عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 25-03-2008, 03:29 PM
الصورة الرمزية AHMAD
AHMAD AHMAD غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
الدولة: الكويت
المشاركات: 2,661
افتراضي ( معركة الجهراء ) للمؤلف بدر خالد البدر القناعي



الإهــــــــداء



يسعدني أن أهدي هذا البحث المتواضع إلى شهداء وطننا الأبرار الذين ضحوا من أجل وطنهم وأهلهم وذويهم، سواء من سقط منهم في ساحات القتال أو من قضى نحبه في الصراع الرهيب مع قوى الطبيعة القاسية في الصحاري المقفرة أو في أعماق البحار المظلمة. لقد كانت حياتهم كلها كفاحاً متواصلاً في السلم وفي الحرب.

وإذ نحن نستعيد بعض تلك الذكريات المشرفة أفليس الأجدى بنا أن نعيد النظر في ما وصلنا عليه بعد أن تبدلت الأحوال وتغيرت المفاهيم وخفت الموازين. وأن نأخذ من الماضي عبرة فنحافظ على البقية الباقية مما ترك لنا الأولون من عادات وخصال حميدة كانت يوماً ما مضرباً للأمثال فنتحصن بها ضد عادات وطباع غريبة وافدة لا تنسجم مع ما نشأنا عليه وتعودناه، فتسكن وتطمئن أرواح أولئك الأبرار.

{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون} صدق الله العظيم.
المقدمـــة

عندما تفضل حضرة صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح وشمل برعايته سباق الخيل من الجهراء إلى الكويت عام 1977، وكان سموه في ذلك الوقت ولياً للعهد، فإن تلك الرعاية الكريمة كانت ترمز إلى عواطف نبيلة ومعان كثيرة منها تقدير وإحياء ذكرى أولئك الأبطال الذين صمدوا في وجه الطغيان والعدوان وموجة الجهل والتعصب وذلك دفاعاً عن وطنهم وأهلهم وشرفهم وكان بين أولئك الصامدين اثنان من الفرسان الأبطال قاما بمغامرة أسطورية حيث اخترقا الحصار المضروب على القصر الأحمر عندما فتحت أبوابه بطرفة عين فانطلقا على جواديهما كالسهام المارقة وشقا صفوف الأعداء المحيطين بالقصر متجهين نحو مدينة الكويت طالبين المدد والنجدة من إخوانهم المرابطين عند الأسوار الداخلية للمدينة إلى المحاصرين في القصر الأحمر.

هذان البطلان هما مرشد بن طوالة الشمري ومرزوق بن متعب بن عبدالكريم ومن المؤكد أن نجاح تلك المغامرة قلب استراتيجية المعركة وحولها إلى صالح الكويت، حيث رفعت من معنويات الجماعة المحاصرة داخل القصر كما ثبطت عزيمة القوات الغازية ونشرت بينهم روح البلبلة والتردد وجعلتهم يحسبون حساب النجدات التي لا بد أنها آتية، وقد تبدل الحال فعلاً وجاءت الأمور بما لا يشتهي الأعداء كما سنرى (لقد كان الشيخ عبدالله الجابر الصباح المستشار الخاص لحضرة صاحب السمو أمير البلاد على رأس المحتفلين بيوم السباق وقد أدلى بحديث إلى جريدة (الفروسية) الأسبوعية أشاد فيه بشجاعة الفارسين البطلين وأهمية المغامرة الفذة التي قاما بها من أجل فك الحصار عن القصر وقد اشترك الشيخ عبدالله في معركة الجهراء وكان من بين المحاصرين داخل القصر -جريدة الفروسية الأسبوعية- العدد 58 - تاريخ 13/11/1977).

وبينما كانت الصحف ووسائل الإعلام من تلفزيون وإذاعة تنشر أخبار ذلك السباق في أواخر عام 1977 وإذا بالفكر يسرح في الماضي البعيد وإذا بي أستعيد ذكريات بعض تلك الأحداث أيام طفولتي من بناء السور إلى تلك الليلة السوداء التي لعلع فيها الرصاص فجأة وبكثافة وانتشرت الإشاعات بأن الغزاة من (الإخوان) اقتحموا سور الكويت الذي تم بناؤه في تلك الأيام وارتسمت في مخيلة الجموع الخائفة خاصة من النساء والأطفال صور البطش والقسوة التي اتصفت بها حروب تلك الأيام من قتل ونهب وسلب وعمت الفوضى داخل المدينة وهجر بعض الناس بيوتهم بحثاً عن مكان أكثر أمناً وكنت أنا وجدتي لأمي وحدنا في البيت ولم أكن قد أكملت الثامنة من عمري في ذلك الوقت. كان الليل في أول هزيعه وكانت ليلة مظلمة موحشة، وخرجت وجدتي من البيت وهي ممسكة بيدي بقوة مارين بتلك الأزقة المظلمة وكانت وجهتها بيت الشيخ يوسف بن عيسى القناعي حيث كانت والدتي هناك مع قسم كبير من العائلة وكنا ونحن في الطريق نشاهد عند أبواب المنازل بعض النساء والأطفال وقد ملأ الرعب قلوبهم.

وفجأة يتوقف إطلاق الرصاص، وتأتي الأخبار المطمئنة بأن إطلاق الرصاص كان من بعض بدو الكويت الذين اشتركوا في المعركة وقد عادوا ومعهم بعض الجرحى وقد ظنهم المدافعون عند السور بأنهم من الأعداء فتبادلوا معهم إطلاق النار لفترة قصيرة.
هذه الذكريات التي أثارها السباق المشار إليه أذكت عندي الرغبة في تدوين ما علق بالذاكرة في تلك الأيام، كما رأيت أن من الفائدة أن أتوسع في البحث وقد سبق لي الاطلاع على الكثير من المصادر حول هذه الأمور وأشباهها مما كان يجري في تلك الأيام وبعدها كذلك ما سمعته من شهود عيان. وبما أن لكل حادث هام مسببات تسبقه ونتائج تعقبه ثم تصبح حقائق ثابتة نتيجة لما حدث.
لذا كان لا بد للباحث من أن يعود للمسببات، فمن حق القارئ أن يلم بالموضوع من جميع أطرافه وقد بذلت ما أستطيع من جهد للاطلاع على كل ما وقع تحت يدي من مصادر عربية وأجنبية وما ذكر فيها من حجج وحجج مضادة لجميع الأطراف المعنية وآراء الأشخاص الذين أرخوا لها وقد نسبت كل حادثة أو رواية إلى مصدرها كما أبديت رأيي في بعض الأمور، كما دونت آراء بعض من شهدوا المعركة أو أرخوا لها. كما دونت آراء بعض من شهدوا المعركة أو أرخوا لها. وعلى القارئ اللبيب أن يستخلص الحقيقة حسب إدراكه واجتهاده. وإني إذ أقدم هذا البحث المتواضع فإني أعترف بالتقصير الذي لا يمكن تحاشيه مهما حاول الإنسان التقرب من الكمال الذي هو لله وحده، وقد كانت النية أن أدرج موضوع الجهراء في الكتاب الذي بدأت أدون فيه أهم ذكريات الماضي والذي سميته (مع قافلة الحياة) ولكني وجدت أن موضوع الجهراء اتسع وتشعب حسب تسلسل الأحداث مما أوجب التفكير في جعله في كتيب منفصل، حيث تداخلت الأمور بعضها في بعض ورأيت أن من الفائدة إحاطة القارئ علماً بكل ما اقترن بموضوع الجهراء من طرافة أحياناً ومن مآس وفواجع أحياناً كثيرة.
وحسب اعتقادي بأن الشيء الذي يستحق الاهتمام هو التوقف عند حياة البداوة وشح الطبيعة وقسوتها وقابلية الإنسان للتكيف والتطبع ملائمة للظروف مهما اشتدت قسوتها وقد جاءت تلك الحروب التي عرفناها منذ أيام الجاهلية كنتيجة طبيعية لحالات معيشية و اجتماعية أملتها ظروف معينة مع ما أقترن بها من عادات وتقاليد نبعت من طبيعة المنطقة. والآن وقد ذهب ذلك النوع من الحروب إلى غير رجعة فلم يبق مجال للخيل والليل والبيداء كما يقول المتنبي ولا حتى السيف والرمح. ومهما اتصفت به تلك الحروب من شدة وقسوة فإنها أشفق وأرحم من حروب هذه الأيام وما بعدها وقانا الله جميعاً من شرورها آمنين.

وقبل أن أختم هذه المقدمة لا بد من الإشارة بأن هناك معلومات وتقارير كثيرة تتعلق بتاريخ بلادنا موزعة ومدونة في سجلات الدول التي كانت لها علاقات ومصالح بالمنطقة وما نشر منها حتى الآن ما هو إلا أقل من القليل. وتتبع مثل هذه الأمور يحتاج إلى تخصص ومثابرة وصبر وطول أناة. لهذا فإني أهيب بالشباب المثقف من أبناء العروبة عامة وأبناء الكويت خاصة بأن يبذلوا المستطاع من الطاقة من أجل البحث عن تلك الكنوز المطمورة من المعلومات المدونة في سجلات تلك الدول والتي أصبح الاطلاع عليها مباحة للدارسين والباحثين، بعد أن فقدت تلك المعلومات طابعها السري بمرور الزمن. وقد يجد الباحث في تلك الوثائق معلومات جديدة وحقائق ربما تختلف عن بعض ما هو شائع ومتداول الآن. فالبحث عن الحقيقة هو الهدف الأمثل. وفوق كل ذي علم عليم والله ولي التوفيق.

بدر خالد البدر
الكويت في: 25 جمادي الأولى 1400هـ 11 إبريل (نيسان) 1980م


الجهراء قديماً وحديثاً
والحديث عن الجهراء يجر إلى الحديث عن كاظمة حيث لا يمكن فصل الإسمين أو الموقعين عن بعضهما البعض ومن الثابت والمؤكد أنهما اسمان لمكان واحد كما تدل كل المعطيات التاريخية والجغرافية التي تتحدث عن المنطقة ولا أريد هنا أن أعيد وأكرر ما ذكره اثنان من أبناء الكويت في مؤلفين لهما أولهما السيد أحمد البشر الرومي الذي نشر مقالاته في كتيب عام 1966 وتطرق فيه إلى موضوع كاظمة والجهراء بإسهاب والثاني هو السيد يعقوب يوسف الغنيم وكيل وزارة التربية حالياً بكتابه المسمى "كاظمة في الأدب والتاريخ" والذي صدر عام 1958 وحيث أني أفترض أن الكثيرين من القراء لم تسمح لهم الظروف بالإطلاع على هذين الكتابين، فأود أن أشير بإيجاز لبعض ما جاء فيهما وفي غيرهما من المراجع التي اطلعت عليها إتماماً للفائدة.

لقد جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي ذكر كاظمة في عدة مناسبات وأنها على الطريق بين البحرين والبصرة كما ذكرها الهمداني في كتابه "صفة جزيرة العرب" وفيما ذكره أن سفوان (سفوان أو صفوان مركز نقطة الحدود العراقية المقابلة لحدود الكويت في منطقة العبدلي) وكاظمة هما حدود جزيرة العرب من الشرق. كما ذكر كاظمة بعض شعراء العرب وسموها كاظمة البحور لقربها من البحر ولتميزها عن موقع آخر بهذا الاسم بالقرب من المدينة المنورة. وكانت قبيلة بني تميم المشهورة تسكن في المنطقة وقد تغنى شاعرهم المشهور الفرزدق وغيره من الشعراء بكاظمة في مناسبات عديدة. ومعركة "ذات السلاسل" المشهورة بقيادة خالد بن الوليد وجيوش الفرس بقيادة هرمز سنة 12 للهجرة والتي كما هو معروف انتهت بانتصار المسلمين وفتح العراق وبناء مدينة البصرة فيما بعد وذلك في عام 15هـ في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
إن أي موقع إستراتيجي بهذه الأهمية لا يمكن أن يشتمل على مكان محدود لكاظمة كما نعرفها اليوم. حيث من المؤكد أن تكون المنطقة بأسرها بما فيها من آبار المياه في الجهراء التي لها أهميتها في سوق الجيوش وطرق القوافل وجميع التحركات الصحراوية على كافة المستويات هي كاظمة كما كانت تعرف في تلك الأيام.

ولنعود إلى إسم الجهراء ثانية حيث ذكرها الرحالة الدنماركي والألماني الأصل كارستن نيبور عندما زار الخليج ورسم خارطة له في عام 1765م. فقد أشار إلى المكان بـ "خرائب الجهراء". أما بعض الخرائط الأجنبية الأخرى القديمة فقد ذكرت كاظمة أو خليج كاظمة ولم يأت ذكر الجهراء. أما كتاب "لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب" والذي كتبه حسن بن جمال بن أحمد الريكي عام 1233هـ والذي حققه الدكتور أحمد أبو حاكمة وطبع عام 1967م فقد جاء في الصفحة 154-155 ما يلي "وأعلم أيضاً أن العدان وهجر وقطر وكلها من أرض بني خالد وقد عرفت طولها بالحد المذكور من الكويت إلى خيران بني ياس فنخبرك أن من وراء الكويت إلى جانب الغرب عنها بيوم الجهرة وهي على ساحل البحر بفرسخين إلى جانب الغرب مائلاً إلى القبلة وأرض الجهرة عالية جداً بحيث كل من كان فيها يرى السفن التي تتردد على البحر الذي يحاذي الكويت والذي في فيلكة. وقد كانت الجهراء في عصر الجاهلية قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم بسنين تبلغ مائة، في غاية العمران وهذه آثارها تدل على عظمتها اليوم. فإن فيها خرابات كثيرة من البنيان، وربما وجدوا ذخاير من الدراهم والدنانير في بعض المواضع، وهي أرض طولها فرسخان شمالاً وجنوباً وعرضها فرسخ غرباً وشرقاً. بنتها التمام غالباً وأرضها من قبيل حصص البحر وفيها مياه عذبة وبئرها قدر باع واحد، وحولها من جميع الأطراف أرض سبخة على فرسخين من جانب الشمال حتى تصل بسنام وإلى الشرق حتى تصل البحر كذلك. وإلى جانب الغرب إلى جهة القبلة قليلاً أرض السبخ، قدر فرسخ وإلى الجنوب نحو الكويت تبلغ نصف فرسخ" انتهى.

ومما جاء ذكره أعلاه فإنه أصبح من الواضح أن كاظمة والجهراء اسمان أطلقا في فترات من الزمن على موقع واحد وهذا شئ طبيعي يحدث ويتكرر في كل زمان ومكان. وقد حدث هذا للكويت فهناك تقارير ومخطوطات وخرائط تشير إلى "القرين" بدلاً من الكويت (بعض مراسلات وتقارير شركة الهند الشرقية تشير إلى شيخ القرين عندما يأتي ذكر الشيخ عبدالله بن صباح الحاكم الثاني للكويت 1762–1814) ثم تكرر الاسمان على بعض الخرائط ومنها خارطة (كارستن نيبور) المشار إليها إلى أن غلب اسم الكويت وطغى على الاسم الآخر واستدل على ذلك بمخطوط اطلعت عليه عند المرحوم الشيخ يوسف بن عيسى القناعي والمخطوط مضى عليه أكثر من مئتي سنة ويذكر كاتبه اسمه كالآتي "تم الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه على يد الفقير عثمان بن علي بن محمد بن سري الجناعي نسباً والشافعي مذهباً والقرين مولداً (بيت بن سري هو البيت الذي تنتمي إليه عائلة البدر وعائلة العيسى من القناعات).

ويتضح مما تقدم بأن الكويت راسخة القدم في التاريخ البعيد وليس كما عرفها بعضهم مع تدفق النفط. فقد ارتوت جيوش المسلمين من آبار الجهراء عند زحفهم على العراق وبلاد فارس كما رست قبل ذلك أساطيل الإسكندر في جزيرة فيلكا عند عودتها من حملة فتح الهند كما تشهد بذلك آثار الجزيرة التي اكتشفت عام 1958.
أما تاريخ الكويت الحديث فقد بدأ في النصف الأول من القرن الثامن عشر عندما انحسر نفوذ بني خالد عن المنطقة واستطاع التجمع القبلي المسمى بالعتوب أن يتحرروا من نفوذ بني خالد وأن يؤمروا عليهم بعد ذلك صباح بن جابر أو صباح الأول كما ير فيما بعد، وذلك حوالي عام 1756 للميلاد. وقد أكدت جميع المصادر التاريخية العربية منها أو الأجنبية هذه الحقيقة.

لقد برزت أهمية الكويت في ذلك الوقت كمركز للتجارة ما ورد منها من البحر أو البر نظراً لمركزها الممتاز على رأس الخليج ومينائها العميق الصالح للملاحة واهتمام سكانها ببناء السفن سواء ما كان منها لنقل البضائع أو ما خصص للغوص على اللؤلؤ في السواحل الكويتية أو مغاصات الخليج العربي الأخرى.
كذلك فان النهضة الصناعية التي شملت أوربا مع البحث عن أسواق جديدة للتبادل التجاري التي تحول إلي البحث عن مناطق نفوذ للدول العظمى. كل هذه الأسباب مجتمعة أظهرت أهمية الكويت كمركز تجاري واستراتيجي وكانت الكويت لقربها من ميناء البصرة الهام تقوم بنفس الدور ولو على نطاق أقل لا سيما عند حدوث الأزمات في جنوب العراق وأحد الأمثلة على ذلك هو عندما احتل الفرس البصرة لمدة ثلاث سنوات من 1766م الى 1779م حيث انتقل قسم كبير من تجار البصرة الى الكويت بالنظر لما كانت تنعم به من طمأنينة وأمان في ذلك الوقت كما ازدادت أهمية الكويت الاستراتيجية والتجارية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عندما بلغ تنافس الدول على مناطق النفوذ ذروته وكان ذلك أيام تولي الشيخ مبارك دفة الحكم في الكويت كما سنرى في الفصول القادمة.


مبارك وابن السعود
عندما تولى الشيخ مبارك السلطة في عام 1896م كان الأمير عبدالرحمن آل السعود وابنه عبدالعزيز وبعض أفراد العائلة مقيمين في الكويت وذلك نتيجة للخصام الذي حدث بين عائلة آل السعود أثناء حكمهم في الرياض حيث استغل أمير حائل محمد بن الرشيد تلك الخصومات واحتل الرياض ونصب عليها أميرا من عنده فاضطر الأمير عبدالرحمن أن يرحل ويأتي لاجئاً إلى منطقة الخليج ثم الى الكويت وذلك عام 1359هـ 1891م وكان الأمير عبدالعزيز في الحادية عشر من عمره في ذلك الوقت.

ولنترك الأمير الشاب قابعاً مع عائلته في أحد بيوت الكويت المتواضعة ونتجه نحو الشيخ مبارك الذي بدأ في صراع مع الأحداث منذ توليه السلطة ولكنه استطاع بدهائه ورباطة جأشه أن يتحدى المشاكل المحيطة به وقد طلب من الانجليز في بداية حكمه أن يعقدوا معه معاهدة حماية وصداقة شبيهة بتلك المعاهدات التي عقدتها بريطانيا مع شيوخ الخليج ولكن بريطانيا ترددت في تحقيق رغبته تجنباً لإثارة الشكوك بينها وبين الدولة (العلية) العثمانية حيث كان لبريطانيا نفوذ كبير في جنوب العراق بالاضافة الى سيطرتها الكاملة على الخليج. وكانت مكتفية بهذا القدر من النفوذ على حساب الدولة العثمانية.

وتمر الأحداث بسرعة وتشعر بريطانيا أن من مصلحتها الاتفاق مع مبارك بعد أن تبين لها قدرته الفائقة على الصمود في وجه التحديات مع ظهور التصدع والتخلخل في نفوذ الامبراطورية العثمانية في المنطقة بصورة لا تدع مجالاً للشك بعد أن استمرت أربعة قرون عن طريق القوة العسكرية مدعومة بالنفوذ الديني حيث كانت اسطنبول أو الأستانة عاصمة الخلافة الإسلامية والتي يجب أن تكون عاصمة جميع المسلمين. لقد استطاع مبارك في خضم تلك الظروف أن يشق عصى الطاعة على الأتراك محافظاً على شيء من النفوذ الاسمي لحفظ ماء الوجه وحتى لا يقال بأنه أدار ظهره للمسلمين وبدأ يتعاون مع (الكفار) كما كان ينظر لغير المسلمين في ذلك الوقت وهكذا رأت بريطانيا أنه حان الوقت لأن تعيد النظر في علاقتها مع الشيخ مبارك بعد أن ظهرت التحديات لها في المنطقة فألمانيا تريد مد سكة حديد برلين بغداد التي ستصل إلى الكويت في مرحلتها الأخيرة كما بدأت روسيا القيصرية تدلي بدلوها في المنطقة بسبب نفوذها وعلاقتها المتينة مع إيران أو بلاد فارس كما كانت تسمى آنذاك، وذلك من أجل الوصول إلى المياه الدافئة من الخليج، وهكذا رأينا بريطانيا تسارع إلى عقد المعاهدة مع الشيخ مبارك عام 1899م كما هو معروف بعد أن كانت مترددة طيلة أربع سنوات منذ بداية حكمه وقد ظلت بنود المعاهدة سرية إلا أن تركيا عرفت بها فيما بعد فاستشاطت غضباً ولكنها أعجز من أن تقوم بأي عمل ضد مبارك أو ضد بريطانيا واكتفت بأن يستمر الشيخ مبارك يرفع الراية العثمانية فوق قصره اعترافاً (بولائه) للدولة العلية (لقد طلبت بريطانيا من الشيخ مبارك -كما يقول لوريمر- أن يبدل علمه ولكنه فضل إبقاءه على حاله على اعتبار أنه رمز إسلامي على الرغم من المضايقات التي كانت تلقاها السفن الكويتية من السلطات الإيرانية عند مرورها بموانئها، وعندما أنزل الإنجليز قواتهم في البصرة في بداية الحرب - نوفمبر 1914 الذي أدى إلى انسحاب الأتراك من منطقة شط العرب، أبدلت الكويت علمها بعلم قاعدته حمراء كتبت داخلها كلمة (كويت) باللون الأبيض واستمر رفع هذا العلم على السفن الكويتية والدوائر الرسمية حتى عام 1962 حيث تم إبداله بالعلم الحالي ذي الألوان الأربعة تمشياً مع قول الشاعر: بيض صنائعنا خضر مرابعنا سود وقائعنا حمر مواضينا) ثم يأتي عام 1913 وتعقد بريطانيا وتركيا اتفاقيتها المشهورة في المنطقة والتي حالت الحرب العالمية دون التصديق عليها نهائياً والتي بموجبها تم تحديد منطقة نفوذ الشيخ مبارك على الأرض وعلى القبائل والتي تمتد من قرب سفوان وأم قصر شمالاً إلى ما وراء الحفر والقرعة غرباً حتى بليبيل وجبل منيفة جنوباً. ويقول المؤرخ الكبير ساطع الحصري الخبير في الشئون التركية والعربية عن هذه المعاهدة في كتابه "البلاد العربية والدولة العثمانية" أن اتفاقية 29 يوليو تموز 1913 التي تم الاتفاق فيها على أمور كثيرة تخص الجزيرة العربية والخليج وبخصوص الكويت بين الحكومتين البريطانية والعثمانية "الكويت تبقى تحت سيادة الدولة العثمانية ولكن الدولة لا تتدخل في شئونها بأية وسيلة ولا ترسل إليها جنوداً. وجاء في بيان سري أن شئون الكويت تشمل الداخلية والخارجية كما تعترف الدولة العثمانية بالاتفاقيات التي سبق أن عقدها شيخ الكويت مع بريطانيا".

ويضيف الأستاذ الحصري "بأن عدم تدخل الدولة العثمانية في شؤون الكويت الداخلية والخارجية لم يترك في الكويت أي أثر للسيادة العثمانية سوى كلمة السيادة (البلاد العربية والدولة العثمانية صفحة 256 - دار العلم للملايين 1960 الطبعة الثانية بيروت).
وعلى الذين ينتقدون تلك المعاهدة التي وقعت بين الشيخ مبارك والحكومة البريطانية، أن لا ينظروا إليها بمقاييس هذه الأيام بل عليهم العودة ثمانين عاماً الى الوراء ويطلعوا على ظروف وملابسات تلك الأيام ليكون حكمهم واقعياً وصحيحاً.
والآن لنعود قليلا الى الوراء ونتذكر ذلك الشاب الذي تركناه في ذلك البيت المتواضع من بيوت الكويت يقاسي هو وعائلته ويلات التشرد والحرمان، علماً بأن تلك الظروف الصعبة لم تثن قناته ولم تجعله يستسلم لليأس ليكون نسياً منسياً.

لقد كان تعلقه وحبه لبلاده يزداد مع الأيام وقد أشرف الآن على العشرين من عمره وازداد معرفة بظروف بلاده وتاريخها ثم أدرك أن هناك من يتعاطف معه ويلتقي وإياه في التربص بالعدو المشترك فقد تجاوبت أفكاره وآماله بأفكاره وآمال والده الروحي الذي هيأت له المعاهدة مع بريطانيا آفاقاً جديدة من القوة والثقة بالنفس.
فالخصم المشترك هو أمير حائل ورئيس قبائل شمر عبدالعزيز بن متعب الرشيد أشهر من عرفت الجزيرة العربية في تاريخها المعاصر في شدة البأس والقسوة في معاملة الخصوم، يقول عنه الريحاني (هو أمين الريحاني ويسمى فيلسوف الفريكة نسبة إلى بلدته في لبنان وهو المؤرخ و الأديب المعروف مؤلف كتاب تاريخ نجد. وكتاب وملوك العرب الذي خصص منه فصلا عن الكويت حيث نزل في ضيافة المرحوم الشيخ أحمد الجابر عام 1924. وكان مقرباً من السلطان عبدالعزيز آل سعود ونقل عن لسانه الكثير مما دونه عن نجد و تاربخها وعلاقتها بالبلاد المجاورة) "كان جباراً عتياً لا أثر للخوف في قلبه ولا شيء من الرحمة والحنان، وقد كان فوق ذلك قطوباً عبوساً، يشد عقاله فوق عينيه وكوفيته على فمه فسمي العبوس الملثم، قلما كان يبتسم بل قلما كان يكشف وجهه كله للناس". وقد تولى الحكم بعد وفاة محمد الرشيد عام 1897.

وبدأ الاستعداد لمقارعة العدو المشترك وحدثت عدة مناوشات ومصادمات مع ابن الرشيد ولكن أهمها كانت معركة (الصريف) المشهورة التي انتهت بانتصار ابن الرشيدعام 1901م.
كانت هزيمة الصريف صدمة عنيفة لكل من مبارك وابن السعود ولكن ذلك النموذج في الرجال لا تفت من عضده خسارة معركة. وكما قال أبو الطيب المتنبي:

وإذا كانت النفوس كبار ,, تعبت في مرادها الأجسام


فقبل انتهاء ذلك العام قرر الأمير الشاب الخروج ثانية ولكن دون أن يلفت انتباه أحد واكتفى بأربعين شخصاً من أقربائه وأنصاره وهم أشبه ما يكونوا بالفرق الانتحارية في هذه الأيام وقد زودهم الشيخ مبارك كما يذكر أمين الريحاني بأربعين ذلولاً (وهى الناقة المعدة للركوب) وثلاثين بندقية ومئتي ريال وبعض الزاد. وسارت هذه المجموعة المغامرة واقتحمت قصر أمير الرياض المعين من قبل ابن الرشيد واسمه عجلان. وقصة اقتحام القصر معروفة وهي أشبه بقصص الأساطير الخيالية وأحياناً تكون الحقيقة أغرب من الخيال كما يقولون وكان ذلك في الخامس من شوال عام 1319هـ الموافق الخامس عشر من شهر يناير (كانون الثاني) 1902م.
__________________
رد مع اقتباس