كان حريصاً على الاجتماع به في أقرب فرصة وقد تحققت له هذه الرغبة في الكويت بترتيب من الشيخ مبارك في أوائل عام 1910م ثم استمرت اللقاءات بينهما وفي عام 1914م تم نقل شكسبير من وظيفته كمعتمد في الكويت وعين بوظيفة ضابط سياسي في المنطقة وعند نشوب الحرب العالمية الأولى احتل الإنجليز البصرة في نوفمبر 1914م وأصبح شكسبير تابعاً للمستشار السياسي للحملة (السير برسي كوكس) الذي كان قبل ذلك يشغل منصب الوكيل السياسي للخليج ومقره في بوشهر. ويقول فلبي في كتابه (أيام عربية) لو لم يقتل شكسبير في معركة جراب لأصبح هو محور الثورة العربية ضد الأتراك بدلا من لورانس (أشار إلى هذا الموضوع الدكتور مصطفى عبد القادر النجار في كتابه دراسات في تاريخ الخليج العربي المعاصر ص 54) وعندما التقى الجنرال جلبرت كلايتون بالملك عبدالعزيز في جدة عام 1927 م أثناء التوقيع على المعاهدة المعروفة (بمعاهدة جدة) سأل كلايتون الملك عبدالعزيز من هو الأوربي الذي أعجبت به أكثر من غيره فأجاب الملك دون تردد شكسبير.


الخلاف بين مبارك وابن السعود
معظم المصادر والأجنبية منها خاصة كانت تؤكد أن الظروف أملت على كل من الشيخ مبارك والأمير السعودي أن لا يستغني كل منهما عن الآخر لصد التحديات الخارجية كما حدث مع غارات ابن الرشيد عليهما وتهديد السلطات التركية للطرفين بين حين وآخر. وأهم ما حدث قبيل الحرب العالمية الأولى هو احتلال ابن السعود لمنطقة الإحساء عام 1913 والتي ساعده فيها الشيخ مبارك وضمن له عدم تدخل بريطانيا ووقوفها على الحياد (راجع كتاب المصالح البريطانية في الكويت حتى عام 1939 -منشورات مركز دراسات الخليج العري بجامعة البصرة- تأليف الدكتور أحمد حسن جودة صفحة 100 و 101 كما ذكر المحامي سليمان فيضي في كتابه (في غمرة النضال) وهو الذي عايش تلك الفترة بحكم تواجده في البصرة قال ذكرنا فيما مضى أن الإحساء وملحقاتها كانت قد أدخلت تحت سيادة الدولة العثمانية الفعلية في زمن مدحت باشا وبقيت كمتصرفية تابعة لولاية البصرة ترسل إليها الحكومة المتصرفين من إستانبول. وفي الوقت الذي كانت الفوضى تسود الدولة العثمانية بأسرها، كانت هذه الفوضى بالغة أشدها في تلك المنطقة النائية حيث لا رقيب على المتصرفين ولا رادع للجند، فلم يطق الأعراب تعسف الموظفين ولم يتحملوا الضرائب الثقيلة التي ترهقهم الحكومة بجبايتها، لذلك أرسلوا إلى ابن سعود يطلبون منه إنقاذهم من تلك الحالة السيئة وفي 5 مارس 1913 احتل ابن سعود بلاد الإحساء وأجلى عنها الجيوش العثمانية وجميع الموظفين وهيأ لهم باخرة أقلتهم إلى البصرة وعزمت حكومة إستانبول على إرسال حملة قوية في قافلة من البواخر لاسترجاع الإحساء. وهنا تدخل الإنجليز فأبلغوا الحكومة العثمانية معارضتهم لهذه الفكرة وذلك رغبة منهم في صيانة السلم في شواطيء البحر العربي وحفظاً لمصالحهم الخطيرة في الخليج. وهكذا أغلق على الحكومه، فتذرعت بوسيلة أخرى وهي أن التمست من السيد طالب أن يتوسط بينها وبين ابن السعود لتسويةالنزاع تسوية سلمية نظراً للصداقة المتينة التي تربطهما معا. قدم ابن السعود، إجابة لطلب السيد طالب إلى مكان بين الكويت والزبير يدعى (الصبيحية) وتوجه السيد طالب إلى المكان المذكور على رأس وفد قوامه سامي بك متصرف الإحساء السابق والمقدم عمر فوزي بك وأحمد الصانع وعبداللطيف المنديل. وبنتيجة المفاوضات وافق ابن السعود على أن تسميه الحكومة العثمانية والياً على الإحساء لمدة عشر سنوات قابلة للتجديد والتمديد. وعاد الوفد إلى البصرة يحمل ذلك الفوز الوهمي وتلك المعاهدة الواهية فقبلتها حكومة إستانبول على مضض وأنعمت على كل من أحمد الصانع وعبداللطيف المنديل بلقب الباشوية استجابة لرغبة السيد طالب وهكذا أسدل الستار على قضية الإحساء القطر العربي الذي ما زال حتى اليوم جزءا من المملكة العربية السعودية).

ومع كل هذا فمن الطبيعي أن تتصادم المصالح أحياناً لا سيما بين شخصيتين قويتين مثل مبارك الصباح وابن السعود فكل منهما يسعى إلى مركز الصدارة وظروف البادية وتقلباتها السريعة تقلب المقاييس أحياناً فالبدوي المتنقل لا يمنح ولاءه للأرض بقدر ما يمنحه للقبيلة كما أن ولاء رئيس القبيلة لا يمكن ضمانه لجهة معينة لفترة طويلة والأدلة والشواهد على ذلك كثيرة وقد أشار إلى هذه الظاهرة المتأصلة بحياة البادية كل من عايش هذه الظروف من عرب وأجانب في مؤلفاتهم وقد تأثرت حياة الرجلين العظيمين بهذه المعطيات وردود فعلها على ظروفهم ومصلحة بلادهم. فكان ما كان مما تناقلته الأخبار وقتها من خلافات لم تكن بالعمق الذي صورت به ولكنها ظهرت على السطح واضحة بعد ذلك في أيام حكم الشيخ سالم والشيخ أحمد كما سيأتي ذكره في الفصول القادمة.

وكما أشرنا فان الولاء القبلي غير الثابت والمتغير قد أثر على العلاقات بين البلدين وهو الأساس الذي بنى عليه السير برسي كوكس مشروعه لتخطيط الحدود بين كل من العراق ونجد والكويت والذي خسرت بموجبه الكويت ثلثي المساحة التي كانت تخضع لسلطة الشيخ مبارك الصباح أيام حكمه باتجاه حدودها الجنوبية كما يذكر الكولونيل ديكسن في كتابه الكويت وجيرانها على أساس أن القبائل التي كانت في تلك المنطقة أعلنت عن ولائـــــها لابن سعــود بعد وفــاة الشيـخ مبارك (Kuwait and Her Neighbours Page 274 – 275، توجد ترجمة عربية للكتاب ولكنى اعتمدت في مراجعتي للكتاب على النص الإنجليزى).


الحرب! الحرب!
أتذكر أني قبل مدة عثرت على كتاب مترجم من الألمانية إلى الإنجليزية مؤلفه جنرال ألماني مشهور اشترك في الحرب العالمية الأولى والذي لفت انتباهي في ذلك الكتاب وظل باقياً في ذاكرتي هذه المدة الطويلة هو ما جاء في مقدمة الكتاب وهو أن الحرب عادة متأصلة في الطبع البشري وما دامت طبيعة البشر باقية ولم تتغير فإن الحروب ستتفجر بين حين وآخر وأن فترة السلام ما هي إلا هدنة بين حربين، قرأت ذلك الكتاب في أوائل الثلاثينات وكما هو معروف اندلعت نيران الحرب العالمية الثانية في عام 1939.

فكأن ذلك الجنرال كان يتنبأ بما سيحدث حيث إن الهدنة لم تدم أكثر من عشرين عاماً. ويقال إن الحرب تنشب عندما يعتقد طرف من الأطراف انه قادر على الانتصار على عدوه وتحطيمه وهذا الشعور هو الذي جعل ألمانيا بزعامة هتلر وبأسلحتها المتفوقة في ذلك الوقت لتشن حربها. وأن ما يجري اليوم من صراع وخلاف بين الدول مرده إلى تلك النزعة المتأصلة في طبائع البشر.
ولكن حسابات وتقديرات اليوم تختلف عن تقديرات وحسابات تلك الأيام حيث الكل يعرف بأن الحرب ستكون وبالاً على الجميع أو بالأحرى على البشرية أجمع. وهذا ما يعطينا الأمل بأننا سنتمتع بفترة سلام أطول والله أعلم.

والذي يهمنا من ذكر الحرب في بحثنا هذا هو انهيار وسقوط الدولة العثمانية التي بدأت عهدها في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، وسميت بالدولة العثمانية نسبة إلى مؤسسها الأول المسمى السلطان عثمان في بلاد الأناضول وبدأت هنا الدولة تنمو وتزدهر تحت لواء الإسلام حيث تم الاستيلاء على المدن البيزنطية الواحدة تلو الأخرى حتى تم احتلال عاصمة الدولة البيزنطية (القسطنطينية) ثم بدأ زحفهم على أوربا حتى احتلوا شبه جزيرة البلقان وواصلوا زحفهم حتى وصلوا إلى أسوار مدينة فينا.

أما في الشرق فقد قاد السلطان سليم حملة عسكرية على الدولة الصفوية في إيران في أوائل القرن السادس عشر ثم توجه نحو المماليك في بلاد الشام ومصر وتم احتلال العراق فيما بعد ويقال أن السلطان سليم أخذ البيعة بالخلافة الإسلامية من آخر الخلفاء العباسيين (المتوكل على الله) حيث كان مقيماً في مصر ولا يملك من الخلافة سوى اسمها.
ثم بدأت عوامل التخلف والانحطاط تنخر في جسم الدولة حتى جاء القرن التاسع عشر عصر العلم والتقدم الحضاري في الغرب مع ظهور الدول الكبرى وطموحاتها الاستعمارية التي لا حدود لها.
وفي بداية القرن العشرين كانت (الدولة العلية) قد خسرت مناطق نفوذها في أوربا وشمال أفريقيا وآخرها مصر الذي انتهى باحتلال الانحليز لذلك القطر العربي عام 1882. ولم يبق لديها سوى بلاد الشام والعراق حيث كان نفوذ الدولة مقتصراً على العواصم مثل دمشق وبغداد وبعض المدن الرئيسية ولهذا فقد سموها (بالرجل المريض) ثم أجهزوا عليه وقطعوا أوصاله وقسموا التركة فيما بينهم. وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الدولة فمن دور النمو إلى دور الكمال ثم الانحطاط. سنة الله في خلقه.

ذكرت هذه المقدمة لكي أصل إلى فترة الحرب العالمية الأولى التي حدثت خلالها وبعدها مفاجآت وتحولات جذرية في منطقتنا بالذات فقد اشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى في صيف 1914 بين ألمانيا والنمسا وحلفائهما وبريطانيا وفرنسا وحلفائهما. وكانت بريطانيا تحرص على أن تبقى تركيا على الحياد خوفاً من إثارة المسلمين في العالم ضد الحلفاء لا سيما مسلمي الهند الذين كانوا يشكلون نسبة مهمة في الجيش البريطاني الإمبراطوري. وقد كان الحل والربط في تركيا في ذلك الوقت بيد بعض الشباب من الضباط الذين تلقى بعضهم تدريبه في ألمانيا وممن اعتقدوا بأن ألمانيا القيصرية بما أوتيت من قوة ومنعة لا بد وأنها ستنتصر في النهاية. وعلى رأس أولئك الضباط أنور وطلعت وجمال الذي لقب فيما بعد بلقب جمال السفاح بسبب الإعدامات التي نفذها ببعض الأحرار العرب في سوريا ولبنان.

وقد وقعت الواقعة وأعلنت تركيا الحرب في خريف ذلك العام ولهذا وجب على بريطانيا أن تعمل وتعمل بسرعة علماً بأن بريطانيا تعرف أن تركيا ضعيفة ومفككة ولكن كما أشرنا كان الخوف من ردود الفعل الإسلامية في المنطقة ولذا سارعت إلى الاتصال بالقادة المسلمين كل حسب ظروفه والذي يهمنا في هذا المجال ما حدث في منطقتنا فقد قررت بريطانيا القيام بعملية إنزال لاحتلال البصرة ووجه الكولونيل نوكس المقيم السياسي في الخليج ثلاث رسائل إلى كل من الشيخ مبارك والأمير ابن السعود والشيخ خزعل يخبرهم فيها عن نوايا بريطانيا. وعزمها على إنزال قواتها في البصرة وقد طلب من الزعماء الثلاثة مساعدة بريطانيا في استنفار جيوشهم والاشتراك في الحرب إن أمكن (راجع نص الرسالة الموجهة إلى الشيخ مبارك - المصالح البريطانية في الكويت ص 150).

وكانت الخطة الأولى للحملة البريطانية حماية نفط عبادان ولهذا كان الاهتمام مركز على خزعل شيخ المحمرة أو شيخ عربستان كما كان يسمى في ذلك الوقت أما الشيخ مبارك والأمير ابن السعود فقد كان هم السلطات البريطانية الأول إبقاءهم على الحياد والسيطرة على الشعور الديني الموالي للأتراك في بلادهم حيث ظهر تخوف من الدعوة إلي الجهاد ضد الحلفاء ولهذا صدرت بيانات من المقيم السياسي البريطاني ومن القوات الزاحفة باحترام الأماكن المقدسة في الجزيرة العربية والعراق وقد أعطت فرنسا وروسيا مثل هذا التعهد (راجع البصرة في عهد الاحتلال البريطاني - جامعة البصرة دراسات الخليج العربي ص 143).
هذا التخوف من قبل بريطانيا وحلفائها والذي كان له ما يبرره هو الذي جعل بريطانيا تتجه نحو الشريف حسين بن على شريف مكة وتغدق العهود والوعود لإقناعه بالثورة ضد الدولة العثمانية وكما يقول لورانس فقد كانت ظروف الحرب تبرر تلك الوعود.
وهكذا بدأ زحف الحملة البريطانية القادمة من الهند بتجهيزاتها الكاملة والقوات البحرية التي تحيط بها وفي الجهة المقابلة القوات التركية في حامية البصرة وأغلب جنودها كما تقول المصادر العربية والأجنبية من العرب المجندين والمتطوعين وغالبيتهم من الفلاحين الذين أرهقهم النظام الإقطاعي السائد ني ذلك الوقت فأضناهم الفقر وفتكت فيهم الأمراض (نفس المصدر - صفحة 161). وبدأ أول إنزال للحملة في منطقة الفاو عند مصب شط العرب يوم 6 تشرين الثاني نوفمبر 1914.

واستمرت الحملة في زحفها أمام مقاومة ضعيفة حتى دخلت البصرة بصفة رسمية يوم الثالث والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني 1914) وكانت القوات العثمانية قد قررت الانسحاب من البصرة ليلة 19 و 20 وكانت الفترة بين انسحاب الأتراك ودخول القوات البريطانية فترة عصيبة حيث بدأ السلب والنهب لا سيما في منطقة الجمارك ومخازن البضائع في العشار، وهنا لا بد من الإشارة إلى دور الشيخ خزعل في تسهيل مهمة الحملة البريطانية وتزويدها بالأخبار عن تحركات الأتراك وجعل المحمرة مركزاً لنشاط القوات البريطانية قبل احتلال البصرة وبعده. وقد كان جزاء ذلك الرجل كما يقول المثل كجزاء سنمار، فقد تخلى عنه الإنجليز بعد الحرب عندما قويت شوكة رضا شاه والد الإمبراطور المخلوع وتركوه تحت رحمته حيث اعتقله وأخذه أسيراً إلى طهران عام 1925 حتى وفاته فيما بعد وقد صادر أملاكه وألغى كل الاتفاقيات الفدرالية التي كانت تتمتع بها منطقة عربستان في ذلك الوقت (لقد كان الشيخ خزعل يتمتع بنفوذ داخلي واسع في منطقته، كما كانت له اتصالات خارجية بارزة مع بريطانيا والسلطات العثمانية وابن السعود والكويت، ويذكر لوريمر المؤرخ البريطاني في كتابه دليل الخليج – إن روسيا صاحبة النفوذ القوي في شمال إيران في ذلك الوقت كانت تضغط على حكومة طهران للانتقاص من نفوذ الشيخ خزعل تحديا للنفوذ البريطاني في منطقة الخليج وجنوب إيران). وهكذا كماقال أحد وزراء بريطانيا السابقين ليس لبريطانيا أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون بل لبريطانيا مصالح دائمة وقد مشت على هذه القاعدة كثير من الدول لا سيما العظمى منها ولا داعي لذكر الأمثال فهي معروفة وكثيرة.


وفاة الشيخ مبارك الصباح
لقد كان لاحتلال البصرة من قبل القوات البريطانية أثره المادي والمعنوي على الشيخ مبارك فقد ارتفع عنه كابوس الأتراك الذين كانوا مصدر إزعاج وقلق له منذ توليه الحكم.
أما الآن وقد انتصر حلفاؤه وساهم في هذا الانتصار صديقه وحليفه الشيخ خزعل إلا أن القدر لم يمهله طويلاً ليستمتع بامتياز هذه المرحلة الجديدة من حكمه فقد وافاه القدر المحتوم يوم الاثنين الحادي والعشرين من شهر محرم 1334هـ الموافق التاسع والعشرين من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1915م.
ولا شك أن وفاة الشيخ مبارك المفاجأة هزت المنطقة بعنف لما كان له فيها من نفوذ وسطوة ولمركز الكويت الهام في السلم والحرب.



الشيخ جابر بن مبارك
كان الشيخ جابر الابن الأكبر للشيخ مبارك وقد تولى الحكم بعد وفاة والده كان هادي الطباع لين الجانب وأول عمل قام به عند توليه الحكم تخفيف الضرائب وقد انتعشت في عهده التجارة بسبب ظروف الحرب وقد زاره في الكويت الأمير عبدالعزيز السعود معزياً بوفاة والده كما زار الكويت في تلك الفترة أوائل عام 1916 الشيخ خزعل والسير برسي كوكس. وجرت عدة اجتماعات بينهم ذات طابع سياسي بسبب ظروف الحرب.


الشيخ سالم بن مبارك
تولى الحكم بعد وفاة أخيه الشيخ جابر في الخامس من فبراير (شباط) 1917 ويذكر عبدالعزيز الرشيد عن الشيخ سالم أنه كان عفيفاً وعدواً للفسق والفجور كثير الصمت حليماً ولكن في رياض حكمه أشواك من الغضب لا يعتني بلباسه ولا بمجلسه وله إلمام يسير بالنحو وشغف بمطالعة الكتب وله شجاعة نادرة المثال أما ديكسن فيقول: إن طباع الشيخ سالم تختلف عن طباع أخيه الشيخ جابر السلس المتسامح. فقد كان الشيخ سالم مسلم متزمت شديد العناد وقبل توليه الحكم كان يقضي أوقاته في البادية وكان ينفر من المخترعات الحديثة، كانت شجاعته خارقة. وعليه تكاد تقع الملامة الكلية لما حدث بينه وبين ابن السعود من خلاف (ديكسن -الكويت وجيرانها- النص الإنجليزي صفحة 243).
والواقع أن الخلاف ظهرت بوادره قبل تولي سالم الحكم أي منذ عهد الشيخ مبارك وظهور ابن سعود كشخصية مرموقة في الجزيرة العربية لا سيما بعد احتلاله لمنطقة الإحساء ثم الانحسار التدريجي لنفوذ آل الرشيد.
وهناك عوامل كثيرة سببت الخلاف بين الرجلين ما ظهر منها وما بطن. وقد أشار إلى بعضها المؤرخ الكويتي الشيخ عبدالعزيز الرشيد في كتابه تاريخ الكويت. فقد كان منصفاً في ذكر وجهة نظر الطرفين وأنصارهما وبهذا تميز عن بعض الذين أرخوا للجانب السعودي فكتابة التاريخ أمانة كبرى لا يجوز التساهل بحقائقها وقد لا يتمكن المؤرخ من ذكر كل الحقائق ولكن لن يعذر إذا أظهر ميلاً يغير ويحور بعض تلك الحقائق.

إن عبدالعزيز الرشيد عند عرضه للخلاف الذي حدث بين الأمير ابن السعود والشيخ سالم والذي أدى إلى معركة الجهراء التي نحن بصددها وإشارته إلى ما قاله أنصار ابن السعود وما قاله أنصار الشيخ سالم وعلى الرغم مما قيل ونشر فإن تلك الخلافات كانت لها ظروفها ومسبباتها الآنية وعواملها النفسية، كما ترتبت عليها نتائج وظروف مصيرية.
لقد ذكرنا أن الشيخ سالم تولى حكم البلاد في أوائل عام 1917 وهي السنة التي اشتدت فيها ضراوة الحرب العالمية الأولى والتي حقق فيها الحلفاء انتصارات ملموسة خاصة في منطقة الشرق الأوسط.

ففي الحجاز نمت وتعاظمت ثورة الشريف حسين بن علي وفي شرق الجزيرة العربية تقدمت القوات البريطانية في بلاد الرافدين حيث تم احتلال بغداد بعد الهزيمة الكبيرة التي لحقت بجيش الإمبراطورية البريطانية في منطقة الكوت حيث استسلمت القوات البريطانية بعد حصار مرير دام أكثر من خمسة أشهر (يعتبر حصار الكوت نكسة مهينة للقوات البريطانية الزاحفة في الجنوب نحو الشمال وقد حاولت بريطانيا فك الحصار بشتى الطرق ومنها دفع الرشوة المالية فقد وصل في تلك الفترة لورانس إلى العراق بمهمة سرية وكان مخولاً بأن يدفع فدية من المال تصل إلى مليون جنيه ذهباً ولكن القائد التركي خليل باشا رفض ذلك العرض المغري واستمر الحصار حتى استسلمت القوات بكامل عددها وعدتها. وعلى رأسها قائدها العام الجنرال تاوزند) وهكذا بدأت المواد التموينية من الوصول إلى الأتراك في سوريا عن طريق الصحراء وفى يوليو (تموز) من تلك السنة تلقى الشيخ سالم إنذاراً من السلطات البريطانية تفيد بأن التعهدات البريطانية التي أعطيت لوالده بما فيها الحماية والمساعدة لا يمكن استمرارها إلا إذا امتنع رعاياه والأشخاص المقيمين على أرضه من القيام بأي عمل من شأنه الإضرار بالمصالح البريطانية (الكويت وجيرانها ص 243-244) وبهذه المناسبة يذكر المستر فيلبي عن سفرته الأولى لمقابلة الأمير عبدالعزيز آل السعود، وعند وصوله وجد هناك الكولونيل هملتن المعتمد البريطاني في الكويت حيث كان مقيماً هناك منذ شهر.

ومن الواضح أن المهمة الرئيسية لهذه الحملة المركزة هو تشديد الحصار على الأتراك وإضعاف مركز حليفهم ابن الرشيد (على ذكر الحصار يقول الأمير شكيب أرسلان في كتابه -سيرة ذاتية- ص 234/235 ان الإنجليز احكموا حلقة الحصار على سوريا ولبنان من البر والبحر حتى مات عشرات الألوف من السكان بسبب الجوع والمرض حتى أنهم رفضوا توسط قداسة البابا لأجل إرسال المساعدات الغذائية إلى مسيحيي لبنان مع أن السلطات التركية وافقت على إرسال تلك المساعدات مباشرة إلى المنكوبين وتعهدت بعدم التعرض لها كذلك راجع تفاصيل حصار الكوت وموقف الشيخ سالم منه في أطروحة نجاة عبدالقادر الجاسم التي سبقت الإشارة إليها) ومن هذا الوضع الجديد تبرز الأهمية التي بدأ الإنجليز يعلقونها على الأمير السعودي لا سيما بعد عقدهم معه اتفاقية القطيف في أوائل عام 1915 ومده بالإعانات المادية والتي كانت تقدر في بدايتها حوالي خمسة آلاف جنيه ذهباً شهرياً.
ويقول فيلبي ان الوفد اجتمع بابن السعود في المساء ودام الاجتماع حوالي ثلاث ساعات وكان موضوع الكويت قد جرى بحثه وطلب هملتون تعاون نجد وتشديد الحصار وكان جواب ابن السعود ودياً وإيجابياً و لكنه أشار إلى أن الشيخ سالم متورط في الموضوع بالإضافة إلى تفاهم سري بينه وبين الأتراك، وعلى السلطات البريطانية أن تعالج القضية من منبعها حيث من الصعب مطاردة المهربين عند انطلاقهم عبر الصحراء وقد جرت أحاديث صريحة حول العلاقات الشخصية بين ابن السعود والشيخ سالم وقد تبين أنها على أسوأ ما يرام وقد بقيت الحال على المنوال حتى وفاة الشيخ سالم.
__________________
رد مع اقتباس