عرض مشاركة واحدة
  #19  
قديم 31-05-2010, 06:08 PM
أبوفارس111 أبوفارس111 غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Aug 2009
المشاركات: 299
افتراضي

في رثاء الوالد محمد الرشيد

«بشت» أبوي

أتذكر حين كنت اندس ملتصقا بوالدي تحت بشته «اليبر» في ليالي «الوفرة» الباردة، كان بشته فضاء رحيبا بالنسبة لي، كان دفء البشت ورائحة أبي هما الأمان والملجأ من مخاوف عتمة الليل وصوت عويل كان يقطع سكون تلك المنطقة التي لم تكن مأهولة بعد.

في احدى الليالي، كنت اسير معه الى المسجد لصلاة الفجر وأنا في العاشرة من عمري، والسكون يلف شوارع الضاحية، كان أبي يسير على الشارع ممسكا بيدي وأنا فوق الرصيف، باغته، فتبادلنا الأماكن، سألني: شفيك؟ فقلت: يبا لو تدعمني سيارة عندك عيال غيري، بس لو يصير فيك شي ما عندنا أبو إلا انت. «فلتحيا»، قالها وأنا أكاد أطير فرحا، فكم كنت واخوتي نتسابق لنيل ثنائه.

لم يحصل والدي محمد أحمد الرشيد على شهادة دراسية ولكنه خريج مدرسة الحياة، ركب البحر صيفا مع سائر أبناء جيله فوق سفن شراعية بسيطة بحثا عن اللؤلؤ في أعماق البحار، وأبحر شتاء فوق ظهر المراكب الكويتية التي كان الناس ينتظرونها عند كل «بندر» ليبحلقوا برجالها السمر الجسورين، ومع ذلك حرص والدي على تعليمنا ولكن شتان ما بين جيلنا المتعلم الجاهل.. وبين جيلهم «الأمي» المتعلم!

قدم والدي أول استجواب في تاريخ الحياة البرلمانية للعم المرحوم عبدالله مشاري الروضان، وانتهى الاستجواب في مكتب الوزير إذ جمعهما العم صالح العجيري وتمت الإجابة عن استفسارات الوالد وتم تدوين ملاحظاته، فرجع والدي الى المجلس وسحب استجوابه، وقدر لأول استجواب في تاريخ الكويت ان يكون نموذجا لروحية التعاون التي كانت سائدة بين الكويتيين آنذاك، لم يكن النائب يخشى «قواعده» بقدر خشيته لضميره!

كان شهما، ذا مروءة، لا يخالف القانون، ولا يرتضي الظلم، كان عنيفا في معارضته دون تجريح، لا يفجر في خصومة، ولا يعقد الصفقات، حتى في موته لم يشأ ان يستفيد من أحد، أوصانا بشراء الكفن والسدر والكافور والطيب من ماله الخاص، هكذا كان.

غسلت والدي مع اخواني، تسابقنا على تقبيل رأسه ويده، قبلت آثار الكي التي وسم بها في صدره بعد رحلة غوص شاقة، طبعت على رأسه قبلة وداعية أخيرة، واغلقت الكفن، وغطيته للمرة الأولى في «بشتي»، وبكيت جيلا من رجالات الكويت لن يعوّض.

آه، كم بدا «بشتي» صغيرا ذلك اليوم.

بقلم: د.أنس محمد الرشيد
الاثنين 31 مايو 2010 - جريدة الأنباء
رد مع اقتباس